أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/1557.jpg&w=220&q=100&f=webp

جاسر عبدالله الحربش

تجليات ما قبل أذان المغرب

ربما بسبب انخفاض السكر قبل موعد الإفطار أو قرصة الجوع في الأمعاء داهمتني رغبة عارمة لتفريغ بعض فذلكات تدور وتطن في الرأس. تجلياتي في ساعات الجوع كثيرة ومتنوعة، بعضها ينبش فيما مضى من مسيرتي الطبية بعد أن تقاعدت، وبعضها يتعلق بأخبار العالم اليومية المزعجة، وكانت هذه المرة سيبويهية لغوية. إنها نوبات تعاودني مثل نوبات الصرع، منها ما هو اشتقاق مسميات الظواهر والأشياء وجذور التسميات منذ نطق العربي الأول وصار له لغة ولسان.

أستعرض منكم هنا تجليتان عن كلمة «صحراء» وكلمة «عرب». في مركز ما من القشرة الدماغية اليسرى في رأسي ضج التساؤل أليست كلمة صحراء اشتقاقاً من الفعل صحا والفعل رأى. تخيلت ذات صباح قبل آلاف السنين عندما صحا البدوي الأول في صحرائه الشاسعة ولم يكن له من قبل قاموس لغوي للظواهر والأشياء في دماغه. تلفت مراراً في الجهات الأربع من حوله فرآه كله على مد النظر رمالاً وجبالاً وتلالاً. تنهد مرتاحاً حين ألهمه الخالق أولى مسميات المكان قبل الزمان، ولأنه صحا أولاً ثم رأى قال لنفسه أسمي هذا المكان صحراء. لقنها لصاحبته ثم لقنها فيما بعد للخلف من البنين والبنات. بعد بضع سنين حصل لذلك البدوي الأول نفس النضج الفكري الذي حدث للفتى حي بن يقظان في فلسفة ابن طفيل. التأمل في الأفلاك والأنواء والجماد والحيوان والبدايات والنهايات هدته إلى حتمية ارتباط هذه الأشياء والظواهر بخالق أوجدها من العدم.

بمرور الزمان وفعل التكاثر تكوّنت تجمعات صحراوية متناثرة تتحارب وتتعايش، تقايض وتتبادل المنافع ثم أدركت ما يجب على المخلوقات بالضرورة تجاه الخالق. فتم الإدراك بوجود «رب» ولكل ناطق من مخلوقاته عبد رب. من تعاقب الحقب والأزمنة وتبادل الألسنة تحولت كلمة عبد رب إلى عرب.

هكذا إذاً خيل إلي تفذلكاً أن مسمى عرب اشتقاق من عبد رب ومسمى صحراء من صحا ورأى. فيما بعد بعدة قرون أنزل الرب بقلوب العرب أن يسموا خالقهم «الله»، ثم للعبرانيين بعدهم بقرون أن يسموه «إيل» أو «إيلوهم» واتخذوا مسمى بني إسرائيل تمايزاً لأنفسهم عن العرب عبيد الرب. مع آذان المغرب انطفأ التفذلك وقمت لمائدة الإفطار.
00:15 | 19-04-2023

متلازمة كل تنمية وطنية

المتلازمة مصطلح عريق في العلوم الطبية. تزامن أعراض محددة لاعتلال صحي تضمن تشخيص ذلك الاعتلال؛ كمثال إذا تزامن النهم الشديد لشرب الماء وفرط التبول ووجود المادة الكيتونية في تحليل البول يصبح تشخيص الإصابة بمرض السكري مضموناً حتى قبل استكمال الفحوصات المخبرية. أستعير هنا مصطلح المتلازمة من الطب لاستعمالها في مجال التنمية.

أحسب أن كل تنمية وطن طموح تشبه كثيراً التعامل الطبي مع المريض. المرض أشكال وأنواع ودرجات وكذلك الحاجات التنموية والنواقص إن وجدت. بوجه عام توجد في التعامل الطبي مع المرض أربعة عناصر متلازمة؛ مريض يحتاج تنمية صحية لاستعادة لياقته ورفع قدراته ومعنوياته، وهذا عنصر المتلازمة الأول من الأربعة. العنصر الثاني هو الطاقم الصحي المؤهل علمياً وتقنياً وفكرياً، ويمثل المتلازمة العلمية. العنصر الثالث هو الأسرة بما تستطيع تقديمه من دعم مالي ومعنوي، وتمثل عنصر الأخلاق. وأخيراً السلطات الصحية التي تتجمع عندها المعلومات الميدانية عن الأحوال الصحية، وتنطلق منها التعليمات والأنظمة والوقاية والرقابة وسد الثغرات المالية.

الخطط الوطنية التنموية لا تختلف كثيراً في مسألة تلازم العناصر الأربعة. الوطن يحتاج باستمرار للتنمية في مجالات العلوم الفكرية والتقنيات والأبحاث، وهذه تماثل دور الطاقم الطبي وتجهيزاته. المواطن (بالتكتل الجمعي) هو الأسرة الوطنية الكبيرة، وعليه ومنه وله ولأجله تركز كل الجهود لرفع لياقته الإنتاجية والإبداعية والأخلاقية. العنصر المتربع على رأس الهرم التنموي هو الدولة بجهازها الحكومي المركزي والطرفي، بما تملكه من تدفق وتجميع ومعالجة المعلومات ثم تسييلها في الاتجاه التطبيقي التنموي.

ثمة من قد يسأل لماذا أربعة عناصر وليس ثلاثة أو خمسة أو أقل أو أكثر. الوطن هو الأمن الجسدي والمعنوي ومصدر الثروات البشرية والمادية. العلوم والتقنيات والأبحاث هي وسائل وأدوات التطوير. المواطن بالمعنى الجمعي هو أجيال الحاضر التي تحمل وصفة الاستمرار والبقاء لأجيال الأجداد والآباء والأحفاد. الدولة ومؤسساتها هي المجلس الأعلى للتخطيط حسب مقتضى الأحوال وصمام الأمن والعدالة والأخلاق، هي الحكم والرقيب إليها تتدفق المعلومات ومنها تسيل التعليمات. هل تحتاج التنمية إلى عنصر خامس؟

ما كتبته أعلاه خواطر ومقارنات طبيب مخضرم لا أكثر، وتحتاج إلى النقض والحذف والإضافة من العقول والتخصصات المختلفة. باختصار: عناصر متلازمة التنمية الأربعة هي الوطن الجغرافي والعلم المستنير والمواطن الأخلاقي المغروس بجذوره في الأرض والممتد بأغصانه وأوراقه وثماره نحو السماء، والدولة الوطنية هي الحاكم والمخطط والحكم. لدينا بحمد الله وفرة في كل العناصر الأربعة والطموح لا حدود له.
00:09 | 5-02-2023

خالعة ومخلوع وطفل مفجوع

إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، توجيه رباني تعلمناه في المدارس والبيوت. أبغض الحلال عند الله الطلاق، ويحق للمرأة إن كرهت شيئاً من زوجها أن تخلعه بمقابل، ولكن إذا كان الطلاق هو أبغض الحلال عند الله فهل يكون الخلع مقابل عوض مالي أقل بغضاً عند الله؟ حقير من يطلّق زوجة فاضلة دون ذنب ارتكبته، وأحقر منه من يرفض إطلاق سراح زوجته إن هي طلبت ذلك منه، والأشد حقارة هو الذي يقبل أن تخلعه الزوجة مقابل عوض مادي. هذا عن الزوج.. فماذا عن الزوجة؟

هل يستطيع عاقل إنكار النسب التصاعدية للعنوسة الطوعية المزدوجة رغم القدرة على الزواج، أو نسب الطلاق والخلع المفجعة التي يمر بها المجتمع في الفترة الحالية حسب الإحصاءات الرسمية؟ مبررات الطلاق التراثية القديمة كحق للرجل كانت محددة بأسباب يتفاهم العرف الاجتماعي على قبولها، لكنها للأسف تحولت مع مغريات الحياة الحديثة وموبقاتها أحياناً إلى نزوات ذكورية لئيمة. أعرف أن تعامل المحاكم الشرعية مع مثل هذه الجموحات الذكورية الطارئة على المجتمع صار أكثر تفحصاً لكل حالة على حدة، وأن محاولات النصح والمصالحة نفعت في كثير من الحالات. في حالات جنوح ونزوات الزوج يصبح (على ما أعتقد) من حق الزوجة الشرعي المطلق أن تطلب هي الانفصال رغم أنف الزوج الجانح ودون تعويض. الطلاق القسري في هذه الحالات شرعي ولا يعتبر خلعاً بل هو حق للزوجة وحماية للأطفال وحقوقهم في البيت والإنفاق. الطارئ الجديد على المجتمع ويهدد البيئة الاجتماعية كلها لم يعد الطلاق السائب حسب رغبة الرجل، وإنما تكاثر حالات الخلع مقابل المال بطلب من الزوجة دون أسباب معيبة في الزوج. في حالات متكررة وممجوجة قد تقيم الزوجة الخالعة حفلة رقص وطرب وموائد وتهان بالمناسبة البائسة. المفترض هنا أن تفهم مثل هذه الخالعة المحتفلة أن المناسبة عندما تحصل على حقها الشرعي أن تحمد الله وتشكره وتطلب الستر أو أن تسأل الله أن يعوضها خيراً من الذي خلعته، لا أن تحتفل وترقص.

ولكن ما هي الأسباب التي تجعل الزوجة الأم لطفل أو أكثر تطلب الخلع بمقابل مادي تدفعه للمخلوع؟ الحالات لا تخرج عن أربعة احتمالات. إما أن الزوج فاسد لا أمل في صلاحه ويشكل خطراً عليها وعلى الأطفال، أو أنها تعرضت للتخبيب من آخرين أفسد من زوجها، أو أنها استغنت وظيفياً وفهمت الحريات الشخصية كرديف للاستمتاع الجسدي وإلقاء المسؤولية الاجتماعية في سلة المهملات، أو أن رجلاً آخر لعب بعقلها بطريقة الاتصالات السرية وأطمعها بالزواج بعد طلاقها من زوجها وقد خطط لافتراسها الجنسي والاستحواذ على الراتب.

شخصياً لا أعتقد أن أغلب حالات الخلع في الحياة الجديدة كافية لتيتيم الأطفال وهدم البيوت لاعتبارات فساد أو تنمر أو تعنيف ذكوري فقط لا غير.

وفي خاتمة المقال سؤالان:

أولاً: هل يستطيع أي مجتمع سوي أن يضحي بتراث المروءات المتوارثة وتحكيم عقلاء الطرفين، لصالح الانغماس في الإمكانات المادية الوظيفية ومغريات الحريات الشخصية؟

وثانياً وهذا هو الأهم: هل المسكوت عنه ظلماً وعدواناً في حالة الطلاق أو الخلع التعسفي هو الظلم الفادح الواقع على الأطفال كثروا أو قلوا، وفواجع التعايش مع انكسار وتهدم ما كان يعتبر لهم الأمن والأمان حتى يفرق الوالدين الموت؟

الضياع والمخدرات والتعرض للاستغلال بأنواعه أقرب إلى أطفال الطلاق والخلع التعسفي من غيرهم، والله المستعان.
00:00 | 17-01-2023

لا أخيار ولا أبناء عمومة.. بل خزر أشكناز عنصريون

الحقيقة المعروفة في تاريخ الأمم والأديان، والمغيبة بسطوة القوة المالية والإعلامية هي أن اليهود الغربيين ليسوا ساميين، بل خزر أشكناز أوروبيون بيض رضعوا العنصرية العرقية من الشعوب الأوروبية التي توزعوا وعاشوا بينها كأقليات دينية.

يقول الحقوقي اليهودي المحترم جدعون ليفي (المكروه والمضطهد عند أهله وديانته) إنه أثناء أحد حصارات مدينة جنين المتكررة من قبل الجيش الإسرائيلي لاحظ منع الجنود سيارات وطواقم الإسعاف الطبي الفلسطيني من دخول المدينة لإجلاء وإخلاء الجرحى والموتى، مما يعني تركهم يموتون في أماكن الإصابات. يقول ليفي طلبت من الجنود وقائدهم السماح لي كيهودي إسرائيلي الدخول إلى المدينة فسألوني لماذا تريد الدخول، وأجبتهم لتفقد أحوال هؤلاء المصابين فهم أيضاً بشر مثلكم. يقول جدعون ليفي فجأة احتقنت أوداجهم بفائض الغضب وجحظت عيونهم وصرخ أكثر من واحد في وجهي كيف تجرؤ على مقارنة هؤلاء الحيوانات العرب بنا نحن وأنت يهودي؟.

يستنتج جدعون ليفي الحقوقي المحترم (النادر الوجود في مجتمعه) أن كيان دولة إسرائيل فاشي عنصري ولن يتوصل إلى حل الدولتين ولا إلى الاعتراف بأقل الحقوق للفلسطينيين العرب والدروز. (انتهى الاستشهاد من جدعون ليفي).

جمعتني قبل أيام قليلة جلسة نقاش حاد في ضيافة صديق كريم، وكان الحاضرون في حدود العشرة أشخاص وكلهم من الشخصيات المحسوبة على الثقافة الاعتبارية العالية ويتمتع كل واحد منهم دون استثناء بقدر كبير من النجاح والاستقرار المالي والعائلي والاجتماعي. احتدم النقاش الصاخب حول المنطقة العربية الإسلامية (ونحن منها بمنزلة القلب والروح) ومستقبلها مع الصراع الثلاثي الشرس: الفارسي العربي، الصهيوني الفارسي، والصهيوني العربي.

كانت دهشتي إزاء ما سمعته ولم أكن أتوقعه من بعض الحضور لا تقل عن دهشتي وانزعاج جدعون ليفي إزاء عنصرية وفاشية كتيبة الجنود الإسرائيليين التي كانت تحاصر مدينة جنين وتمنع عنهم الإسعاف والإخلاء. الحقوقي الإنسان جدعون ليفي لم يكن يتوقع تصنيف جنود دولته التي تدعي الديموقراطية الوحيدة في المنطقة للعرب كحيوانات لا تصح مقارنتهم بالبشر اليهود. لكن الحضور في حديثنا الصاخب كانوا يعون جيداً ما يلقن للإسرائيليين في فلسطين المحتلة من الفقه التلمودي عن الأخيار والأغيار. التوراة عند اليهود نص تعبدي في المقام الأول، والتلمود عندهم هو الفقه التشريعي السياسي المحدد لعلاقاتهم مع غيرهم من خلق الله. الفقه التلمودي اليهودي يقول ما معناه أن كل أرض تطؤها قدمك يا ابن إسرائيل هي ملك لك، أهلها عبيد ونساؤها جواري وماشيتها وثمارها لك، فأنتم يا أبناء إسرائيل حين خلقكم الله جعلكم الأخيار الأسياد على الأغيار.

أزعجني أن بعض الحضور في نقاشنا ذاك زايد لتحسين الواقع العنصري الإسرائيلي وهو يعرف ويدرك أصوله بالزعم أن اليهود أبناء عمومة ساميون مثل العرب وأن التعايش والتعاون معهم قادم لا محالة ومسألة وقت، كضرورة لحماية المنطقة العربية من تغوّل الفرس وأطماعهم القومية المتنكرة بالتأسلم المذهبي الخاص.

لم تنفع المحاججة بأن خرافة أولاد العمومة والأصول الإبراهيمية مجرد حيلة تنكرية خزرية اشكنازية من العصور الوسطى الأوروبية. هؤلاء الغزاة في فلسطين لا هم عبرانيون ولا إسرائيليون ولا يجمعهم مع العرب أنساب عمومة ولا خؤولة مشتركة باستثناء الأقليات من يهود السفارديم الشرقيين اليمنيين واليهود المغاربة الذين فروا مع العرب من محاكم التفتيش الإسبانية.

بعد المغادرة إلى بيتي شعرت بجفاف الريق، إذ كيف وصل هؤلاء الزملاء العارفون بتواريخ وتدافع الحضارات إلى الاقتناع بوصفهم أغيار وأنهم بحاجة لحماية الأدعياء الأخيار. اختمرت في ذهني تلك الليلة هواجس هذا المقال تحت العنوان المذكور أعلاه.
00:05 | 29-12-2022

من مهزلة تكفير المسبل إلى مهزلة الهالوين..!

كلاهما مهزلة، الأولى محلية اصطنعها المتنطعون المتاجرون بالإسلام، والثانية استوردها الجهلة المتنكرون لهويات وطنهم ومواطنيهم الحضارية والدينية. إنني لا أعرف أمة ذات حضارة اعتبارية عريقة تحتفل بأعياد غيرها (وخصوصاً الدينية) غير المجموعة العربية بأغلبيتها المسلمة ومذاهبها المتعددة.

ربما أن العدد المحدود للاحتفالات السنوية في الإسلام هو الذي فتح الأبواب لاحتفالات مستوردة من ديانات أخرى. لا شك (وهذا مجرد مثال لاحتفال اعتباري متكرر)، أن مهرجانات بعض المذاهب التي تعتبر دموية كممارسة تعبدية ليست من الإسلام بكل مذاهبه في شيء. هي اقتباس طقوسي من رمزيات درب الآلام التي مارستها طائفة مسيحية مغالية قديمة، ثم اعتبرت هرطقة عند الأصوليين المسيحيين وتوقفت كمناسبة احتفالية منذ قرون.

لم يكن في ذاكرة مجتمعنا القديم في الجزيرة العربية ما يمكن اعتباره مناسبة احتفالية سنوية غير دينية مصحوبة بمظاهر الابتهاج العلنية غير بعض المناسبات الشعبية التشاركية مثل الاحتفال بالقرقيعان وبعودة الحجاج سالمين مأجورين. مع استقرار وازدهار الدولة المدنية الحديثة أضيفت الاحتفالات بالأعياد الوطنية. المؤكد أن احتفالات أعياد الكريسماس ورأس السنة الميلادية وما دخل علينا أخيراً من المظاهر الكرنفالية بعيد عشية القديسين للتنكر وخداع الأرواح الخبيثة (الهالوين) لا تمت لكافة هوياتنا الدينية والحضارية بأي صلة أو تبرير معقول مقبول.

الخلطة المضحكة المبكية لأعياد مستوردة من الغرب المسيحي (وتحديداً من الولايات المتحدة الأمريكية) تحمل دلالة لا تخفى على عقل وضمير المستوعب لأصول حضارته على الاستلاب والتبعية وعقدة دفينة يعاني منها الجهلة ومحدثو النعمة اسمها متلازمة الشعور بالنقص والدونية (Inferiority Complex Syndrome).

ثلاثون أو أربعون عاماً من المعاناة الاستلابية المحلية المفروضة على مجتمعنا بتسلط متنطعين جهلة أجلاف ومتاجرين بالدين لم نتبعها عن قناعة تثقيفية شاملة بالتصحيح المناسب والعودة إلى الذات، وأهم تساؤلاتها هي من نحن وماذا نريد أن نكون أمام الآخرين؟

عيد عشية القديسين المسمى الهالوين يعتبره الأصوليون المسيحيون المخلصون لدينهم هرطقة وثنية لا يصح الاحتفال بها. الغلبة كالعادة كانت للمردود التجاري المالي الهائل لتسويق الهالوين ولبرمجة الأجيال المسلمة على الاستهلاك العبثي وعدم الانتباه لما تفعله به نخب الدولة العميقة، ومنها الزج به في الحروب والغزوات وتدمير الشعوب ونهبها، وممارسات مؤسسات رؤوس الأموال الفاجرة بالجيوب والعقول.

قد يعلل البعض عندنا أن استيرادنا العشوائي لبعض الاحتفالات من حضارات أخرى من متوجبات الانفتاح على العالم والتعايش، ولا أجد بأساً في أن يحتفل من يريد بأعياد ميلاد أطفاله وأولاده بعد أن أصبحت التواريخ محددة في السجل السكاني، أو الاحتفال بفصل الربيع ومواسم الأمطار وصيد أسماك الحريد والأسماك المهاجرة وما يشبهها من المناسبات المحلية البهيجة، ولكن أن نقفز دون تفكير من مراحل تكفير الآخرين إلى مرحلة الاحتفال بمساخر أعياد الآخرين.

خاتمة: هل فكر أحد أن طفل ومراهق اليوم قد يسجل في ذاكرته اللاحقة أن الكريسماس والهالوين من الأعياد الإسلامية التراثية؟

23:27 | 1-11-2022

لا هاشميون ولا أمويون بل شركاء في التخلف

في هذه السطور محاولة لمقارنة الواقع العلمي والفكري والإنتاجي بين أهل التكتلات الدينية المختلفة في عالم اليوم، ولا علاقة لها بالماضي ونقولاته التاريخية التي يكذب بعضها البعض.

عندما نبحث عن أهل الديانة الأكثر انتقاداً لنصوص وطقوس أهل الديانات الأخرى والأشد حرصاً على هداية وصلاح غيرهم تكون الإجابة جاهزة: إنهم المحسوبون على أهل الديار الإسلامية. لا اليهود والنصارى ولا البوذية أو الهندوس يهمهم كيف ولمن يتعبد غيرهم ولا أين يذهبون بعد الممات.

ثم وعندما نبحث بين أهل الديانات المختلفة مرة أخرى عن تلك التي أهلها فيما بينهم هم الأكثر أمية علمية وتقنية فكرية والأشد تخلفاً في الالتزام بالقوانين وتطبيق العدالة الشرعية تكون الإجابة هي نفسها السابقة: إنهم المحسوبون حالياً على ديار الإسلام.

ولأن هذه المفارقة الغرائبية بين التشدق بالأفضلية مع التخلف في شؤون الحياة مقابل كل الأمم فإنها (ولأنها مفارقة للعقل) أنجبت مفارقة أشد منها غرابة. بناء عليه دعونا نستمر في التنقيب ونبحث هذه المرة عن أصحاب الديانة الأشد حرصاً على التعريض بمكوناتها الخاصة في داخل تنوعاتها المذهبية ومدارسها الفقهية والأدق تمحيصاً في تصنيفات فرقها الناجية أو الضالة ومن هم أهل الجنة والنار، فيا ترى ماذا نجد في نهاية البحث؟ سنجد داخل نفس الانتماء إلى الأمة الواحدة أعداداً وأنواعاً كثيرة تحتكر كل واحدة لنفسها رضا الله وملائكته ورسله، ليتبلور من ذلك واقع اجتماعي مدمر.

الفرقتان الأهم تأثيراً في تاريخ ديار الإسلام ومنذ البداية اختارتا تسميات ذات ثقل سياسي افتراقي تمايزي، فأولئك يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة، وأولئك اتخذوا مسمى أهل البيت الهاشمي النبوي. واضح أن التسميتين التصنيفيتين تحمل كل واحدة بداخلها الإيحاء باحتكار الإسلام الصحيح ورضا الله والجنة وتترك للآخرين غضب الله والجحيم الأبدي. عندما تسمح الظروف السياسية بالهدوء والتعايش يسود السلام الاجتماعي والتقبل المرحلي بين أهل البيت وأهل السنة والجماعة. لكن مع كل خضة سياسية فئوية يقفز تصنيف آخر ليقال هؤلاء جماعة علي والحسين وأولئك جماعة معاوية ويزيد.

لا علم عندي عن ذلك السياسي أو الفقيه الذي قذف بهذه التسميات اللئيمة أول مرة بين الجموع، ولكنه بالتأكيد سمم مياه البئر المشتركة التي وجدت ليشرب منها الجميع. لا أستطيع وصف انزعاجي عند سماع أو قراءة الملاسنات الانتهازية اللئيمة في الفضائيات أو الشبكة العنكبوتية، من قبيل آل البيت مقابل آل يزيد، أو روافض مقابل نواصب. أعلم عن قناعة تاريخية ومعرفية كذب وانتهازية السياسي والفقيه المسيس وأنهما يزايدان ويتاجران بولاء الجموع الغافلة المستغفلة الغارقة في الفقر والبؤس.

وكلام أخير: إن اجترار التنابز بمسميات إيحائية مثل جماعة علي والحسين وجماعة معاوية ويزيد غباء مدمر للفاعل والمفعول به، ويبقى واقع الحال الفاعل وهو أن الجميع هم الأشد بين الأمم تخلفاً في العلوم والفكر والتقنيات، وأنهم دينياً ينتسبون إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وخلقياً إلى الأسرة البشرية، ولكنهم كانوا وما زالوا ملعوباً عليهم وملعوباً بهم.
00:11 | 15-09-2022

عندما التقت أصابع القادة العرب

«يقول المثل الصدوق حبيب الله»، وسأقول ما كنت أشعر به مع كثيرين قبل انعقاد قمة جدة. كنت واحداً من الذين يضعون أياديهم على قلوبهم، قلقين من احتمال خروجها بنتائج ليست في صالح المنطقة العربية. في هذا القلق نفخ الدس الإعلامي الأمريكي – الأوروبي والصهيوني والإيراني ومايكروفوناتهم العميلة من العرب. روّج الدساسون في وسائل التواصل الإلكتروني والإعلام أن الرئيس الأمريكي هو الذي أمر بجمع الزعماء العرب في السعودية لينهي ويأمر بتنفيذ الأهداف التالية:

أولاً: فض الاتفاق النفطي الخليجي مع الروس وضخ المزيد من النفط في الأسواق.

ثانياً: التوقيع على حلف ناتو أمريكي عربي إسرائيلي.

ثالثاً: التوقيع على تطبيع عسكري اقتصادي دبلوماسي ثقافي مع الدولة العنصرية الدينية في فلسطين المحتلة.

رابعاً: التراجع الخليجي عن الاستثمار في الصين بأنواعه.

خامساً: إعلان تأييد عربي صريح للجانب الغربي في حرب أوكرانيا ضد الروس.

(انتهى)

هذا على الأقل وربما أكثر منه كان يدور في بعض المواقع رغم الثقة التاريخية في القيادة السعودية وحنكتها وصلابتها، ولكن خوفاً من أن الظروف المنذرة بحرب نووية ومجاعة عالمية قد تغير الحسابات والموازين.

أتحدث الآن عن قلقي الشخصي المطابق للنقاط المذكورة، ثم عن كيف بدأ يتسرب ويتلاشى من أول لحظة لقاء بين ولي العهد السعودي والرئيس الأمريكي، لترتفع نسبة الاعتزاز حتى وصلت إلى أعلى درجات الزهو والافتخار بالموقف السعودي المؤزر بمواقف الزعماء العرب المشاركين في قمة جدة.

تتكون للطبيب المتقدم في السن مثلي من خلال الخبرة الطويلة مع القلق والخوف والتحفز مهارات التفرس في الوجوه واستقراء الداخل من الملامح الخارجية. اللقاءات المبدئية بين المسؤولين السعوديين والأمريكيين كانت كلها توحي بصلابة الحاكم والمسؤولين وبوضعهم الوطن والمواطن (بتاريخه وحضارته وحاضره ومستقبله) في قلوبهم كمشاعر وفي رؤوسهم كاستعدادات ومبادئ.

أما المقابلة الشاملة أو الانفرادية للقادة العرب مع الرئيس الأمريكي فكان استقراء ملامح ونظرات وإيماءات كل زعيم عربي يوضح أنه حضر ومعه القناعات التالية:

أولاً: ليقول للرئيس الأمريكي ووفده الكبير نحن بكل بساطة وثقة مع السعودية وقد حضرنا للاجتماع بكم لنؤكد لكم ذلك.

ثانياً: أننا قد حددنا واتفقنا على رفض ما ليس في مصلحة المجموعة العربية شعوباً وحضارة وأخلاقاً، وقبول ما نراه يصب في مصلحة الجميع.

ثالثاً: أن كل زعيم عربي أمامك أيها الرئيس الضيف يتعامل معك بكل احترام كند وكمسؤول مع مسؤول، فلا إملاءات ولا أنصاف حلول ستلقى القبول.

رابعاً: أن القضية الفلسطينية حق عربي وإنساني تاريخي قد يقبل التأجيل ولكن لا يقبل التنازل مهما طال الزمن.

(انتهى)

والحمد لله كان كل ذلك ما أكده للعالم البيان الختامي عن اجتماع جدة، ومن بشائره الواعدة بمستقبل عربي متضامن أقول مع كل عربي مخلص في دولته القطرية: عندما التقت أصابع القيادات العربية كوّنت قبضة قوية لها هيبة وفاعلية أكبر وأقوى من كل أصبع على حدة.
23:22 | 18-07-2022

من لا يحصل على الدور المستحق يدير ظهره لوطنه

من لا دور له يدير ظهره لوطنه، هكذا كان جواب الدكتور عصام حجي (مصري سابقاً) عالم استكشافات الفضاء في وكالة ناسا الأمريكية في فضائية أبوظبي على السؤال عن تخلف الأبحاث العلمية في العالم العربي.

تليسكوب ناسا الفضائي يرسل لوكالة الفضاء الأمريكية صوراً مذهلة لأعماق الكون. الأضواء والأنوار والإشعاعات التي التقطها التليسكوب كانت قد انطلقت من تلك الأعماق السحيقة قبل اثني عشر مليار سنة ضوئية، بما يعني أن بعض تلك المصادر المشعة قد تكون الآن تبعثرت أو التحمت أو ابتعدت أكثر، ولكن مراكز العقول المتفتحة تتلهف لاصطياد تلك اللحظة التي حدث فيها ما يسمى -رياضياً وفيزيائياً- الانفجار الكوني العظيم في لحظة التفرد الكونية.

أغلب التعليقات المحلية عندنا على الصور المبثوثة في وسائل التواصل الشبكي عن الحدث كانت تدور في مجالات التسبيح لخالق الكون، وهذا حسن لكنه لا يغني عن التفكير المحفز، أو المبالغة في جلد الذات الحانقة على تفاهة الحاضر العلمي العربي واهتماماته. المهم أنه بعد الاعتراف للإنجازات المبهرة في مراكز البحث والتطبيق العلمي في ناسا وغيرها في العالم بالتقدير الذي تستحقه، يحسن بل ويحق لنا الاطمئنان المؤكد عن وجود مئات بل وألوف الطاقات العلمية البحثية العربية (المهاجرة) في مراكز الأبحاث العالمية، لكنها لم تعد عربية سوى بالأسماء وربما الديانات.

هي عقول لامعة عربية أدارت ظهورها لأوطانها مرغمة، لعدة أسباب موضوعية أهمها:

أولاً: الشعور بعدم القيمة بالوطن، وثانياً: الشعور بالاختناق والانطفاء الفكري العلمي في مجتمعات تحتقر التحدي للسائد المعرفي القديم، وثالثاً: لأنها عقول لا تستوعبها البيروقراطيات الفاسدة، فهي إما أن تقبل الإفساد الشللي لتعيش، أو ترفض وتقتات الفقر والبطالة، أو تهاجر لتبدع في الجو المناسب وتجد حياة كريمة وتساهم بمواهبها في تطور العالم قبل أن تنطفئ وتذبل بالشيخوخة والتقادم.

مصيبة العالم المتخلف ثلاثية الأبعاد: التسلط الإداري الذي لا يحتضن غير المنافقين أو أصحاب المواهب القابلة للاستثمار في الاستهلاك والتسلية، ثم الرضوخ لضرورة السباحة في تياراته العبثية، وأخيراً مقارنة أصحاب العقول اللامعة هؤلاء لأحوالهم المادية والمعنوية مع أحوال تافهين نجحوا وترفهوا، أو مع نظراء لهم في الذكاء والقدرات الذين هاجروا بحثاً عن الأجواء الاحتوائية للعقول المطبقة لمبدأ أن المكافأة تكون على قدر الإنجازات الحقيقية وليست على حسب القدرات الالتفافية والتملقية وحلاوة اللسان في المجالس والمحافل الإعلامية.
00:11 | 15-07-2022

بلى نتعاطف مع من يحترم الآخرين

تزامنت الزيادة في محاولات المتمرد الحوثي تكثيف هجماته ضد منشآتنا الاقتصادية والمدنية مع إعلان السعودية الالتزام بالحياد في الحرب الأوكرانية يثير الكثير من التساؤلات المنطقية. من هو المستفيد القادر على تزويد المتمردين الحوثيين بمعلومات وقدرات لم تتوفر لهم من قبل. لا أعتقد أن استنتاج ما هية المستفيد القادر على الفعل صعب، والاستنتاج قد يساعدنا على التفهم الأمني والإستراتيجي عن أسباب وتبريرات وأحداث الحرب بين روسيا وشمال الأطلسي على الأرض الأوكرانية. وجوه الشبه الإستراتيجية والأمنية واضحة بين ما يجري هناك وما يجري منذ عقود على الجغرافيا العربية من حيث الفاعل والمفعول به والمستفيد الأول والمتضرر الأخير بمعدل تراكمي.

المتاح للمواطن العربي في قنواته الفضائية لا يختلف كثيراً عما يلقن بسمعه وبصره على كل الوسائل والوسائط الإعلامية الغربية حول حيثيات الحرب في أوكرانيا. فضائية روسيا اليوم كبديل معادل ما زالت متاحة، ولكن المحتمل أن يطالها التحريم الأطلسي في العالم العربي مثل غيرها. التلاعب والاستهتار بالعقول لعبة سمجة وعنيفة يمارسها الإعلام الغربي مع كل العالم. كمية الكذب والاستخفاف حول مجريات أحداث الحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا لا تخفى على من احتفظ بجزء من عقله ولم يغطه بعد الصدأ الإعلامي الغربي الأطلسي الكثيف.

أسوق هنا البعض القليل للتذكير بممارسات الإعلام الغربي بعد ارتكاب الحلف الأطلسي للكثير من الجرائم الإنسانية:

• رش أربعين مليون جالون من مادة الديوكسين السامة (العامل البرتقالي) على غابات فيتنام بين عامي ١٩٦٢م و١٩٧١م، ثم الادعاء أن الهدف طرد المقاتلين الفيتناميين من الغابات. النتيجة كانت فناء الغابات والكائنات الفطرية فيها وتسميم المياه والتربة وقتل أو تشريد آلاف السكان المعتاشين من تلك الغابات.

• نسف مصنع الشفاء للأدوية في السودان عام ١٩٩٨م بادعاء إنتاجه أسلحة تدمير كيميائية، وكانت النتيجة حرمان السودان من أهم مرافقها الصحية وقتل وتشريد العاملين إلى البطالة والفقر.

• قصف العراق أثناء ما يسمى حرب الخليج الثانية بقنابل النفايات المشعة (اليورانيوم المنضب جزئياً) بما يعادل إشعاعياً عشرات القنابل النووية بميزان هيروشيما، ثم الادعاء الإعلامي الغربي أنها كانت مصوبة بدقة لنسف الدروع على الدبابات العراقية. النتيجة الوحشية الكارثية كانت آلاف الوفيات والسرطانات والتشوهات الخلقية وإجهاض الأجنة وتسميم البيئة العراقية بالإشعاع لعشرات السنين.

• قصف قطاع غزة بالفوسفور الأبيض المحرم دولياً (عملية الرصاص المصبوب) عام ٢٠٠٨م. الفاعل الصهيوني جزء وجودي وعسكري لا يتجزأ من الغرب الأطلسي. ادعى الإعلام الغربي آنذاك أن العملية كانت رداً على استعمال حماس قنابل الفوسفور الأبيض ضد المستوطنات الإسرائيلية ولم تكن حماس تملك حتى الطحين الأبيض.

• ولأن الشيء بالشيء يذكر فإن العراقيين العرب لا بد يتذكرون وحشية الكتيبة الأوكرانية (جيش آزوف النازي) التي شاركت في غزو العراق مع الحلف الأطلسي رغم أنها ليست عضواً فيه وكانت كتيبتها هي الأكثر توحشاً في التنكيل بالعرب العراقيين.

ثم وبعد تذكر الأهوال هذه علينا واجب المقارنة بين ما تختزنه الذاكرة العربية عن الجرائم الأطلسية ضدنا وتغطيتها بالكذب المعولم، بالتغطية الإعلامية الروسية لأحداث أوكرانيا ومسبباتها التاريخية والإستراتيجية لنعرف من هو الصادق ومن هو الكاذب. العاقل يقرر من يتمنى له الانتصار لخير البشرية ونحن منها.
23:49 | 27-03-2022

برمجة تطويع الآخر المختلف في الإعلام الغربي

قبل أن يستخدم القوة الصلبة (القصف الناري) التي يستخدمها أكثر من كل دول العالم مجتمعة يوظف التحالف الأطلسي منذ منتصف القرن الماضي القوة الناعمة بالبرمجة التطويعية للآخر المختلف عنه حضارة وتطلعات وطنية تنموية. ترتيب المراحل يكون هكذا: أولاً البرمجة الإعلامية للتطويع، ثم المقاطعة والتجويع، وأخيراً القصف وتدمير البنى الأساسية وتشريد السكان.

نكتفي هنا بالحديث عن البرمجة الإعلامية الغربية لتطويع الآخر المعاند: يقولون له نحن لا نقبل منك الحياد فإما أن تكون معنا وإلا نعتبرك ضدنا. لا نقبل أن تكون لك تطلعات مستقلة للانفتاح على كل العالم ونسمح لك فقط بالانفتاح على من ننفتح نحن عليه ونحدد لك متى وكيف. أيضاً عليك أن تقبل وتطبق مفاهيمنا في إطلاق العلاقات الجنسية والحريات الجسدية والتصنيف الجندري ودع عنك التعذر بالفطرة البيولوجية وخصوصياتك الدينية والاجتماعية، فإن لم تقبل فرزناك إعلامياً وعالمياً كعدو للإنسانية والعدالة الاجتماعية. قاطع من نقاطع وإلا قطعنا رزقك كما فعلنا بغيرك قبلك.

هذه حقائق ماثلة ومتكررة في الحقن الإعلامي الغربي، السياسي منه والاقتصادي والثقافي والأخلاقي وصناعة الترفيه والعبث، أي في كل ما تتعرض له المجتمعات والدول الراضية بالسياق السيادي الإعلامي المبرمج على مصالح الغرب الأطلسي. للأسف أن الشباب الغض من الجنسين أول من ينبهر ويغطس حتى يغرق في هذه البرمجيات التطويعية لانعدام الخلفية التربوية والثقافية، فلا عذر لأجيال الكبار أن أضاعتهم وتركتهم للافتراس والانحراف المبرمج.

بناءً على هذه الحقائق والوقائع يكون من المفترض أن المواطن العربي بالذات قد فقد القدرة على هضم مخرجات الإعلام الغربي ولو على مراحل، بدأت عند تشويه الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى وقبل اختطافها وإفسادها بالخمينية والأردوغانية والإسلاموية المستأجرة. مورس التشويه بالدس الإعلامي المعولم على أن الانتفاضة الأولى ليست احتجاجات شعبية ضد طغيان الاحتلال العنصري وصورت أمام العالم كإرهاب إسلامي ضد الديموقراطية الوحيدة الشرق الأوسط.

منطقياً يفترض مرحلياً أن المواطن العربي قد فقد نهائياً قدراته الهضمية للإعلام الغربي بعد عام ٢٠٠٣م. في ذلك العام وعدوا العراق وجيرانه بديموقراطية تعايشية في وسائل إعلامهم الخاصة والمستأجرة، العربية وغير العربية، فغزوه عنوة مبيتة وهدموا البنى الخدماتية والوزارات والجسور ومحطات الطاقة والمياه والملاجئ ونهبوا البنوك والمتاحف، ثم سلموا العراق جائعاً عارياً إلى عدوه اللدود ليمثل به ويرهب المنطقة.

بعد شطب العراق تتابعت الحملات الإعلامية الغربية على الجغرافيا العربية برفع رايات ما صوروه وروجوا له أنه الربيع العربي المبشر بالحريات والرفاه، ثم سلموا مصر إلى الإخوانية العميلة لمن يدفع أكثر وقصفوا ليبيا في نفس الموسم الربيعي بطائرات الأطلسي وسلموها مفككة مذهولة لمليشيات المرتزقة والإرهاب والقبلية وتجار النخاسة السياسية في العواصم الخارجية.

إن أي عربي بعد كل هذه الكوارث لا يتعرف على السموم المبثوثة في الإعلام الغربي يكون لا حيلة معه ولا أمل فيه. والآن نشاهد ما يعيشه العالم من احتمال توريطه في حرب عالمية شاملة قد بدأ التحضير العملي لها قبل حوالى ثماني سنوات، وكان ذلك عندما أشعلوا إعلامياً نيران العنصرية النازية والمظاهرات الفوضوية في أوكرانيا على حدود جارتها الروسية. أسقطوا الرئيس الوطني الشرعي لأنه رفض المخطط ونصبوا مكانه ممثلاً هزلياً له ديانة غير ديانة الأغلبية الأرثودوكسية المشتركة بين الأوكرانيين والروس. هكذا أسس الإعلام الغربي المبرمج والمدمج مع الاستخبارات للحرب التي اضطرت روسيا الجارة لخوضها حين استشعرت التهديد الوجودي المبيت لتغيير الواقع الأوكراني المتصالح مع جاره الجغرافي التاريخي.

خلال الأربعين أو الخمسين سنة الأخيرة أصبح العالم المستهلك للسيطرة والثقافة الأطلسية مبرمجاً على إيقاعات التفوق الغربي في السياسة والاقتصاد والثقافة والترفيه والأخلاق لصالح تكتل واحد وديانتين محددتين. أما لماذا نجح هذا الإعلام وكيف، فتلك قصة طويلة كثيرة التشابك من حيث التنظيم والابتزاز والتهديد وشراء الذمم واختيار الطواقم التنفيذية في مؤسسات الغرب الإعلامية الخاصة وأيضاً في تلك التابعة رسمياً واسمياً لدول خارجية.

المهم المستقبلي يجب أن يكون الفرز العقلاني لما يحقنه هذا الإعلام الطاغي في شباب العالم وإلى أين سيصل بهم وبأوطانهم.
23:51 | 20-03-2022