-A +A
محمد الساعد
ما يحصل في المنطقة العربية منذ الخمسينات لليوم هو إدارة للأزمات وليس حلاً لها، بهدف الاستنزاف المالي والعسكري والتنموي، ليس لدول الخليج- كما يروج أعداء أنفسهم من عرب الأمصار وعرب الشمال على وجه الخصوص- بل من أجل هدف استراتيجي يتعلق ببقاء القوى العظمى الغربية متسيّدة للعالم.

فما يحصل في منطقتنا حصل في أوروبا، وفي مناطق عدة أخرى، يتم التدخل فيها فور تهديد المصالح العظمى.


كل النزيف من دماء ودمار، وكل الآلام السابقة هي من أجل تبرير الوجود والمكانة الغربية في المنطقة، فالمنطق الغربي يقول: نحن من يحل الأزمات ونحن من نديرها لأنكم -أي العرب- ودول التخوم (إيران، إثيوبيا، تركيا، إسرائيل) على طرفي نقيض، ومن الأفضل أن تبقوا كذلك.

روى مسؤول فلسطيني كبير في حوار صحفي قبل سنوات ما معناه «أن وزير خارجية أوروبي قال له نصّاً: أحدثوا معركة لكي نستطيع التدخل لحل الأزمة، ما لم يقله وزير الخارجية الأوروبي أنه يريد أن يحل الأزمة المؤقتة، ولكن ليس حل القضية حلاً جذرياً؛ لكي يبقى هو المتحكم في الحرب وإيقافها.

إثر حرب تحرير الكويت، أبقت أمريكا النظام العراقي حيّاً حتى العام 2003م، على الرغم من قدرتها على القضاء عليه منذ اندلاع معارك التحرير 1991م. في سوريا ورغم الأزمة الإنسانية الكبرى التي ضربتها 2011م، فضل باراك أوباما الإخلال بوعوده، واستمرت الأوضاع كما هي عليه لليوم.

أما في حرب الخليج الأولى فقد زودت أمريكا النظام الإيراني بأسلحة وقطع غيار لإبقائه قادراً على الصمود أمام الجيش العراقي الذي وصل إلى نصف إيران خلال شهرين فقط، وفي الوقت نفسه زودت العراق بالسلاح لكيلا يخسر حدوده، العراقيون وقعوا في الفخ وخرجوا من المشهد، لكن الإيرانيين لايزالون يلعبون اللعبة الأمريكية وملتزمون بقواعدها ولذلك سيبقون.

من يظن أن الغرب وعلى رأسهم أمريكا يريدون إقامة مشاريع سلام حقيقية في المنطقة واهم جدّاً، فالمطلوب حاليّاً، حالة اللا حرب واللا سلام، ومن يعتقد أن حماس هي من اتخذت قرار معركة السابع من أكتوبر واهم أيضاً وهي مجرد مقاول نفذ المطلوب بحماسة، فالأمر أكبر من حماس وأكبر من المنطقة كلها، إنه قرار استراتيجي يصب في مصلحة القوى العظمى التي أحست أن فكرة السلام نضجت سياسياً وشعبياً في منطقة استنزفت على مدى سبعين عاماً، وعليه فإن هذا السلام بمواصفات المنطقة لا يُلائمها ولا يناسب مصالحها، ومن الضروري إعادة الجميع إلى مربع النيران، والعداء، والخصومة.

دعونا نتذكر أجواء ما قبل حرب أوكرانيا، عندما نضج المزاج الشعبي والسياسي الأوروبي في نظرته لروسيا كدولة غربية، حتى وصل الأمر للشراكة معها في بناء خطوط إمداد للغاز مباشرة بين ألمانيا- قلب أوروبا الصناعي- وبين الروس دون المرور بالأراضي الأوكرانية، وهو خط أحمر لواشنطن ولندن على وجه الخصوص.

ولعل هذا يفسر ما هي العلاقة بين أوكرانيا وغزة؟ إنهم اللاعبون أنفسهم في المكاتب الخلفية من العالم، والمقاولون أنفسهم والعملاء الذين ينفذون أدوارهم على الأرض، فلا نضال ولا فدائيين ولا كل ما نسمعه من شعارات.

لقد تم قلب الطاولة على الأوروبيين وإعادة أوروبا ليس إلى ما قبل يوم التدخل الروسي 24 فبراير 2021م، بل إلى أجواء حرب عالمية نووية ثالثة، لعل الأوروبيين الذين تصوروا أن أمريكا ستسمح لهم ببناء علاقة تصالح مع العدو «الروسي» فهموا- اليوم- أن ذلك أمر مستحيل، وأن «روسيا» كبعبع أمر مطلوب لتبقى أوروبا تحت السيطرة الأمريكية، وهو ما ينطبق على منطقتنا، وبغض النظر عن الأسماء أو العقائد أو الشعوب، فلا فرق عندهم بين أي دين تحمل ولا لأي عرق تعود، إنها مصلحتهم العليا التي يجب على الجميع- من وجهة نظرهم- أن يخضع لها.