-A +A
علي بن محمد الرباعي
مما رواه (أبي رحمه الله) أن مشكلة وقعت بين أب وابنه في إحدى القُرى، فغضب الابن وهرب؛ فقالت زوجته؛ خذ حذرك؛ فالولد يتوعدك بالقتل، فقال الأب؛ إن كان ابني فعلاً فلن يقتلني؛ وعندما؛ كان الأب يوماً على سجادة صلاته، دخل الابن عليه بالبندقية، وعندما تلاقت عيناه بعيني أبيه سقط سلاحه من يده، واحتضن أباه؛ متأسفاً عن قبح تفكيره، وحمق تصرفه؛ ورعونة ردة فعله؛ تجاه من كان سبباً في وجوده؛ بعد الله، ما يدل على أن الدم يحن؛ وأن ليس كل ابن عملاً صالحاً.

ومنذ أيام كنت أقرأ كتاباً يتناول قضية (الولاء والبراء) التي يبني عليها الخطاب الصحوي طرحه المتوحش، ويؤسس عليها الإسلامويون أرضية العلاقات غير الإنسانية، ليؤصّلون في وعي أتباعهم (العُنف) حتى مع أقرب وأحنّ الأفئدة؛ ما يحتّم عليهم الحرص على الولاء والبراء والتمسك بهما؛ وإخضاع القُرب والبعد، والمحبة والكراهية، والثقة وعدم الثقة لهذا المبدأ المشوّش، وينطلقون فيها منظور آيديولوجي، يُحمّل النص القرآني فوق ما يحتمل؛ لتعزيز منطلقات العداء للمخالف والمختلف بالآيات والقصص، وعدّ مؤلف كتاب الولاء والبراء (أبا عبيدة عامر بن الجراح) نموذجاً يُحتذى في تطبيق الولاء والبراء، بقتله لأبيه في إحدى الغزوات.


وعندما يتفضل القارئ الكريم بتلاوة السؤال العنوان، أو العنوان السؤال، فالمتصور موضوعياً، أن الإجابة لن تكون واحدة، فهناك من سيجيب بنعم ويروي أخبار آحاد تؤكد صدق القصة، وهناك من سيقول محتمل، وهناك من سينفي الحكاية من أصلها وينسفها، وهناك من سيقول لا أدري. وربما يأتي من يقول (لا يعنيني)، وفي كل الأحوال؛ لا تثريب على أحد، بحكم أن قناعتنا بُنيت على مُسلّمات لا تجوز مناقشتها، ولا إعمال العقل فيها، ولا إعادة النظر فيما وصلنا من مرويات تقطع صلة ما أمر الله به أن يوصل.

ولعل خطابات الإسلام الحركي نجحت في إسقاط آية (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) على قصة قتل أبو عبيدة عامر بن الجراح لأبيه، وقالوا إن الآية نزلت لتكون علاجاً نفسياً وتسلية لوجدان وضمير أبو عبيدة؛ ما يعني أنه دخل في أزمة نفسية ومعاناة ذاتية بارتكابه ما لا يتصور الإنسان ارتكابه.

لا أتصوّر أن دِيناً خاتِماً، ونبياً حمل في روحه كل قِيم الرحمة والشفقة والأدب، عليه الصلاة والسلام، يدعو للقتل وسفك الدماء، ولا يراعي حُرمة العلاقة بالأمهات والآباء، وهو القائل (أتريدون أن يقول الناس؛ محمد يقتل أصحابه)، والقائل (هل شققت عن قلبه) فالعبث بدلالات النصوص لتسويغ الجرائم؛ جريمة، وتوجيه النصوص لتعكير أمزجة وأدمغة شُبان لتوظيفهم لخدمة طموحات المفتونين بالسُّلطة والتسلط ليست من الإسلام، يُسلّم بذلك كل من قرأ كُليّات الدِّين ومقاصد الشرع القائمة دعوته على الحُبّ والإحسان؛ وافتداء الأبوين، بالنفس والنفيس.

وربما انقدح في الذهن أسئلة؛ لماذا أبو عبيدة بمفرده؟ أليس هناك صحابة لهم آباء عُتاة، لماذا لم يتخلصوا من آبائهم طالما غدا الفعل مقبولاً وغير مستهجن؟!

لا يوجد كائن سوي في العالم يقبل أو يشجع أو يبرر جريمة قتل الأبناء آبائهم، حتى وإن بلغ الأب والأم من السوء مبلغ الانحطاط، ونحن نقف أمام جيل من الصحابة لا نتصور منهم (الغلظة) كونهم تشرفوا بصحبة أشرف وأزكى وأطهر وأعف الخلق، فالتشويه للصاحب تشويه للصحبة.

للجريمة دوافع وأسباب ومحفزات ومغذيات غير دينية وإذا وقعت جريمة قتل ابن لأبيه، وأمكن التحقيق، ستظهر تباعاً وتنكشف تدريجياً حيثيات الجُرم، وذلك يعتمد على مهارة وحدس المحقق، وغاية ما ذهب إليه أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم (سلام عليك؛ سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيّا).

كانت عينا النبي صلى الله عليه وسلم تغروقان بالدموع؛ عندما يُذكر أبوه، أو يُروى له مشهد عاطفي، وزار قبر أمه، وسأل عن ذوي رحمه، وصفح عمن ظلمه؛ وعفا عن أهل مكة يوم الفتح، ما يؤكد أن آية (وإنك لعلى خُلق عظيم) أبلغ ما يوصف به سيّد الخلق عليه السلام، والأخلاق لا تتجزأ إلا عند مَن يعانون حالات فصام، و وساوس قهرية.

نتساءل بشيء من الحيادية؛ أي الحقوق أعظم منزلة بعد حق الله؟ وسيأتي الجواب؛ في آية (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا) وهذا عام في كل والدين. ومن الحالات التي صرّحت بها آيات الذكر الحكيم (وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم؛ فلا تُطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا).

ونتساءل مرةً تالية؛ هل شرّع الإسلام الولاء والبراء؛ قبل أن يشرّع حق الوالدين؟ وماذا عن حديث (ففيهما فجاهد) ومتى كان وقت نزول آيات التوجيه لبر الوالدين، وهل الولاء والبراء أعظم من البر بأحق الناس بُحسن الصُحبة؟

كان النبي عليه السلام في آخر أيامه يتودد لعمه أبو طالب ليقول لا إله إلا الله، ولم ينل أحد من أهله بسوء بل كان يكرم ذوي القربى، وأكرم ابنة حاتم الطائي لأنّ أباها كان يحب مكارم الأخلاق، ومشروع الأنبياء مشروع حياة وإحياء وصلة وبر. لا قتل وإبادة وقطع رحم وعقوق، كما يسوّق ويسوّغ عُميان القلوب، وضُلّال الفكر، المحرومين من نعمة الهداية.

ما طرحته من سؤال؛ في هذا المقال ليست لنفي أو إثبات قصة القتل فذاك يحتاج دراسة حديثية؛ قدر ما هي تنبيه على خطورة؛ ما سيعتبره البعض سابقة تاريخية؛ ومندوحة شرعية، تسوّل لبعض الأنفس المريضة التخلص من آبائهم وأمهاتهم تحت غطاء الولاء والبراء، وشتّان بين مَن يحرص على دخول الجنة، بسبب برّه بوالديه، ومن يثق بدخولها لسفكه وسفحه دماء الأم والأب، ولا أبلغ شعراً من قول أحمد شوقي في وصف المصطفى (وإذا رحمتَ فأنتَ أمٌ أو أبٌ؛ هذان في الدنيا هما الرحماءُ).