-A +A
محمد مفتي
تمثل قضية العنف الأسري أحد أهم القضايا المزمنة في أي زمان ومكان ومنذ قديم الأزل أيضاً، غير أن الطفرة الحديثة في وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت إلى حد كبير في إبراز هذه القضية بشكل علني، ومن المؤكد أن نسبة الحالات التي يبلِّغ عنها أصحابها أو تلك التي يتم رصدها من قبل الجهات المعنية بمكافحة العنف الأسري أقل بكثير من الواقع الفعلي، فهناك العديد من الأسباب التي تقف حائلاً ضد الإبلاغ عن حالات العنف الأسري، لعل أهمها جو الرهبة الذي قد يمارسه المعنِّف «بكسر النون» ضد أفراد أسرته، في حال تقديمهم بلاغاً أو شكوى للجهات المعنية.

ولعل ظهور بعض حالات العنف الأسري للعلن عبر وسائل الإعلام أو من خلال بعض منصات التواصل الاجتماعي كان سببه الأضرار الجسيمة التي أصابت أحد أفراد الأسرة والتي قد تستلزم العلاج الطبي العاجل، وتسارع المراكز الصحية في إبلاغ الجهات الأمنية على الفور بوصول تلك الحالات لإخلاء مسؤولياتهم تجاهها، وقد تدفع رهبة العنف الأسري الضحايا لعدم ذكر الأسباب الحقيقية لإصاباتهم للجهات المسؤولة، ذلك أن المعنَّف أو المعنَّفة يدركون جيداً أنهم في نهاية المطاف سيعودون إلى منزل الأسرة، وهو ما يعني تعرضهم لعنف أكبر فيما لو قاموا بالإفصاح عن الحقيقة.


في كثير من الحالات يكون المسؤول عن حالات العنف الأسري هو رب الأسرة نفسه، الذي يمارس حق الوصاية على أفراد أسرته لاقتناعه بأن التعنيف هو أحد حقوقه المكتسبة، كما أن البعض يميل إلى العنف كأحد أساليب التربية، وهي عادات مكتسبة عادة ما يكون سببها هو البيئة التي نشأ فيها رب الأسرة، والثقافة السائدة التي ترعرع في محيطها، ولا أشك في أن جو الانغلاق الذي فرضه الفكر الصحوي لعقود ماضية -والذي أثَّر بدوره في تعزيز مفاهيم مغلوطة خاصة فيما يتعلق بقضايا المرأة- قد أثّر بشكل كبير (وحتى اللحظة الراهنة) في سلوكيات بعض أرباب الأسر تجاه عوائلهم، وفي الغالب تكون الزوجة أو الابنة هما ضحيتا العنف الأسري.

وبخلاف كون العنف الأسري مرتبطاً بالثقافة التي سادت خلال فترة اجتياح الفكر الصحوي، فإن أحد الأسباب المهمة التي تقف وراء هذه الظاهرة هو شخصية رب الأسرة نفسه، فإن كان يعاني من أي نوع من أنواع الاضطرابات النفسية فإن هذه الاضطرابات ستنعكس بلا شك على أسرته بالسلب، فبعض الشخصيات تكون عدائية بطبيعتها، تميل للعنف حتى في القضايا البعيدة عن محيط الأسرة، وغالباً ما تكون الأسرة هي المتنفس الذي يفرغ فيها هذا النوع من الأشخاص الشحنات العدائية، التي تسببت فيها ظروف المعيشة أو حتى العمل، ضد أفراد أسرته، وعلى الرغم من وجود العديد من القوانين التي تسهم في الحد من ظاهرة العنف الأسري -وخاصة في ظل توجه الدولة خلال السنوات الأخيرة لسن العديد من التشريعات التي منحت المرأة المزيد من الحقوق- إلا أنه من المؤكد أن القوانين وحدها لن تكفي لمنع حدوث هذه الظاهرة ما لم يتم تغيير الفكر المتجذر لدى البعض بأن حل أي مشكلة أسرية يكمن في ممارسة العنف.

من المؤسف أن طرق التربية الخاطئة والتوجهات الاجتماعية السلبية التي تكرس العنف الأسري عادة ما تكون متوارثة، غير أنه من المؤكد أن الدولة لا تألو جهداً في بذل المساعي لاحتواء ظاهرة العنف الأسري وتحجيمها بقدر المستطاع، وفي اعتقادي أن تجربة برنامج الزائر الصحي Health Visitors والمطبقة في بعض الدول الغربية قد تسهم في إيجاد حل جزئي لهذه الظاهرة، ويهدف هذا البرنامج إلى متابعة أفراد الأسرة على نحو دوري لتقديم الدعم والمشورة الصحية لجميع الفئات العمرية في أي أسرة، ولاسيما للأطفال والنساء.

ومن المهم أيضاً إنشاء صندوق متخصص في حماية ودعم ضحايا العنف الأسري مالياً ونفسياً وصحياً، ومتابعتهم بشكل دوري للتأكد من قدرتهم على تجاوز المحنة بأقل الأضرار الممكنة، على أن يكون تحت إشراف ومتابعة الجهات المختصة بالدولة، ومن الممكن أن يُسمح بفتح باب التبرعات لتغطية جزء من نفقاته جنباً إلى جنب مع التمويل الحكومي، ولا شك لدينا أن كافة الجهود الرسمية وغير الرسمية لاحتواء ظاهرة العنف الأسري ودعم ومساعدة ضحاياه تحتاج لتكاتف اجتماعي بشكل مكثف، وتتطلب اهتماماً إعلامياً أشد لإلقاء مزيد من الضوء على أبعاده ودوافعه، فمناقشتها على المستويات الإعلامية والتوعوية بشفافية وحياد سيسهم بما لا يدع مجالاً للشك في الحد منها، وفي الحد من معاناة ضحاياه وإنقاذهم من تبعات العنف النفسي أو الجسدي.