-A +A
علي بن محمد الرباعي
يتهم الإسلامويون، خصومهم (الواقعيين، والافتراضيين، والذاتيين، والموضوعيين)، بأنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ولو تتبعنا مسارات خطاب الإسلام السياسي، لوجدنا الاتهام يرتد إليهم، وينطبق عليهم حرفياً، فإذا كانت بعض التيارات والتوجهات تقع مع المتشابه من كتاب الله في إشكال؛ فإنّ إشكالية الإسلام السياسي مع المُحكم من القرآن طارفةٌ تالدة، إذ بقدر ما يحجرون على غيرهم؛ بتحريمهم التأويل، إلا أنهم بما في قلوبهم من زيغ؛ يسوّغونه لمنهجهم ابتغاءً للفتنة.

أُنشئ الإسلام السياسي في دول عربية، وإسلامية متجذرة، وتبنّته جهات ودول استعمارية وغذّته ربيباً، إثر اضطرارها للخروج من دول المسلمين، لتُبقي (مسمار جحا) داخل البيت، لتناور وتساوم من خلاله، ولو افترضنا جدلاً أن الإسلام السياسي حكم أو تحكّمَ في دول عربية، فما هي الإضافة التي يمكنه تقديمها، وإدهاش العالم بها؟


الدولة؛ مكوّن اجتماعي، يؤسس كياناً، له اختصاص سيادي، في نطاق إقليمي محدد، وبالاعتراف بالدولة، تكتسب شخصيتها القانونية الدولية، وتباشر سلطتها، عبر منظومة من المؤسسات العدلية والخدمية والأمنية، ومن خصائصها (ممارسة السيادة وفق الإطار العام لمؤسسات الدولة والتعبير عن الشرعية والحفاظ عليها).

والدولة السعودية، عندما تمكّنت، وطبعت بصمتها التاريخية، تسارعت الجغرافيا الممتدة لتنضوي تحت لوائها، فصهرت المكونات المجتمعية المتباينة (بحكم فطرتها أو منشئها وطبيعتها) في بوتقة واحدة، فالهُويّة التي نعتزُ بها اليوم (سعودية) دون التفات لانتماءات ضيّقة، وبالية، تذكرنا بزمن الحرب والجوع والتطاول بالذراع، وبفضل الله، ثم فضل الدولة السعودية، اكتمال وحدة نظامية متماسكة، قابلة للتعلم والتطور وخدمة الوطن والذود عن حماه.

لا يمكن إغفال دور الأقدار في انتقاء الأخيار، واختيار الرموز والعظماء، وإيتائهم المُلك، بنص القرآن «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير» وهذه الآية من المُحكم، فمَن له الملك كلُّه، يمنح ملكه في الأرض لمن يشاء من خلقه، كونه الأعلم بما ومن هو أصلح، كما أنه يسلب الملك ممن يشاء، ويهب العزة في الدنيا والآخرة مَن يشاء، ويكتب الذلَّة ويجعل الصغار على من يشاء، ودلالة (بيدك الخير) تأكيدٌ على أنه لا يختار لعباده، بتمكين المُلك إلا الخيّرين، وإن رآهم آخرون بخلاف ذلك.

أراد الله بالمملكة العربية السعودية، وبأهلها خيراً، منذ تأسست الدرعية، عاصمةً مدنيةً لدولة فتيّة، فتمركزت الإرادة والإدارة، ولم تكن أسرة آل سعود تبني مجدها بسواعد غيرها، بل أقامت مجدها بنفسها، وكان أئمتها يقاتلون، ويُجرحون، ويفقدون أرواحهم، وأرواح أبنائهم، وتهجّر عائلاتهم في سبيل تأصيل واسترداد زعامة مستحقة، فهم قادة ميدان، علم الله ما في قلوبهم فأثابهم فتحاً ونصراً مبينا.

ومن مزايا السلالات الحاكمة الأصيلة، عبر العصور، قابليتها للأخذ بأسباب الرقي والتمدن، ومرونة مؤسسات دولتها وأجهزتها في بناء التراكمية بالتعلم والتدرب وتطوير القدرات واكتساب المهارات، ومن الطبيعى أن تتراكم، مع مرور الزمن، أنماط وسلوك وقواعد الحُكم الحضاري، في ظل تواتر التسليم والاستلام، على مدى فترات أدّت إلى تجذر، جعل من الدولة عميقة، ولتغدو بالتحديث والمواكبة أجدّ وأعمق في رسوخها وأصالتها، وأحدث في منجزاتها ومكتسباتها.

لكل نتيجة مقدمات، ولكل حكم حيثيات، وهناك عُرف اجتماعي وثقافي وتاريخي، مفاده؛ أن التاجر الناجح أهله تُجار ناجحون، وكل صاحب حِرفة أو مهنة متوارثة، مبدع، فأصوله من الأسلاف حتماً مبدعون، وكذلك الحال مع الحكم؛ فمن أهله حُكّام وشيوخ وقادة عالو مقام، يكون كذلك، وربما بزّهم وتجاوزهم؛ بما يتوفر له من كاريزما، وبما تجود به الأرضُ والسماء.

مَنْ اتفقت الشعوبُ على شرعيته، وأجمعت الأمم على زعامته، وترسّخت منذ قرون أرومته، لا وجه لمقارنته بالطارئين الذين يدخلون التاريخ في غفلة، ويخرجون منه خِلسة.

وللدولة السعودية شرعيّة تاريخية، وشرعية شعبية اكتسبتها، بصدقها مع شعبها، وحفاوتها به، وإقامتها للعدل في ما بينه، والعاطفة الشعبية، أصدق ما تختبر به علاقة المواطن بوطنه وقادته.

والثقة في القيادات من آل سعود؛ موضوعية، ففيهم من الخصال العظيمة، والأخلاق الكريمة، ما يعزز مفهوم قوله تعالى (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطةً في العلم والجسم).

لو خضعت دولة ما لحكم الكهنوت، لكان نصيبها الموت، فزمن العِلم، والكشوفات، يتماهى ويتعاضد مع إسلام الوحي والنص النقيّ، ومن الطبيعي أن يحاول الإسلام السياسي، تكريس وإعلاء شأن إسلام الفقه، وأقوال الرجال، كون ذلك يهبه موطئ قدم في بلاط السُّلطة، ليوسّع دائرة الإلزامية، ويقلّص دوائر المباح، ويخوّف الناس من الاحتكام للعقل، ويثير الريبة في من يهدد وجوده، متغافلاً عن إدراك الوعي العام لعداوة الإسلام السياسي للدولة خلال قرون، إذ كلما كانت الدولة حاضرة بقوة ينزوي ويتضاءل، وكلما منحته الدولة مساحة نازعها في اختصاصاتها، ولذا يفاخر بعضهم ببيع العِزّ بن عبدالسلام لحُكّام عصره في السوق.

في ظل الاحتفالات بيوم التأسيس، يجب علينا أن نسأل أنفسنا عن واجبنا الوطني والأخلاقي تجاه دولتنا السعودية وقيادتنا الوطنية، وأتصور أن المرحلة تقتضي؛ الحفاظ على المنجز، والعمل على التطوير والتنوير، وتكريس ثقافة الإنتاج والبنيان، والتصدي لتحريش الشيطان.