-A +A
علي بن محمد الرباعي
المقارنة بين القَصر والعُشة جائرة، فالقصر ضخم، ومُكلف، والعُشة لا تحتاج أكثر من أربع قوائم خشبية، وعوارض، وسعف نخل وأغصان شجر لتفادي السموم، والمطر، والغبار، والقيمة والعبرة، دوماً ليست بالسكن بل للساكن.

تفرض التحولات المخوفة على الأفراد والمجتمعات أنماطاً معيشية غير مألوفة، ملمحها الغالب (التقشف) وتراجع مؤشرات الدخل، ومِن غايات سياسات الترشيد، وكفاءة الإنفاق، تعزيز الاقتصاد، والحد من مظاهر البذخ والهياط، والتوفير، وتغيير مفاهيم ودلالة الكرم ومعطياته.


كان أحد أخوال أبي -رحمهم الله- واسع العلاقات، ومتعدد الصداقات، بين السراة وتهامة والبادية، وبحكم مركزية موقعه السكني بالقُرب من الأسواق، لم يكن ينقطع الضيوف عن بيته، وله ابن عم حريص على الريال، وحريز للمال، وكلما صعد ابن العم على سطح منزله، وشاهد ركايب البدو، في فناء الخال، رفع الصوت بالغِناء (والله يا اللي ما يدبِّر ليدْبَر، وتأكل الغربان من لحم ذرعانه).

ومما ورد في التخريج لحديث امتناع النبي عليه الصلاة والسلام من أكل لحم الضّبّ، تعليلُ المُخرّجين لتجنّب أكله بقوله عليه السلام (ليس بأرض قومي) ما يعني خشيته صلى الله عليه وسلم أن يُعجبه طعمه، ويلذ له، فيألفه ويفتتن به ويُدمن عليه، ثم يبحث عنه فلا يجده، فإما أن يقطع المسافات بحثاً عنه، أو يُكلّف على غيره بطلب توفيره، أو يهين نفسه بالتوسّل، أو يعيش على استرجاع ذكرى اللذة التي لم يعد بالإمكان استعادتها.

ونستفيد من حديث الضّب درساً أخلاقياً وتربوياً، في الاقتصاد، إذ لو تعوّد الإنسان، في معيشته ما لم يعتد، وتعذّر عليه دوام الحال سيقع في إشكالية، بين كلفة الترحال والسفر، أو التكليف على المعارف والأصدقاء، ومما أُثرَ عن كبار السن في منطقتنا (إذا طِري لك فايق، فارع من دونه)، والفائق المكان الخصب للرعي، لكن الذهاب له قد يكون سبباً في الهلاك.

كان أبي عليه رحمة الله، إن لاحظ مبالغات البعض في المناسبات، والأكسيات والولائم، قال (مَنْ تزيّا بزِيّ لم يتزيا به أبيه سيأتي عليه زمان يتمنى الموت فيه). بالطبع الصحيح إعرابياً في المثل (أبوه) وجرى تحويره لضرورة السجع، والمعنى عدم المبالغة، والجنوح لمضاهاة الآخرين، ورحم الله امرأً عرف قَدْرَ نفسه، وقُدراتها.

روى لي صديق أن أحد الموسرين أهدى لأحد جدوده قصراً في محافظة من المحافظات، والقصر كبير، ومتعدد الأدوار، وبه مرافق للعمالة والعاملين، وفي ظل التحوّلات الاقتصادية، وقع الجدّ في حرج كونه ينفق، على مستلزمات القصر شهرياً مبلغاً يفوق إيجار سنوي لمسكن في المدن الرئيسة؛ ما اضطره لبيع القصر، والاستعاضة عنه بشقة، له ولزوجته، كون الأبناء والبنات متزوجين ومتزوجات، ولا يحضرون جميعاً إلا في السّنة حسنة.

من أمثال المكيين (ملّيها خروق وتروق) أي إذا جاعت البطن، ممكن يهدّي جوعها أي أكل، والخروق كناية عن البالي، والشيء المستهلك، والبسيط، ما يوحي بأن البدائل متوفرة، ويمكن لأي منا قطع حبال التشهي، وليس هناك نمط معيشي يصعب تغييره.

ما أدق الأمثال الشعبية، وما أعمق دلالتها، كانت جدتي رفعة رحمها الله، إذا طلبنا ريالاً لشراء حلاوة؛ أو بسكوت ردّت بقولها (البطن ما فيه جميلة ولا معروف).

الترشيد فنّ ومهارة، ولا يعني الحرمان الكُلّي؛ للأنفس والمُعالين، بل تمثّل لتوجيه القرآن (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عُنقك، ولا تبسطها كل البسط، فتقعد ملوماً محسورا). أي؛ ملوماً حال الإمساك وغلّ اليد من السائل وممن اعتاد الأخذ منك والتعامل معك، ومحسوراً عند بسطها للتردي خجلاً وحياءً من العدم والعجز، والمتنبي يقول «الجُودُ يُفقرُ والإقدامُ قتّالُ».

وفي مثل هذه الأزمات، التي تراجعت فيها الاقتصادات، ليس من الملائم لذوي الدخول المتوسطة، والمحدودة، التوسّع في الاستهلاك، أو مجاراة ومحاكاة المُوسّع عليهم، والشركات متى ما شعُرت بخطر تُعيد الهيكلة، وتُخفّض الكُلفة، وتبحث عن مخارج آنية ومستقبلية، حتى لا يتصفّر رأس مالها.

حلول أعوام وعقود التقشف، سيناريو، دوّار ومتكرر عند الأمم والشعوب، والتدرب على التكيّف ضرورة حتمية، وإلا سيتكبد المكابر مشقة أكبر، فلا هو عوّد نفسه على حُسن ترشيد الأداء، ولا الظروف بسطت له كف المرونة بالرخاء.