-A +A
علي بن محمد الرباعي
جرت على لسان البعض مقولة (مُسّ قلبي ولا تمس رغيفي) لضرب مَثَلٍ بمن يقبل الأذى الجسدي، في سبيل سلامة جيبه أو محفظته أو رصيده أو مائدته، وأُرجّح أن قِلّةً قليلة تقبل الاجتزاء من رغيفها، لصالح قلبها ومشاعرها، فيما تظل هناك فئة ترفض فكرة المساس بأيٍّ منهما، ولا تقبل مسّ (قلب ولا رغيف) وهذه منتهى الأنانية، فما سلم عبر التاريخ أحدٌ من مس الرغيف والقلب الرهيف.

الأخذ والعطاء ثنائية تقوم عليها الحياة، ويتوازن بها الكون، ويصح بها جسم الإنسان، إذ كل عطاء بلا أخد مُجْهِدٌ ومُكْلِفٌ ومُمِلّ، وكل أخذ بلا عطاء مُتْخِم ومُثْقِل ومكسّل، والأخذ والعطاء معادلة عادلة، فمن يريد أن يأخذ، عليه أن يعطي، وليس من العدل أن يأخذ إنسان دون عطاء، أو يعطي دون أخذ، والدولة ليست (أباً) جيّاش العاطفة، مهمتها تدليل أبنائها، وتلبية كل طلباتهم، ورغباتهم، وتطلعاتهم، الضرورية والحاجية والتحسينية (الكماليات).


نحن في حقبة تحولات، تقاطعت معها ظروف خارجة عن إرادة الجميع، وتحمل الكُلّ أعباء تقشّف المرحلة واجب وطني، ولو بوضع قانون الترشيد ضمن السياسات، وإدراج مبدأ الادخار في سُلّم الأولويات، والتخلي عن ثقافة الاستهلاك بتطوير المهارات، ومن لم يستطع فعليه أن يدفع ثمن المزيد من الاستهلاكات، ويُعطي عن يدٍ ضريبة الإدمان على العادات.

كل الكائنات لديها قابلية للتأقلم، ومرونة للتعاطي مع المناخات والظروف، والعالم اليوم بأسره على مفترق طرق، وإن تفاوت في درجة الأزمات والإشكالات، إلا أنه يتشابه في نوعها وتبعاتها، وفترات التحولات شديدة الحرج، برغم أن آمالها تتفوق وتنتصر على آلامها.

الإنسان كائن حيّ، تحكمه وتتحكم فيه الرغبات والأهواء، لكنه أميَلُ للحلول العاجلة السهلة مؤملاً أن يكون غانماً لا غارماً، بصرف النظر عن الآثار الشاقة اللاحقة، وبعض المجتمع ضحية ثقافة (الوفرة والطفرة) لا يريد الحفاظ على وجوده فقط، بل يسعى لفرض ذاته، ظناً أن فرض الذات يتحقق بما يملك ويحوز ويجمع من السيولة النقدية، دون إيلاء شيء من عناية للمعرفة والخبرات، لكوننا نتعلم من الصعوبات والإخفاقات أضعاف ما نتعلمه من النجاحات، ولكل حزة لبوسها، وتلك الأيام نداولها بين الناس.

تمر الدول في سبيل التعافي بمراحل ومعالجات، بعضها أشبه بالعمليات الجراحية الحرجة، والمعقدة التي يخضع فيها الجسم للمشرط، دون تخدير، ولم يخل تصحيح وضع من متاعب، تطال العام والخاص، مروراً بمراحل الاستشفاء والنقاهة وصولاً للشفاء التام.

بالطبع نتعرض لتأثير مهول تصبه وتضخه قنوات الميديا، وتفرضه وسائط ووسائل التواصل الاجتماعي، ونحن في مواجهة شرسة مع أعداء غير مرئيين، وأخطر ما في الأمر أن بعضنا يتلقف بمشاعر عزلاء من الوعي بأهمية الوطن وضرورة المحافظة عليه، وافتدائه دون مقارنات ولا مقاربات.

الأخذ دون عطاء أَثَرَةٌ مُكلِفة، والعطاء دون أخذ إيثار ٌمُتكلّف، وحتى علاقتنا مع السماء قائمة على الأخذ والعطاء (من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة)، ونحن اليوم أمام امتحان تاريخي، وفي تحدٍ مع أنفسنا، ومع ظروف التحولات المشوبة بمصاعب ومتاعب، وبقدر ما نستشعر مسؤوليتنا، ونستلهم سيرة الذين بذلوا دماءهم في سبيل عزة وطننا، سنقدم أجمل صورة لحُسن انتمائنا، وننال ما نطمح إليه من انتصار الهمم والعزائم (وإذا كانت النفوس كباراً، تعِبتْ في مُرادها الأجسامُ).

يرد في أمثالنا (فلان ملاك عندما يأخذ، شيطان عندما يعطي).. ولا نود أن نغدو ملائكة، ونعوذ بالله أن نكون شياطيناً، نريدنا إنساناً بكامل إنسانيته عندما يأخذ، وإنساناً بأرقى مثاليته وهو يعطي، فالعطاء محمودٌ أكثر من الأخذ، واليد العليا خير، وفرق بين كائن مستقل وبين كيانٍ كلٌّ على مولاه.