-A +A
نجيب يماني
استفتحت مقالي السابق في عكاظ بعنوان «أحسن العمير.. وأخطأتم يا هؤلاء!!، بإبداء مشاعر الأسف على كمية الشتم والسباب والتهم المتعددة، لصحيفة إيلاف الإلكترونية لنشره مقالاً بعنوان «دعوة إلى إعادة كتابة القرآن الكريم من جديد» بقلم الكاتب العراقي جرجيس كوليزادة. أضيف على ذلك الأسف تعجبّاً وحيرة واستغراباً لما نالني بعد نشر مقالي المذكور، عبر وسائط التواصل الاجتماعي وهاتفي والذي تلقى سيلاً من اللعنات والدعاء عليَّ، والتبكيت وتهم التغريب، وعداوة الإسلام، وقائمة طويلة من مخرجات «الجهل النشط».. فما لكم يا هؤلاء..؟ كيف تقرأون..؟ لا بل كيف تفهمون؟!

ولو أن أي أحد من هؤلاء المتبرعين بالشتم والسباب وتفتيش النوايا وإطلاق التصنيفات المعلبة والجاهزة قد قرأ مقالي بروية ومكث وتمعن بعقل باصر، وفكر نافذ لخرج بقناعة راسخة أنه في وادٍ ومقالي في وادٍ آخر لا يمت إلى واديه بصلة.


ألخص ما قلته بإيجاز ليفهم القارئ ما قصدت بعيداً عن سوء النوايا:

• التأسف على كمية السباب والشتم والتقريع بسبب نشر المقال، والتأكيد على صحة موقف إيلاف، وحجتي أن «ناقل الكفر ليس بكافر» أولاً، وتالياً أن نشر المقال قد يتيح الفرصة للعلماء الكرام وأصحاب المعرفة والراسخين في العلم أن يردوا على صاحب المقال بالحجة الناصعة والبيان المسكت طالما أن الساحة ساحة فكر، والنافذة نافذة مساجلة وحجاج.

• وهي فرصة ثمينة ليعلم هو وغيره أن هذا القرآن أنزله الحق وبالحق نزل، يقول ابن القيم: سئل أحد العلماء لماذا جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن، فأجاب: قال الله في أهل التوراة بما استحفظوا من كتاب الله فوكل الحفظ إليهم فجاز التبديل عليهم، وقال في القرآن «إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون» فلم يجز التبديل عليهم لأنه وكل الحفظ إليه سبحانه وتعالى.

• تأكيد سذاجة وسطحية طرح الكاتب جرجيس كوليزادة، وأن هذه القضية قديمة، وسوّدت فيها صفحات نيرات بالمعرفة، والحجج الدامغة له ولا مثاله ولو أنه قرأ وتمعّن فيها لما احتاج إلى طرح هذه القضية أصلاً، وهذا ما أكدت عليه في مقالي.

• التأكيد على أن مثل هذه القضايا الفكرية معنيٌّ بها العلماء والفقهاء الجهابذة، ولا تحتاج إلى «السوقة والدهماء» من لا يملكون إلا جهد «الهياج العصابي»؛ لأن مثل هذا الهياج هو مطية يستغلها مروّجو «الإسلام السياسي» لتحقيق أهداف ليس من بينها نصرة الإسلام على الإطلاق.

• التأكيد على أن الإسلام دين معرفة، ويحضّ على العلم والتفكير، وأنه لا يدعو على الإطلاق إلى شتم منتقد له، أو سب شانئ، فالحكمة غايته، والدعوة بالحسنى سبيله، وهداية الناس ضالته، وما دون ذلك خروج عن النهج السليم.

• أشرت إلى أننا بهياجنا المفتعل تجاه كل قضية، وثوراتنا الآنية التي يحرك بها البعض العامة ويستنهضهم بالمظاهرات والمسيرات لا نقدم للإسلام شيئاً، ونرسم صورة قاتمة عن معتنقيه، مثل ما حصل مع سلمان رشدي، والدينماركي صاحب الرسوم البائسة، وغيرهم، فكانت ردة فعلنا موسومة بـ«الهياج العصابي» ولم تكن صادرة عن عقل راجح؛ يناظر بوعي، ويجادل بحجة، ويناقش بروية، لأمكننا الخروج بالاحتمالات الإيجابية التالية:

- أولاً: تنوير صاحب المقال «جرجيس كوليزادة»؛ فإن كان صاحب غاية وغرض مشبوه فقد لزمته الحجة، وإن كان صاحب شك ولجاج فقد استبان له الطريق وعليه أن يختار، وإن كان مستفهماً فقد عرف، وفي الحالات الثلاث يكسب الإسلام ولا يخسر شيئاً على الإطلاق.

- ثانياً: بانتهاج الحسنى في القول والرد، مهما كانت درجة التشكيك وغلظة المطروح فإننا نقتدي حينئذٍ بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهديه، فليس فيه غير الرحمة والحرص على هداية الناس بالحسنى ورحابة الصدر وحسن اللفظ.

يأتيه من يطلب منه أن يأذن له بالزني لم يطرده نبي الرحمة ولم يسفه قوله وإنما أدناه منه وحاججه وقال له هل ترضاه لأمك هل ترضاه لأختك حتى اقتنع وامتلأ قلبه بالإيمان تصديقاً لقوله تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

- ثالثاً: أن نشر مثل هذه المقالات أمر إيجابي، لما تتيحه من فرصة ذهبية لعلمائنا ليتباروا في المنافحة، ويظهروا مواهبهم في المعرفة، فإنهم وقتئذٍ يلقمون الشانئين حجراً بالحجة، ويرفعون من وعي المسلمين جميعاً، فنحن هنا بإزاء عنصرين إيجابيين لا واحد.. ولهذا أحث على نشر المزيد من هذه المقالات لينهض علماؤنا بواجبهم الشرعي في الرد الممنهج البصير، ويشيعوا نور الله في الأرض، ويسكتوا أصحاب الغرض والمرض.

- رابعاً: من المهم أن نعلم أننا لن ننصر الإسلام بالصراخ وشتم منتقديه، ولكن بالمعرفة، فمن أراد أن ينصر هذا الدين فليسعَ إلى امتلاك أدوات هذه النصرة، وهي: العلم، والمعرفة، والتفقه البصير، والرزانة، وحسن الطرح، وقوة الحجة، وحسن اللفظ، وطلاقة اللسان، ورحابة المحيا والسجايا.. وغيرها مما يستقطب الآخر ولا ينفّره، ويستألفه ولا يستعديه، فإن هذا الدين مبعوث على الرحمة والشفقة بخلق الله جميعاً، ولم يقم على الغلظة وجفاء الطبع، وسوء المقال.

كاتب سعودي

nyamanie@hotmail.com