-A +A
طلال صالح بنان
إسرائيل لا تعاني فقط من شرعية سياسية وأخلاقية، تُجَرِّم واقع وجودها، هي تعاني (إستراتيجياً) من معضلة «جيوسياسية» تهدد وجودها، نفسه. الخطورة الإستراتيجية الحقيقية، التي تهدد وجود «إسرائيل» تكمن في دقة وحساسية وعدم استقرار إقليمها.

«إسرائيل» محاطة، من جميع حدودها مع اليابسة، بدولٍ عربية. يلي ذلك، محيط إسلامي، يضاعف من قلقها الحقيقي على أمنها. العربُ يحيطون بها، من ثلاث جهات.. وظهرها مكشوف ناحية البحر، غرباً. هذا بالإضافة إلى صغر إقليمها، وضيق عرضها مقارنة بطولها. كما أن علينا ألا ننسى، أن هناك من يشاركها، هذا الإقليم الصغير الضيق، أراضٍ فلسطينية، يعيش بها ما يقترب من ثلاثة ملايين فلسطيني، يشكلون نسبة ليست بالقليلة، تتغلغل لداخل مدنها وحواضرها وبلداتها، في العمق.


«إسرائيل» إذن، من الناحية الإستراتيجية محاصرة من تخومها المباشرة مع «جيرانها» العرب، بالإضافة إلى أنها مخترقة، من الداخل، بكتلة فلسطينية كثيفة ومثقفة تعي حقوقها التاريخية والإنسانية في الأرض والعيش بسلام. هذا الوضع الإستراتيجي بالغ التعقيد لـ«إسرائيل» ساعدها في جلب تعاطف العالم، للتغلب على انعدام شرعية وجودها السياسية والأخلاقية، بزعم أنها محاصرة بمن يتربصون بها من الخارج والداخل، تسولاً للدعم السياسي والعون الأمني، من قبل المجتمع الدولي.

كان الخيار الإستراتيجي لـ«إسرائيل»، هو: العمل على محاصرة محاصريها، بحصارٍ مضاد يمتد على طول أطراف عمقهم الإستراتيجي البعيد، لمواجهة حصارهم لها من تخوم حدودها المباشرة معهم. بلغة «التكتيك» العسكري: العمل على التعامل مع العدو من وراء الخطوط المباشرة معه، لحصاره من أطراف عمقه الإستراتيجي البعيدة. وهذا ما فعلته «إسرائيل»، بالضبط.

«إسرائيل» ما كان لها أن تهزم العرب من جبهات التماس المباشر مع حدود إقليمها الضيق. حتى مع انتصار إسرائيل في أربع حروب مع العرب، خلال ربع قرن منذ إنشائها، إلا أنها لم تتمكن من إحراز نصر سياسي عليهم. كان دائماً العمق العربي الواسع، مجالاً آمناً للعرب، يحول دون إسرائيل وإحراز نصر عسكري حاسم، يجبر العرب التسليم لها والقبول بالتعايش مع واقع وجودها.

الحل: كان أن تقفز خلف تخوم العرب البعيدة، في أطراف العالم العربي، لتُحدث حصاراً مضاداً لعدوها، هذه المرة ليس عن طريق الحرب، بل الردع تهديداً بالحرب، وكذلك عن طريق قوى ناعمة فعالة، بمعونة دولية حاسمة، تحت عنوان براق اسمه (السلام). لكن بدايةً كان الأمر يتطلب إقناع العرب باستحالة النصر العسكري الحاسم عليها، أو كما كان يُقال: إلقاؤها في البحر!

كانت البداية: تحويل أول هزيمة عسكرية لها مع العرب لـ«فتحٍ» سياسيٍ لها. حدث ذلك بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، وما تبعها من توقيع «اتفاقية سلام» مع أقوى جبهة إستراتيجية عربية، تواجهها مباشرة (مصر). كانت مصر تاريخياً هي الجبهة العربية الوحيدة، التي لم تسقط من قبل التتار والصليبين. وكانت فاتحة العصر الاستعماري الجديد من مصر. إلا أنه من مصر أيضاً: تتم استعادة المبادرة ضد أعداء العرب. هذه الخاصية الإستراتيجية لمصر عرفتها إسرائيل ووعتها، في تطبيق خطتها لحصارها المضادل للعرب من تخوم إقليمهم البعيدة، بدايةً من تحييد مصر، بإخراج من معادلة الصراع.

نتيجةً لذلك: «إسرائيل» الآن، نجدها متواجدة في الخليج العربي وبحر العرب والجانب الغربي من البحر الأحمر وفي حدود العالم العربي، من مضيق باب المندب شرقاً إلى أطراف الصحراء الكبرى من ناحية المحيط الأطلسي غرباً. واليوم نجد إسرائيل تخترق أفريقيا، بل ويُنتظر القبول بها كمراقب في الاتحاد الأفريقي.

الحصار الأكثر فاعلية والأقل تكلفة من الناحية الإستراتيجية، هو ذلك الذي يكون من وراء تخوم العدو البعيدة، وليس المواجهة الحدودية العنيفة المباشرة معه.