-A +A
نجيب يماني
كتب الأستاذ مشعل السديري (الشرق الأوسط) بأن الناشط الكويتي مبارك البذالي صرح بأن زواج الممثلين في الأعمال الدرامية يعتبر زواجا صحيحاً، في فتوى أثارت جدلاً واسعاً بين نجوم الساحة الفنية وصناع الدراما، وقد بنى فتواه على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن (ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق وعتق العبد)، مبيناً أن مفهوم الحديث يدل على أن النية ليس لها دور أساسي في الأمور الثلاثة، وأن الممثلة إذا كانت متزوجة وتزوجت خلال التمثيل فقد ارتكبت كبيرة من الكبائر هي وزوجها الحقيقي. فالحديث الذي اتكأ عليه البذالي ليحرم مسألته، حديث اختلف أئمة الحديث في صحته، وفي ثبوته عن نبي الأمة عليه الصلاة والسلام، فقال عنه الترمذي حديث غريب، وجرحه النسائي فقال عنه حديث منكر وأنه كثير المخالفة، وقال ابن حزم منكر الحديث مجهول. وفي تلخيص المستدرك أن فيه لبسا، وقد اتفق على ضعف روايته. قال المحدث الألباني «إن هذا الحديث مما لا يوثق به لأنه موثق من قبل ابن حبان، فالسند ضعيف»، وقال الذهبي حديث موضوع وفيه علل كثيرة، كما ضعفه العدوي في جامع أحكام النساء، وقال إن للحديث شواهد كلها ضعيفة وواهية. أشار إليها ابن حجر في التخليص والشوكاني في نيل الأوطار، والحديث المنكر الضعيف لا يؤخذ به في العقائد والعبادات. إن أعمال المسرح والسينما والتمثيل تهدف إلى التثقيف والتنوير ومعالجة السلبيات القائمة في المجتمع والتغلب عليها عن طريق إيجاد الحلول المناسبة وتوضيح السلبيات والابتعاد عنها لما فيه خير المجتمع ومصلحته العامة. في زمن مضى (ولن يعود بإذن الله) منعت عدة مسرحيات لأن الممثل على المسرح كان يرتدي ملابس نسائية، فاعتبرها «المتشددون» أن هذا فعل محرم اعتماداً على حديث رسول الله (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء ولعن المتشبهات بالرجال)، رغم أن هذا الحديث في معناه الواسع يعني عدم التشبه الحقيقي، وهو أن يصر الرجل في حياته على التشبه بالنساء وارتداء ملابسهن وتقليد حركاتهن واستخدام أنوثتهن وكذلك للمرأة المسترجلة فمقصد الشريعة من لعن هؤلاء هو الديمومة والإصرار وأن تكون لهم عادة، لكن لا يمنع هذا التشبه بغرض التثقيف والتوعية وإهداء المجتمع عيوبه وإيصال رسائل معينة لأفراده ومسؤوليه، فالقاعدة الشرعية تنص أنه (إذا تعذرت الحقيقة يصار على المجاز)، فلو أراد معلم أن يعلم طلبته أداء الصلوات الصحيحة فنوى وكبر وأتى بجميع حركاتها وتفصيلاتها دون وضوء ومن غير استقبال للقبلة بغرض تعليمهم وتعريف طلبته كيفية أدائها صحيحة فهل فعله هذا محرم؟ أو عندما يتلفظ المعلم بألفاظ الطلاق أمام طلبته نلزمه بالطلاق وأنه وقع ونفرق بينه وبين زوجه، رغم أن الكثير من علماء الإسلام يميلون إلى التضييق في إيقاع الطلاق وليس بمجرد تمثيلية فهو لا يقع إلا بتمام الوعي والقصد الواضح إليه، كم من مدرس مثل مراسم الزواج من قبول وإيجاب فهل نلزمه بهذا الزواج وأنه وقع! في كليات الطب يقوم الطلبة بالوقوف أمام جثث الموتى لفحصها وتشريحها ينظرون إلى العورات المغلظة ولمسها وفحصها، وكما نعلم أن حرمة الميت لا تقل عن حرمته حياً، فهل نحرم عليهم تعلم العلم. أخبرنا رسول الله أن الملائكة تلعن من يشير إلى الآخر بحديدة، أو كما قال عندما يشير أحدكم على أخيه بالسلاح فيقع في حفرة من حفر النار. واليوم تقام مباريات بالسيوف بين اللاعبين في رياضة معترف بها لها قوانينها وأعرافها، فهل يقول البذالي إن المبارزة بالسيوف بغرض اللعب والفروسية تدخل اللاعبين النار؟

إن التمثيل في ذاته ليس حراماً، حيث اعتمد القرآن الكريم على الأسلوب التمثيلي في عدة قصص، منها قصة سيدنا سليمان مع النملة والهدهد، وقصة الغراب وهو يحفر يعلم بني آدم كيف يواري جثة أخيه التراب، وإسماعيل وقد فداه الله بكبش عظيم، (رغم أن كل القصص القرآنية هي حقيقة وواقع). إن التمثيل بمفهوم اللغة ودلالتها على المعاني تعني أن ما يجري من تصرفات وحركات وإيماءات الممثلين وأقوالهم وما يعتريهم من انفعالات وأدوار في الحركة والسكون مما يجري على المسرح، هو ليس بحقيقة بل تمثيل وبدل عن الحقيقة يمثل فيها الممثل الحقيقة أو يقربها إلى الأذهان لغرض الترفيه أو الإصلاح أو غيرها من المقاصد. فالقاعدة الفقهية تنص على أن (أعمال الكلام أولى من إهماله)، وإهماله هنا ترك اعتباره وجعله من اللغو الذي لا يفيد بشيء، ولا يترتب عليه ثمرة عملية بإلغاء مقتضاه ومضمونه. فالأعمال كلها بالنيات ولكل امرئ ما نوى وقصد بحق. يقول ابن تيمية (طلاق السكران وعاقد الزواج وعاتق الرقبة) إذا لم يثبت النية الصحيحة الواضحة عن علم وتميز وعقد فلا تصح منه مثل هذه الأعمال (الفتاوي 2/‏125)، وعليه ففتوى البذالي وغيره من المتشددين لا مكان لها في شرعنا الحنيف، يقول نبي الأمة تحرم النار على كل هين لين قريب سهل.


* كاتب سعودي