إبراهيم التركي
إبراهيم التركي




رشيد الخيون
رشيد الخيون




سمير الفيل
سمير الفيل




عبدالمحسن يوسف
عبدالمحسن يوسف




علي المقري
علي المقري




محمد المحمود
محمد المحمود
-A +A
علي فايع (أبها) alma3e@
تحولت الكتابة الأدبية إلى طقوس يكتب عنها الأدباء والكتّاب، في حين غابت القراءة التي قادتنا إلى عالم الكتابة الذي دخل من خلاله هؤلاء الكتاب والأدباء وعاشوا هذه العوالم والطقوس.

في هذا التحقيق الذي هو فكرة مشروع كتاب عن القراءة الحرّة، نقف على بدايات كتّاب وأدباء مع القراءة، متى؟ وكيف؟ نتعرّف من خلالها على قصص وأفكار وتجارب وشهادات لأسماء أدبية لها حضورها في مختلف العلوم والمعارف.


القاص المصري سمير الفيل أكد أن القراءة كانت مؤجلة بالنسبة لطفولته التي ابتدأت بالتلقي الشفاهي، ثم انتبه فيما بعد لمجلتين مهمتين، هما: «سمير»، و«ميكي»، وفي فترة تالية «سندباد» و«كروان». ويضيف أنّ طفولته اقترنت بالفن والأمثال الشعبية وطقوس الميلاد والسبوع وليالي الأفراح؛ حيث تمر فرق الموسيقى النحاسية وهي تزف العريس وتعزف على النوتة القطع الشهيرة: «الغارة الجوية»، «اتمخطري.. يا حلوة يا زينة»، «حواس على نصف الزمارة»، «طالعة من بيت أبوها»، «البنت بيضا وأنا اعمل أيه». نستمع ونصفق ونردد الأغنيات.

أما القراءة فقد بدأت بدولاب صغير كانت توضع فيه القصص وهي غالبا من سلسلة «المكتبة الخضراء»، إذ تعرف فيها على حكايات وأساطير «الجنيات والغيلان» وعلى «سندريلا» و«علي بابا» و«السندباد البحري» و«حلاق بغداد»، إضافة إلى أنهم في المدرسة الابتدائية كانوا يتداولون المجلات ويراسلون أسرة التحرير، ويتعرفون على المكتبة العامة ومنها يستعيرون الكتب بعد وجود ورقة ضمان لموظف مرتبه يزيد على 10 جنيهات، وكانت البدايات بالروايات العالمية.

أما الكاتب والباحث العراقي رشيد الخيون فيؤكد أنه لا يستطيع تحديد الوقت في هذا الشأن، لكنه يرى أنّ بدايته في قراءة كتاب بعيداً عن الفرض والواجب كانت في منتصف السبعينيات، إذ تبلور لديه الميل لقراءة الكتب الخاصة بالتاريخ، وتاريخ الفلسفة، خارج أي تأثير، وخصوصاً الكتب غير المسموح بها، وما كان يوضع في المكتبات تحت عنوان «الممنوعات»، ولا يسمح بالاطلاع عليها إلا بإذن. ويضيف: من أوائل الكتب التي قرأتها باختياري، كان كتاب «نقد الفكر الديني» لصادق جلال العظم، الذي فتح ذهنه في وقتها إلى تجاوز المحرمات في القراءة، فقد كان شبه ممنوع، إضافة إلى كتاب مذكرات جواهر آل نهرو، وكان من اختياراته، وكتاب «ديالكتيك الطبيعة»، لفردريك أنجلس، ورغم صعوبته إلاّ أنّه كان تمرينا على قراءة الكتب الصعبة، التي تحتاج سطورها إعادة وتركيزاً. ويذكر الخيون أنّه سعى بعد ذلك للبحث وبحريته عن الكتاب، ووجد في كتاب حسين مروة «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» خارطة طريق، إذا صحت كما يقول العبارة، إلى الوجه التقدمي في التراث الإسلامي، والأفكار الجدلية فيه، والتزم بعدها بقراءة الكتاب المفروض، والكتاب الذي اختاره.

الروائي اليمني علي المقري يذكر أنه نشأ في بيئة ثقافية يسود فيها الكتاب الديني الإسلامي بكل أصوله وتفرعاته، وكان شغوفاً بالقراءة في هذا الإطار، لأنها تقدم له أجوبة أولية على بعض جوانب الحياة اليومية. ويضيف: كان من المبكر القول بوجود قراءة حرّة بدءاً حيث لم أجد غير هذه الكتب في البيت؛ كما لم يختلف الكتاب المدرسي، أو المنهج التعليمي، عن هذا التوجه التلقيني التربوي حيث لم تكن هناك مكتبة مدرسية للقراءة الحرة، وهي مكتبة عرفتها فيما بعد ووجدت كتبها منتقاة بعناية ولا تخرج عن إطار المعارف المحددة سلفاً والتي تهدف إلى تربية وتهذيب الطفل ليتبع السلوك الاجتماعي التقليدي، ويؤكد أنّ زميلاً له في التعليم الابتدائي تحدث معه عن قصة رائعة قرأها اسمها سيرة الملك سيف بن ذي يزن، فطلبت يومها من أمي أن تطلب من جارنا في القرية أن يشتريها لي حين يذهب إلى مدينة تعز، وهو ما حصل. ليصبح هذا الكتاب فاتحة قراءات لا تنتهي، حتى إنني أتذكّر أن أمي كانت تواجه صعوبة كبيرة في إقناعي لتناول الغداء إذا ما كنت وقتها أقرأ في كتاب!

ويرى المقري أنّ شغفه بالقراءة تربى مع قصص الخيال والبحث عن أجوبة لأسئلة كثيرة، وهو الشغف نفسه الذي قاده إلى المكتبات العامة بعد انتقاله للعيش في مدينة تعز نهاية سبعينات القرن الماضي. ويضيف أنّ المكتبات العامة، في المراكز الثقافية والنوادي، إلى جانب المكتبات التجارية، كانت تتمتع بفسحة من الحرية في توفير الكتاب، مع بعض الأطر الأيديولوجية التي تحاول إقناعه بما يسمونه بالقراءة المنهجية، أي تلك التي تقدم أجوبة جاهزة في كل المجالات من المنطلق الأيديولوجي نفسه، سواء كان ماركسياً أو دينياً، إلا أنّ حبّ المغامرة في القراءة حفّزه على تجاوز كل المحددات الأيديولوجية، وغالباً ما كان يخفي الكتب التراثية عند أصدقائه التقدميين خوفاً من اعتبارهم له بأنه رجعي، كما كان يخفي بعض الكتب الفكرية الحرة عن أقربائه المتدينين خوفاً من اعتباره ملحداً أو خارجاً عن الملة!

أما الدكتور إبراهيم التركي فقد ذكر أنه كان أوفر حظًا من كثيرين في جيله، لأنه ولد في بيئة متعلمة ومنفتحة؛ فوالده (رحمه الله) من أوائل الجامعيين الذين تخرجوا في كلية اللغة العربية، لذلك وعى على الكتب محيطةً به ومعظمها أدبية وشرعية. ويتذكر التركي أنه وجد فيها معظم كتب الدكتور طه حسين، والأستاذ مصطفى صادق الرافعي، والعقاد، ومحمد مندور، عدا دواوين المتنبي وشوقي وحافظ، وروايات يوسف السباعي التي قرأها جميعها في سن مبكرة. ويضيف التركي: اكتملت الدائرة القرائية بمكتبة المدرسة الفيصلية بعنيزة، وأستعيد منها في الصف الرابع الابتدائي استعارتي قصة (المدينة المسحورة)، وأسفتُ -حين انتقل عمل الوالد إلى حائل ودرست الصفين الخامس والسادس الابتدائي بها- أني لم أجد هذه القصة في مكتبتها، ويعيد الفضل في هذا إلى عنيزة التي درس فيها المرحلتين المتوسطة والثانوية بمعهدها العلمي، وكان جوّها قرائيًا بامتياز؛ فالمكتبة كبيرة ولحسن طالعه أن صار بين الطلبة أحد أمنائها مع وجود مشرف من الأساتذة، كما كانت جوائز التفوق العلمي ومشاركات النشاط كتباً فتكونت لديه مكتبة صغيرة خاصة في وقت مبكر.

عدوى القراءة

أما الكاتب والشاعر السعودي عبدالمحسن يوسف فيعيد الفضل في تعلّقه بالقراءة إلى الشاعر والأستاذ إبراهيم مفتاح الذي نهل من يديه ينابيع اللغة العربية، وحب الأدب والكلمة الجميلة والنصوص الراقية والشغف بالكتب، إذ كان حريصا على إصابتهم بعدوى القراءة ومطاردة أطياف الكتب الممتعة وهي كانت شحيحة في ذلك الزمن الصعب، فقد كان مفتاح كما يقول يوسف في حصة «التعبير» يقرأ على مسامعهم قصة جميلة مترجمة إلى العربية لموباسان، أو ديكنز، أو أندريه جيد، أو شتاينبيك، أو سومرست موم.. (كنا في الصف السادس الابتدائي حينذاك)، وكان الأستاذ مفتاح يقرأ تلك القصة المختارة من مجلة «قافلة الزيت» التي تصدرها شركة أرامكو.. (وهي المجلة الوحيدة التي كانت تصل إلى مدرستنا في ذلك الوقت البخيل بأرغفة الثقافة.. فيما بعد بسنوات، أضحت تصلنا مجلة «اقرأ» ومجلة «اليمامة»).. وكان يطلب من كل طالب في الصف إعادة سرد القصة بأسلوبه، في البدء شفاهة، وفي الخطوة الثانية كتابة في الكراسة، وكان يتعب كثيرًا في تصحيح ما كنا نكتبه في كراساتنا الصغيرة، ولأنه كان شاعرًا ومتذوقًا للشعر فقد كان يحثنا على قراءة الشعر الجميل كما كان يحثنا على متابعة الإذاعة خصوصا إذاعة لندن وبرامجها الثقافية المتنوعة، ودائمًا كان يسألنا في كل صباح ماذا حصدنا من تلك الإذاعة، وكان يقتادنا من أهداب أعيننا لقراءة ديوان المتنبي وديوان أبي تمام مثلا ونحن في تلك السن المبكرة. ويضيف يوسف: من الأسماء المؤثرة في حياتي الأدبية الذي حرضني على الشغف بالكتب الصديق الشاعر حسين سهيل (رحمه الله) الذي لم يكن يبخل علينا بكتبه وبالمجلات التي كانت تصله من مدن المملكة البعيدة، إضافة إلى القاص والمثقف أحمد إبراهيم يوسف الذي كان يرسل لي كل الملاحق الثقافية التي تصدر عن أهم الصحف في المملكة من جدة إلى فرسان، كما كان يهدي لي أهم الكتب في الشعر والرواية والقصة القصيرة، وأهم المجلات الثقافية الجادة مثل مجلة «اليمن الجديد»، ومجلتي «الأقلام» و«الطليعة» العراقيتين، و«إبداع» المصرية وسواها.

استثناء يكسر صلابة الرتابة

أما قصّة الكاتب محمد علي المحمود مع الكتاب فقد كانت غريبة بعض الشيء، إذ يؤكد أنها ارتبطت بفيضان وادي الرمة بما يشبه الطوفان وعمره 12عاماً بعد أن ملأ هذا الوادي تجاويف القرى القصيمية، وتخلل كثبانها الرملية، وكان أهل القصيم يخرجون إلى ضفاف مجرى الوادي الأعظم منتشين بولادة طبيعية لا تتكرر إلا كل 30 أو 40 عاما، حينما خرج بهم والده مع الناس ليقفوا على أحد التلال الرملية التي تحيط بها المياه/‏ الاستثناء الطبيعي من 3 جهات، وكانت حالة استثناء تكسر صلادة الرتابة الاجتماعية، ينزل الجميع إلى قرب الماء، ويبقى المحمود في مقعد السائق متخيلاً نفسه يقود السيارة. ويضيف: أثناء عبثي بهذا وذاك من مقود وغيره، رأيت أمامي كتابا قديما قد تمزقت دفتاه، وبعض أوراقه على وشك التمزق. أبدأ القراءة به عابثا، أجد فيه كثيرا من الأخبار عن تاريخ العرب القديم، وعن أخبار طسم وجديس، عن العرب العاربة والعرب المستعربة، أين عاشوا وكيف هلكوا، تشدني القراءة فيه، وأندمج فيه تماما، رغم أني لم أُقم أي علاقة مع أي كتاب من قبل، إذ كانت علاقتي بالكتاب المدرسي المكروه علاقة نفور. كرهت الكتاب المدرسي إما لكونه مفروضا، ونفسي تضيق بكل ما يُفرض عليها، وإما بسبب أننا نفتح الكتاب المدرسي في مدارسنا على إيقاع ضربات العصي السادية (حيث كانت مدارسنا أشبه بمعتقلات التعذيب منها بمحاضن التعليم والتهذيب) فنشأت علاقة سيكيولوجية شرطيّة بين العذاب والكتاب. ويؤكد المحمود أنه استمتع بالكتاب الذي قرأه بحرية كاملة، لأنه كان سهلا ومُسلّيا رغم كونه يتحدث عن موضوع غريب بالنسبة له، وهي أول تجربة كما يقول أحس فيها بأن الكتاب يمكن أن يمنحك سعادة تتجاوز بك جمال المكان الربيعي الذي تنتشي به أسرتك من حولك، لذلك بدأ يقرأ فيه، ويكرر القراءة في كل رحلة برية، حتى تمزّق الكتاب على يديه.