أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/323.jpg&w=220&q=100&f=webp

عبدالسلام الوايل

الدولة السعودية.. الحاجة لسردية جديدة

الدولة السعودية ظاهرة تاريخية، فقد تأسست، كما هو معروف، ضمن سيرورة تاريخية طويلة ومعقدة. لكنها لم تنل الدراسة التاريخية التي تستحقها كظاهرة فريدة في تاريخ العرب الحديث. وأقصد تحديداً بكونها معقدة وفريدة، أنه فجأة وبعد خلو طويل من السلطة المركزية لمنطقة وسط الجزيرة العربية ظهرت سلطة مركزية كبرت شيئا فشيئا وحكمت جلّ أراضي الجزيرة العربية وأنها لم تكن ظاهرة عابرة، بل اتسمت بالاستمرارية، كما تبين حقيقة عودتها للانبعاث مرتين بعد اندثارها. هذا الاستمرار والانبعاث مرة بعد أخرى والقبول المجتمعي بها، المتمثل بالمناصرة الاجتماعية الواسعة في كل مرة تبدأ من جديد والانضواء تحت بيرقها، كلها عناصر لظاهرة تاريخية تستحق كتابة سردية تاريخية قادرة على النفاذ إلى جوهر هذه الظاهرة والقبض على سر انبنائها أولاً واستمرارها ثانياً.

السردية الرائجة هي أن الدولة السعودية نتجت عن تحالف الأمير والشيخ سنة 1744م. هذه السردية لا تاريخية. لماذا هي غير تاريخية؟ ببساطة، لأنها غير قادرة على استقصاء ووصف وتحليل التطورات التاريخية التي مرت بها المجتمعات الصغيرة في وسط الجزيرة العربية وأدّت في النهاية إلى تطلّب وجود سلطة مركزية، أتت الدولة السعودية كتعبير عنها واستجابة لها، كتجسيد نادر لبزوغ الدولة من حاجة المجتمع وكتتويج لتطوره وتعقّد بناه. بتعبير آخر، الدولة السعودية تستحق سردية تاريخية تبرزها كظاهرة اجتماعية تاريخية أتت كاستجابة لحاجة مجتمعية وتعبيراً عن تطور المجتمع ونضجه وبلوغه درجة تطلّب «دولة». سردية كهذه، عفواً عن عمقها من الناحية العلمية البحتة، فإنها غنية بتفاصيل التطور الاجتماعي وتعمّق شرعية النظام السياسي للمملكة من نواحٍ أخرى، إذ أي شرعية أكبر من أن يكون النظام السياسي تتويجاً للتطور الاجتماعي للمجتمع واستجابة لحاجاته وتعبيراً عن طوره الجديد. لكن ما هو هذا الطور، الذي نزعم أن المجتمع بلغه عشية لحظة تأسيس الدولة السعودية في النصف الأول من القرن السابع عشر؟

الإجابة عن هذا السؤال تستدعي عودة سريعة إلى تاريخ وسط الجزيرة العربية. فمن المعروف أن هذه المنطقة ومنذ منتصف القرن الخامس الهجري تقريبا كانت بلا سلطة مركزية تحكمها. وكان يتم إخضاع بعض أجزائها للدويلات التي كانت قاعدتها الأحساء، كالقرامطة والعيونيين والجبريين، بلغة علامة الجزيرة حمد الجاسر. وحتى الأخيضريين الذين حكموا في اليمامة لقرنين تقريبا (من منتصف القرن الثالث الهجري حتى منتصف القرن الخامس) لم يكن سلطانهم تاماً على كامل الإقليم، فالذي يُفهم من كلام ناصر خسرو عن الأفلاج، التي أقام بها لأشهر قبل ألف عام بالضبط، أنها لم تكن تخضع لسلطان قوي قاهر رغم أن حكم الأخيضريين كان قائما وقتها في الخضرمة، قريبا من مدينة الخرج، فإذا لم يكن حكم الأخضيريين تاماً على الأفلاج القريبة من قاعدة حكمهم فكيف هو الأمر على المناطق الأبعد في منطقة نجد؟

لقد كان غياب السلطة المركزية لقرون هو الحقيقة السياسية الثابتة في هذه المنطقة. استمرار غياب سلطة مركزية مؤشر على أن النسيج الاجتماعي في وسط الجزيرة العربية طوال هذه القرون لم يكن معقداً بما يكفي لتطلّب إنشاء سلطة مركزية والخضوع لها والمساعدة في إنجاحها ودوامها. سبعة قرون مرت بين انتهاء سلطة مركزية قوية في اليمامة، أي الأخيضريين، وظهور الدولة السعودية الأولى. أي، سبعة قرون من الفراغ السياسي. ما الذي حدث بالضبط وهيأ الظروف لظهور دولة في وسط الجزيرة العربية، دولة منبنية ذاتياً وبعوامل داخلية بحتة دون تدخل قوى خارجية واتسمت بالاستمرار والديمومة والعودة السريعة بعد كل سقوط؟

في القرن الثالث الهجري، أنشأ الأخيضريون حكما لهم في اليمامة، ناقلين قاعدة الإقليم من حجر اليمامة (الرياض) إلى الخضرمة (بجانب مدينة الخرج) واستمروا في حكمهم لقرنين وربما أن لتعسف الأخيضريين، إضافة لحقيقة تجاهل مراكز الخلافة في دمشق وبغداد للإقليم، دورا في ذلك فقد شهد حكمهم هجرات جماعية من إقليم اليمامة لخارج الجزيرة العربية هربا من بطشهم، ثم عادت تلك المجتمعات تتطور ويتجه بناؤها نحو التعقيد بحيث إنها احتاجت، وفقاً لمنظور العقد الاجتماعي، إلى وجود دولة تفرض الأمن والاستقرار.

الدكتور عويضة الجهني، في رسالته للدكتوراه عن أحوال نجد في القرون الثلاثة السابقة لظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، تتبع بدأب بحثي مثير للإعجاب التحولات المناخية والحركات السكانية في منطقة نجد خلال تلك القرون. مجمل عمله أن المنطقة شهدت تحسناً في الأحوال المطرية جعلتها أخصب من عصور سابقة وأن ذلك ترافق مع تحركات مجموعات قبلية من الحجاز إلى نجد. ترافق ذلك مع استقرار مجموعات قبلية قديمة، عدة تجمعات لتميم، وتحولها من الضعن للاستقرار وإنشاء البلدات في وسط نجد. هذه التحولات، المناخية ثم السكانية، أدت في النهاية لتغير في البنية السكانية للإقليم، فقد زادت كثافة السكان من ناحية وزادت بالذات البلدات والقرى والمستوطنات التي يعمل أهلها بالزراعة والتجارة من ناحية أخرى.

الدكتور خالد الدخيل، أيضا في رسالته للدكتوراه، راكم على شغل عويضة الجهني واستكنه التأثير السياسي لهذا التحول وخرج بنظريته التي ملخصها أن البلدات والقرى النجدية القديمة والناشئة تعود في أصولها لعدة قبائل. أسر من عدة قبائل إما تسكن في بلدة واحدة أو في بلدات متقاربة، مما أدى، بلغة الدخيل، إلى «تصدع القبيلة». هذه المجموعات المنتمية لعدة وحدات قبلية صارت محتاجة لتنظيم سياسي فوق قبلي، أو عابر للقبيلة. ولن يكون إلا «الدولة».

لقد ناقش رواد «العقد الاجتماعي» طويلا ظاهرة الدولة متسائلين بالذات عن أصول شرعية النظام السياسي. وكما يشير هوبز، فإن الحرية سمة للمجتمع البسيط. لكن هذه الحرية، مع الكثرة السكانية واتجاه المجتمع للتركيب، تصبح مصدر تهديد لحياة الناس، بالذات لأمنهم. لذا يبحث السكان عن سلطة يتنازلون لها عن شيء من حريتهم من أجل أن تضبط الأمن. هكذا تكون الدولة تعبيرا عن حاجة السكان ونابعة منهم. إنها تنظيم «عضوي» نابت من المجتمع، من سيرورته وحاجاته. وكما يلاحظ المختص في تاريخ الحركة العلمية في منطقة نجد د. راشد العساكر، فإن الذي غلب على المشاغل الفكرية لمشايخ نجد وعلمائها في القرون العاشر والحادي عشر والثاني عشر الهجري لم يكن ملاحظة نقص تدين الناس. بل نقص الأمن لديهم.

تطورت بُنى المجتمع النجدي وتكثف عدد سكانه وزادت مستوطناته وشهد حركة هجرة وافدة للقبائل من ناحية وتكثفا في الاستيطان والتحضر من ناحية أخرى وتساكنت القبائل في هذه المستقرات ووسعتها فصار في هذه المنطقة مجتمع بحاجة إلى سلطة تجلب الأمن وتحمي الطرق والتجارة، فالهياكل السياسية البسيطة في البلدات لم تعد قادرة على الوفاء بالوظيفة السياسية لمجتمع يتطور بنائياً باستمرار. المجتمع صار بحاجة إلى دولة تبسط سلطانها على الكل وتوفر الأمن، وكان محمد بن سعود، والحكام من ذريته، هم التجسيد التاريخي للوفاء بهذه الوظيفة المجتمعية. الدولة السعودية كانت بنت التطلع والترقب المجتمعي، ظهرت ثم كبرت ودامت وانبعثت بعد كل سقوط لأنها استجابة لحاجات المجتمع ولأنها نبته الخالص.

هكذا كان التطور التاريخي وهكذا يجب أن تكتب سردية نشوء الدولة السعودية. فهل نعيد كتابة السردية؟
00:19 | 6-02-2022

في ترشيد خطاب العداء

الصديق والكاتب في جريدة «الحياة» أحمد الحناكي كتب مقالاً السبت الماضي بعنوان «مَن عدونا الحقيقي؟» يعترض فيه على تغريدة لي نصها «تطفح خطاباتنا بعداء الغرب، ميل تلقائي لهذا العداء، ما نعيشه يبين أن العدو الحقيقي هو روسيا. خطيئة الغرب تنحصر في دعم إسرائيل واللامبالاة»، وعلى تغريدتين أخريين للدكتور توفيق السيف ولي عن الموضوع نفسه. وإذ أشكر الصديق أحمد على إثارة الموضوع وتوسيع النقاش حوله، سأطرح في هذه المقالة رأياً موسعاً في الموضوع.
الصور المشكلة لماهية أمريكا في أذهاننا مبنية على أساس حقائق تاريخية حول طبيعة حضورها في منطقتنا في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وليس على أساس حقائق خاصة بها كأمة ودولة عظمى. وعادة ما تتشكل المواقف والاتجاهات حيالها على أساس هذا الوعي المُثقل بحمولة التاريخ. هذا التشكل يجعل «المسألة الأمريكية» محفوظة أبداً داخل مقاربات لا تريم عن نعت أمريكا بأوصاف العداء أيًّا كان نهجها الآني في المنطقة.
بالعودة إلى مقال الحناكي، يرى أحمد أن أمريكا «عاثت وتعيث فساداً في المنطقة منذ ذلك التاريخ (أي بعد أحداث سبتمبر الشهيرة) بشكل أكثر شراسة من قبل»، فيما يرى أن عدم تدخلها في سورية لأن «بقاء الوضع الفوضوي هناك في مصلحتها ومصلحة العدو المحتل». إنها الصورة الشائعة ذاتها: أمريكا شريرة لإرسال قواتها إلى العراق وأمريكا شريرة أيضاً لعدم إرسال قواتها إلى سورية. من البديهي إدانة أمريكا على احتلالها المتغطرس للعراق، كما أن من البديهي أيضاً إدانتها لقلة اكتراثها بالمأساة السورية. لكن علينا حين نفعل أن ننطلق من مقاربة متجانسة، والأهم حيوية ومرنة. مقاربة قادرة على تقديم تفسيرات ذات صدقية لكل من هجوم أمريكا على العراق وإحجامها عن لجم الأسد.
لقد عبّرت أمريكا اليمينية المحافظة المجروحة عن غضبها من هجمات سبتمبر بغزو ظالم غاشم للعراق تلاه إدارة بالغة السوء. ترك هذا كله أثره على المزاج الشعبي الأمريكي الذي ملّ التدخلات الفاشلة في الشرق الأوسط، فاختار قائداً يرى أن التوسع الإمبراطوري المبالغ فيه في غير صالح بلاده. وبناء عليه، طور منظوراً إستراتيجياً قليل الإيمان بجدوى الاستثمار السياسي في منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد المآلات السيئة للربيع العربي.
هيلاري كلينتون أفصحت عن نقاشاتها مع أوباما حول المسألة واختلافهما عليها. أوباما، حامل الذاكرة الملذوعة من تهور بوش، جادل وزيرة خارجيته بأن تدخل أمريكا في حرب أهلية محض انجراف نحو مستنقع لن يقل عن مستنقع العراق. ليس أوباما وحده من يرى ذلك. كل العقل السياسي الأمريكي تغير بعد تجربة العراق. لا كلينتون ولا ترامب في وارد إرسال قوات برية إلى المنطقة مجدداً. ببساطة، أمريكا تعلمت من قسوة الدرس العراقي، وإن كانا أقل من أوباما تبنياً لنهج الانكفاف عن لعب أي أدوار. فكلينتون مثلاً مع تدخل جوي نشط.
نحن إذن أمام سرديتين لتصرف أمريكا في العراق وسوريا. الأولى ترى أن سلوكها تحكمه إستراتيجية واحدة متماسكة قصدها إحداث الفوضى ونشرها. فيما ترى الثانية أن تصرفها في سورية رد فعل لفشلها في العراق. ما هو الفارق بين السرديتين؟ السردية الأولى ذات رؤية جامدة لدولة هي الأقوى في عالم اليوم من ناحية وهي الحليف التاريخي للمملكة العربية السعودية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية من ناحية أخرى.
هذا الجمود يفوّت الفرصة لاستثمار التحولات التي قد تطرأ على المنظور الإستراتيجي لدولة تتداول فيها السلطة، الأمر الذي يسمح بتعاقب رؤى مختلفة لماهية مصالح الدولة وسبل تحقيقها، وهذا ما يفسر تقلّب سلوكها بين التدخل الظالم والإحجام اللامبالي. الفهم لسلوك دولة ما بوصفه تحولات ونتيجة لتفاوضات داخل دوائر الحكم إضافة إلى طبيعة التطورات التي تعيشها منطقتنا تجعلان من غير المفهوم، بالنسبة لي على الأقل، الاستمرار في إعادة إنتاج الخطاب المعادي للغرب. فمصالحنا، ونون «النحنية» هنا لا تعود إلى العرب بشكل عام بل بطبيعة التحالفات التي نشطت في الخمس سنوات الأخيرة، كالتحالف العربي في اليمن ومن يطالبون برحيل الأسد، تتطلب منّا أن نرّشد معرفتنا و«نحدّثها» لتتوافق مع المتغيرات التي تطرأ.
الجذور السياسية لعدائنا للغرب تعود لسلوك القوى الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى ثم للنصرة الأمريكية الظالمة لإسرائيل، والتي نكتت في وجداننا جرحاً لا يندمل، خاصة منذ ستينات القرن الماضي. أدرك هذا. لكن إدامة هذا العداء خطأ كارثي. فاليابان سامت الكوريين سوم العذاب أثناء استعمارهم والأمريكان ألقوا قنابل ذرية على اليابان. والثلاثة اليوم جزء من تحالف رأسمالي عولمي. الغرب لا يساعد الأسد. وأمريكا حليف في «عاصفة الحزم». الغاضبون من انسحاب أمريكا الأوبامية في منطقتنا لا يقلون عن الغاضبين من تدخل أمريكا البوشية.
إن خصمنا الآني الذي بدأنا نستشعر بشبه خطر وجودي منه، أقصد إيران، يتسق في تحالفاته وحتى في أنشطته العسكرية، على الأقل حتى الآن، مع روسيا وليس مع أمريكا. تقّصد الخطاب أمريكا بالعداء وإهمال حقيقة أن روسيا هي من يدك المدن السورية بالحمم هو ما يثير حيرتي أولا وآخراً. لا أظن أن لغة الخطاب اليومي في إيران تتزنر بعداء روسيا، فالقوم يدخرون الروس لقادم الأيام. الأدهى إن كانوا يخططون لتجيير الأمريكان لصالحهم أيضاً، كما يوحي مقال وزير خارجية إيران في النيويورك تايمز الثلاثاء الماضي.

salam22@gmail.com
22:08 | 14-09-2016

احتفالات القرقيعان والعيد.. نُذر التغير الاجتماعي تهب

تميزت آخر ليالي رمضان وعيد الفطر هذا العام عن الأعوام السابقة بإقبال مجتمعي واسع على الاحتفال بها عبر طقوس فرح جماعية. وتنوعت طرق الاحتفال بشكل دلَّ على عمومية الظاهرة وكثافتها. أزعم، في هذه المقالة، أن المشاركة المجتمعية الواسعة في احتفالات العيد علامة على تغير اجتماعي عميق بدأ يشهده المجتمع السعودي أخيراً. السمة الرئيسية لهذا التغير هي تحرر مناشط الترفيه من سيطرة هاجس التأثيم على طرق تنظيمها.
شاهداي على هذا الزعم هما كل من القرقيعان وطرق تنظيم بعض فعاليات العيد في مولات في جدة. إذ لوحظ تزايد كبير في تنظيم الأحياء في مدينة الرياض لطقس «القرقيعان/ الحوامة»، وهو النشاط الذي تعفف عنه ولعقود من قبل أسر كثيرة، إما بسبب القطيعة التي أحدثتها سنوات الطفرة مع أساليب الحياة التقليدية أو، لاحقاً، بسبب انتشار فتاوٍ بحرمة هذا المنشط. وفيما أن بعض القرى، خصوصا المنتظم اجتماعها العمراني على أساس التجاور القرابي، لم تقطع هذه العادة، فإن انقطعت تقريباً من أحياء مدينة الرياض خلال التقلبات الاجتماعية العنيفة زمن الطفرة وما بعدها. وشهدت السنوات القليلة الماضية عودة خجلى لها. لكن شهدنا هذا العام كثافة لهذه العودة. كثافة في التنظيم وجرأة في الإعلان عنه. إذ شهدت أحياء الياسمين، والصحافة، والملقا، والعليا، والبديعة، وحطين، والغدير، والعروبة في مدينة الرياض تنظيمات بديعة للأطفال وهم يطرقون أبواب البيوت طلباً للحلوى. نظّم الأهالي بأنفسهم هذا المنشط في حدائق الأحياء وفضاءات الحي. ويتأسس هذا المنشط على تكاتف الجيران ومعرفتهم ببعضهم بعضا وتآزرهم لجمع أطفالهم حول هوية رابطة لأهل الحي. ويمكن مشاهدة نماذج لتنظيمات أهلية أخّاذة لهذه المناشط على اليوتيوب. وفي جدة مثلاً، ظهر نوع جديد من الاحتفال يتمثل في فرق موسيقية في المولات. وثمة وسم أيضاً في تويتر عن هذا المنشط. يضاف إلى التنظيم الأهلي التنظيم الرسمي. فقد تعاظم تنشيط السلطات البلدية في المدن للفعاليات. وفي مدينة الرياض مثلاً، صممت الأمانة نوعاً جديداً من الأنشطة الاحتفالية أسمته بالفعاليات الكرنفالية المتحركة، يتضمن مسرحا متنقلا يجوب الشوارع ويدخل الأحياء ليقدم عروضا فلكلورية وموسيقى ومسرحيات ودمى ترقص ولقطات ترفيهية، مما حدا برئيس جمعية الثقافة والفنون الأستاذ سلطان البازعي أن يغرد كاتبا «الموسيقى عادت إلى احتفالات الناس». كما تضمنت الفعاليات جديداً آخر هو «فنون الشوارع» إذ تبارى 12 فناناً على تقديم ألوان من إبداعاتهم في هذا النوع من الفن. التغير النوعي في احتفالات العيد، وبعض هذا التغير من صنع الأهالي أنفسهم، مؤشر على أن الحياة الاجتماعية في السعودية تشهد تغيراً بنيوياً، أي تغيراً عميقاً في تنظيم العلاقات الاجتماعية. إن هذا التغير، في ما أزعم، يتعدى نطاق أنشطة الترفيه المرتبطة بالأعياد ليطال تشكيل المقبول والمؤثّم من الأنشطة الاجتماعية والأفكار المؤسسة لنظرة للحياة وما يجب أن تكون عليه. إنه مجرد مظهر لتغيرات أشمل. سأقدم شرحاً موجزاً لمفهومين في علم الاجتماع ليساعدانا في مناقشة أفضل للزعم الذي طرحته أعلاه. هذان المفهومان هما «البناء الاجتماعي» و«التغير الاجتماعي».
مفهوم «البناء الاجتماعي» مركزي في علم الاجتماع. محاولاً تجنب تجريديته العالية والتباينات الواسعة في معانيه، أقدم البناء الاجتماعي هنا بوصفه القواعد التي تنظم حياة الأفراد وتفاعلهم في مجتمع ما. قواعد تتسم بالثبات والديمومة. والثبات والديمومة هنا لا يعنيان الجمود وعدم التغير، وإنما المقصود قواعد ليست عارضة أو معزولة. لقد شهد المجتمع السعودي تغيرات بنيوية في مفهوم الجيرة (أي القواعد المنظمة لعلاقات الجيران مع بعضهم بعضا) كان من آثارها اختفاء تعايد الجيران (من الذكور) مع بعضهم بعضا في وليمة صباحية تفرش في الشارع. ذاك كان تغيرا بنيويا حدث مع الطفرة. الآن نشهد تغيرات أخرى. من سماتها العودة للمعايدات الصباحية ومسيرة الأطفال في طقس القرقيعان. أهم ملمح في التغيرات البنيوية الأخيرة تحرر النشاط الاجتماعي من هيمنة التأثيم. إن مؤسساتنا (سواء كانت رسمية مثل البلديات أو لا رسمية مثل الجيرة) التي تنظم هذه الأنشطة رفعت التأثيم عن بعض المناشط متيحةً سبلاً جديدة لتفاعل الناس مع بعضهم بعضا، ومقدمة مثالاً على تغير في قواعد تنظيم الأنشطة الترفيهية. هذا مثال على تغير في البناء الاجتماعي. لذا، أصف التحولات أعلاه بـ«تغير بنيوي».
أما المفهوم الثاني، أي «التغير الاجتماعي»، فهو مرتبط بالمفهوم الأول. ويبحث في الطرق التي تحدث بها التغيرات في المجتمع واتجاهات هذه التغيرات، أي هل هي تقدم أم تراجع. وتتنوع الاتجاهات النظرية في شرح التغير وتفسيره. وعلى رغم أن أطروحة مؤرخ العلوم توماس كون في شرح كيفية حدوث الثورات العلمية لا تستخدم كثيرا في مناقشات التغير الاجتماعي، إلا أني، وبحكم تركيزي على التغير في الرؤى والاتجاهات، سأستعين بها لشرح التغيرات الحادثة.
محاولا تقديم تفسير لكيفية حدوث الثورات العلمية، يرى كون أن العلم، أي علم، يهيمن عليه «باراديم»، أي نظرة عامة للحقائق داخل هذا العلم. نظرة تحدد طرق الوصول للحقائق وحل المشكلات، وما هو العلمي وغير ذلك، وما القبول والمرفوض علمياً. مثلاً، فيزياء نيوتن التي كانت فتحاً هيمن على الفيزياء لأزيد من القرنين. مع الوقت تبرز مشاكل داخل هذا العلم لا يستطيع العلم حلها. بل ربما يعتبر طرحها ليس علميا أصلاً. تتزايد هذه المشاكل لتتحول إلى أزمة داخل العلم. تظهر الحاجة لفهم جديد، لبرادايم جديد. حينها تحدث النقلة، تحدث الثورة العلمية. وفق هذا الفهم يقدم كون نظرية النسبية لأينشتاين، التي خلّصت الفيزياء من أزمات فيزياء نيوتن.
يمكن دمج الشرح العبقري لكون مع منظور بنيوي للمجتمع لشرح تحول السلوك الاجتماعي من برادايم إلى آخر. البرادايم المسيطر، مع الطفرة وزيادة معدلات التحضر (بما تعنيه من خلخلة للبنى الاجتماعية القديمة ومجهولية في العلاقات وظهور الاغتراب) ومع توسع التعليم (الذي زاد من قيمة التوجيه الديني للسلوك)، وتوجه حاد للمؤسسات الرسمية منذ أوائل الثمانينات الميلادية، خصوصا مؤسسات التعليم والإعلام، نحو التماهي مع نظرة تطهرّية، مع كل هذه العوامل هيمن برادايم التأثيم على الأنشطة الاجتماعية، وهو ما يُجمَلُ عادة في الخطاب الإعلامي بـ«الصحوة». المؤسسات التي تنظم نشاطات أفراد المجتمع وتفاعلاتهم تقبلت خطاب التأثيم ونظمت الأنشطة على أساسه. هذه المؤسسات قد تكون رسمية، المدرسة والبلدية مثلا، أو لا رسمية، كالجيرة والأسرة. خطاب التأثيم ينطلق من رؤية للعالم هي تطهرية ومعادية في جوهرها للتنظيم الحديث (الغربي/التغريب) للحياة الاجتماعية.
لكن هذا البرادايم راكم أزمات. الحوادث المزلزلة داخلياً وإقليمياً. داخلياً كان الإرهاب. أما خارجياً فكان تحول خطاب التأثيم بأكثر صوره وضوحاً سلطة فعلية على الواقع، عبر سيطرة «القاعدة» و«داعش» على المكلا والموصل والرقة وسرت وما كشفه هذا التحقق من بؤس للحياة الاجتماعية حين تتاح لخطاب التأثيم إمكانية تنظيم المجتمع. وتمثل وقائع الهروب الكبير للأسر لدول الجوار عند أي إجازة مظهرا لهذه الأزمات. ويعد ذكر خطاب الرؤية للتناقض بين ارتفاع مستوى دخل المواطن وضعف جودة حياته، بسبب ضعف مناشط الترفيه، إدراكاً بحقيقة الأزمة التي بات يعرفها برادايم التأثيم هذا. إن النص على الرغبة في جعل المواطنين ينفقون أموالهم المخصصة للترفيه داخل وطنهم، من أجل خلق أكبر للوظائف، في وجه من وجوهه بحث عن برادايم بديل. يترافق مع ذلك توسع التعرف على العالم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بما يعنيه ذلك من تعرض كثيف لسلوكيات وثقافات مختلفة. كل هذه التطورات قلّصت من جاذبية برادايم التأثيم وجعلت الإمكانية مشرعة لبرادايم آخر يتيح للمؤسسات (رسمية ولا رسمية) تنظيم قواعد مختلفة للسلوك والتفاعل الاجتماعي تعد بتمكين أكبر لفئات اجتماعية أوسع بعيش لحظات الفرح والتعبير الجلي عنها بلا تحرج. ويمكن أن يُرى كل من قصر صلاحيات الضبط والتوقيف على جهاز الشرطة وإنشاء هيئة عليا للترفيه باعتباره تغيراً في البناء الاجتماعي مكّن المؤسسات اللارسمية والأفراد من التفاعل خارج برادايم التأثيم الذي كان يضبط بصرامة مثل هذه التفاعلات.
ليست الأساليب الجديدة للفرح بالعيد والقرقيعان هي فقط الدال على اجتماعي. هناك شواهد أخرى. لنتأمل في انكسار حدة الخطاب المجتمعي السلبي حيال الفن، كما في حالة الخطاب والنقاش حول مسلسل «سيلفي» مقارنة بالخطاب عن مسلسل «طاش» قبل سنوات مثلاً. ولنستدعي الإقبال الواسع على خطاب ديني لا تأثيمي، برنامج عدنان إبراهيم، «صحوة»، وظهور خطاب مشيخي متسامح حيال بعض السلوكيات الترفيهية، كفتاوى المغامسي والكلباني عن حل الموسيقى. هذه الأمثلة وغيرها تجل من المشروع الزعم بأن مجتمعنا يشهد تغيراً اجتماعياً بنيوياً عميقاً. وبأن هذا التغير يتسم بتحرر المؤسسات الناظمة للأنشطة الاجتماعية وقواعد السلوك من التنظّم وفقاً لمنظور التأثيم، الذي هيمن لعقود.
20:52 | 15-07-2016

داعش ليست فقط إرهاباً.. إنها أيضاً إدارة متطرفة للمجتمع

تتعرض المملكة، كما هو معروف، لهجمات إعلامية وفكرية وسياسية خطيرة بسبب الربط بين تعاليم الشيخ محمد بن عبدالوهاب وخطه العقدي وبين ظاهرة الإرهاب. وبعكس ما يحب أن يذهب إليه كثيرون بتقديم عرائض دحض لهذا الربط، فإني أرى أن أفضل خدمة تقدم للوطن هو تقديم فهم لهذه الدعاوى، على ماذا ترتكز وما شواهدها، من أجل تصحيح مزدوج، قسم منه يذهب لتوعية الخارج وقسم منه ينتبه لما يتوجب علينا عمله لقطع أي صلة، غير مباشرة طبعا، بين كياننا الوطني وبين الظاهرة الإرهابية التي تتهدد العالم وتثير فيه أشرس الردود وأشدها حنقا. ومن أجل تقديم مزيد من الفهم لماهية هذا الربط ومقوماته، سأركز في هذه المقالة لا على العلاقة بين نصوص لهذا الخط العقدي أو ذاك وبين الظاهرة الإرهابية بل على التشابه بين تنظير الخطاب السلفي بعمومه لما يجب أن يكون عليه تنظيم المجتمع وبين ما أحدثته كل من «القاعدة» و«داعش» من تغييرات في النظم الاجتماعية للمجتمعات التي حكمتها. ولا يغيب عن بالنا أن الغرب لا يفقه كثيرا في دقائق التعاليم الفقهية والعقدية ولا يأبه للسياق الذي قال فيه ابن تيمية أو ابن القيم أو ابن عبدالوهاب هذا النص أو ذاك والحالات التي يمكن أن تستعمل فيها هذه النصوص. كل ما يقوى الغرب على إدراكه هو عقل المتشابهات، كما يراها متحققة في المعاش اليومي وربطها بخلفياتها العقائدية والفقهية.

ثمة ملاحظة جديرة بالاهتمام تتمثل بأن الربط بين المملكة والظاهرة الإرهابية لا يقوم، في جانبه الأكثر تأثيرا، على الادعاءات الجوفاء بوجود علاقة بين حكومة المملكة والظاهرة الإرهابية. بل إن هذا النوع من الربط هو الأقل تأثيرا وضررا على المملكة، لوضوح تهافته وبالتالي لعدم رواجه بين كل من الدوائر البحثية الرصينة وصناع السياسة. فالمملكة، خصوصا على المستويين السياسي والأمني، من أكثر اللاعبين الدوليين مشاركة في مكافحة الظاهرة الإرهابية، كما هو معروف. إنما يقوم، أي الربط الأكثر تأثيرا وانتشارا هذه الأيام، على رصد المشتركات والمتشابهات في ما أسميه «رؤية العالم» بين كل من أسلوب حياة المجتمع السعودي وتعاليمه الدينية من ناحية وبين أسلوب الحياة المشتهى والمؤمل للجماعات الإرهابية من ناحية أخرى، كما تبدى في طريقة إدارة المجتمع من قبل هذه الجماعات، مثلما هو الحال في المجتمعات التي سيطر عليها تنظيما «داعش» و«القاعدة».

النظرة التي تربط الوهابية بالإرهاب لا تحصر العلاقة بين الإرهاب والأيديولوجيا بتعليمات نصوصية مباشرة. بل تنبني على أساس أن رؤية ما للعالم، كما يتضح في تدبير الشأن اليومي، تفضي في النهاية إلى إيجاد أرضية للعنف حيال المختلف والمغاير. تتبدى هذا الرؤية في مواقف عقدية وفقهية بعيدة كل البعد عن الإرهاب، كالموقف من أصحاب الديانات الأخرى، من ممارستهم لشعائرهم وطقوسهم، أو من المخالف داخل دائرة الدين بنبذه وتكفيره وإخراجه من الملة، أو كالموقف حيال ماهية التعليم ومكانة المرأة في المجتمع وبعض الظواهر السلوكية في المجتمع مثلما تتبدى في الإرهاب سواء بسواء. قبل أن أسرد شواهد على هذا الربط، لنلاحظ، ومن أجل التأطير النظري، أن هذا الربط يجد مصاديقه في ملاحظة تلازم تغير خطاب جهادي إرهابي حيال كل من العنف والقضايا أعلاه سواء بسواء. إذ يلاحظ ماهر فرغلي، وهو الجهادي السابق التابع لتنظيم الجماعة الإسلامية المصري والذي قضى في سجون مبارك 13 عاما وشهد مرحلة تغير خطاب شيوخ الجماعة نحو العنف والإرهاب وتراجعهم عنه، يلاحظ أن تراجع شيوخ الجماعة عن العنف كان مقترنا بتغيرات في خطابهم بقضايا ليست ذات مساس بالعنف. التراجع هناك لم يبدأ بالعنف. بل بدأ بمسألة عقائدية لا علاقة مباشرة لها بالعنف. يقول فرغلي إن التحريم أسقط بداية عن المشي في جنازة المسيحي وعيادته في مرضه. ثم أسقط التحريم عن تهنئة المسيحيين بأعيادهم. لاحقا، تراجع شيوخ الجماعة عن العنف والإرهاب. وعندما تراجعوا، أباحوا الموسيقى، يقول فرغلي. حالة شيوخ الجماعة الإسلامية وتراجعاتها توضح أن الخطاب العقدي/الفقهي المتشدد، الذي يحرم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم كما يحرم الموسيقى والغناء، مؤهل لأن ينتج ذهنيات تتشدد تجاه المخالف لدرجة تصل إلى تشريع العنف ضده. في المقابل، حين يبدأ هذا الخطاب بالتراجع عن استسهال التكفير وتشريع العنف فإن تسامحه يطال قضايا لا علاقة لها مباشرة بظاهرة العنف. التشدد، وكذا التسامح، يطال الهامشي مثلما يطال الجوهري. نقل الموسيقى من خانة الحرام إلى خانة الحلال يتجاور مع نقل التواصل الودي مع المسيحي من خانة الحرام إلى خانة الحلال وكل ذلك يتجاور مع نبذ العنف.

يبدو أن إعلام الغرب وسياسييه ومثقفيه ينطلقون من إدراك شبيه بما لاحظه فرغلي. أي من رؤيتهم لتلازم ما بين الرؤية السلفية للعالم، للطريقة التي يجب أن يدار المجتمع في شؤونه اليومية وفقها، وانتشار القابليات لتبني خطابات العنف والإرهاب. وحين يفعل الغربيون ذلك ليس لأن لهم الإدراك بالمقولات العقائدية والفقهية. إنما يفعلونه بناء على ما يلاحظونه من تلازم بين انتشار أسلوب حياة قائم على المنظور السلفي وبين الظاهرة الإرهابية. سأسرد ملامح من ما يلاحظه هؤلاء الغربيون وعلى أساسه تبنوا مقولة الربط هذه بين الوهابية والإرهاب. وسأحصر الملاحظات في ثلاثة مجالات ليست عنفية، هي: 1- التعليم، 2- ما يجب أن يكون عليه حضور المرأة في المجال العام، 3- بعض المظاهر السلوكية العامة.

ففي التعليم، قام «داعش» بتغييرات في النظام التعليمي في المناطق التي يسيطر عليها تمثلت في إلغاء مواد الفلسفة والموسيقى، وتغييرات كبيرة في مواد العلوم الاجتماعية وإدخال مواد الفقه والتوحيد. كما تضمنت أيضا إلغاء الاختلاط في العملية التعليمية بكل أنواعه، مستثنية تعليم النساء للأولاد في السنوات الثلاث الأولى. بل وشددت على هذه النقطة تحديدا لحد الرفض لتعليم أساتذة ذكور لطالبات إناث في بعض القرى التي لا تتوافر فيها مدرسات في مواد علمية معنية حتى مع التعهد بأن تكون الطالبات منقبات بشكل كامل. إن إلغاء مواد الفلسفة والموسيقى وإبدال مواد معرفية مما أنتجه أعلام السلفية بها وكذلك حظر الاختلاط بكل أنواعه يوجد حالة من الربط التلقائي بين واقعنا التعليمي وبين نظام «داعش» التعليمي.

أما فيما يخص المرأة في عالم «داعش»، فقد تراجع حيز المرأة وحضورها في المجال العام بشكل كبير في الموصل والرقة وسرت وغيرها من مناطق «داعش». وفرض الحجاب الشرعي وأوكل للشرطة مراقبة التزام النساء والأسر بالتنظيمات الجديدة. بل، وكما تبين شهادات الصحفي الجهادي حسين المعاضيدي عن تنظيم «داعش» لهذا الأمر (والواقعة في نحو 300 صفحة) إضافة للصور والمقاطع المسربة، يصر بعض أفراد شرطة «داعش» على فرض النقاب على النساء مهددين من يخالف ذلك بأشد العقوبات. ويمكن أن تتبنى إحدى الدوريات الداعشية هذا الأمر وتفرضه على ركاب سيارة ما، كما في شهادة المعاضيدي، أو على سكان قرية ما، كما في مقطع مسرب من إحدى القرى السورية. الذهن البشري يربط بين المتشابهات من أجل تسهيل تنميطها. وتشابه تنظيم الشأن الاجتماعي يسهل الربط التلقائي في الذهن الغربي بين العوالم التي تلزم النساء بقوة القانون بوضع النقاب بوصفها عوالم مترابطة برابط أيديولوجي واحد ينتج واقعا اجتماعيا متشابها. وتظهر البوسترات التي وضعها «داعش» في شوارع المدن والقرى التي استولت عليها في العراق وسورية وليبيا تشابها عجيبا بين تصورات تنظيم «داعش» لما يجب أن يكون عليه لبس المرأة في الفضاء العام (من تغطية كامل البدن، بما فيه لبس القفازات والجرابات) وبين التصورات التي تبنتها الكتيبات التي كانت توزع لدينا بكثرة قبل عقدين تقريبا. من الأمثلة على هذا الربط ما نقله الصحفي غولدبيرغ من حديث للرئيس الأمريكي أوباما مع رئيس الوزراء الأسترالي، والذي يتحسر فيه على جنوح «الإسلام الإندونيسي» نحو «التعصب والانغلاق» بسبب «مشايخ السلفية ومعلميها وأموالها». أوباما، مثله مثل مئات المقالات والتعليقات الغربية، يشيد دائرة تبدأ ببطون الكتب السلفية ومشايخها وعلمائها لتنتهي برؤية تطهرية متحققة للعالم ترفض أساليب الحياة الحديثة وتقطع معها منتهية بإيجاد القابليات للظاهرة الإرهابية وشيوعها. إن إدانة هذا الفهم جيدة لنا. لكن الأفضل فهم ميكانزماتها وكيفية إنبنائها.

الشاهد الأخير يتمثل في السلوكيات العامة. لقد كانت القاعدة في العراق، حين كانت تتحكم بمدن إبان حياة الزرقاوي، تجلد الحلاقين إن قصوا لزبائنهم قصات غربية بالإضافة على معاقبة المدخنين والتشديد على التحكم الشديد بمختلف أنواع السلوك الفردي. وتبين الشهادات من عوالم «داعش» استمرار النهج نفسه. وبحسب شهادة الصحفي المعاضيدي، فهناك برميل بجانب أول نقاط التفتيش الداعشية في الطريق بين المناطق الكردية والموصل لمصادرة علب السجائر وإلقائها. وكما معروف، فإن لا علاقة للمملكة بهكذا تنطع. لكن التماهي يقام بينها وبين العالم المشتهى و«المثالي» لمصدري خطابات فقهية وعقائدية لا علاقة لهم البتة بالإرهاب والعنف لكنهم لا يفتأون يصدرون مدونات الإدانة والتطهر من أرجاس هذا العالم وأدرانه وخطاياه.

هذه الترتيبات لأسلوب الحياة تفصح عن رؤية للعالم تجمع بين علماء سلفيين وبين ما ترى داعش أنه ما يجب على المجتمع المسلم أن يكون. ومن الملاحظ أن المملكة كحكومة لا تنهج هذا النهج المغالي في كثير من أوجه ترتيب الفضاء العام. لكن من الملاحظ أيضا أن الخطاب السلفي بشكل عام يتقاطع كثيرا في تصوراته لتنظيم الشأن اليومي مع ما نظم «داعش» و«القاعدة» مجتمعاتهما عليه واقعا.

منذ انطلاق دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وحتى اليوم، مرت المملكة بتحديات عدة عبرتها بنجاح. ووجدت القيادة السياسية في المؤسسة الشرعية، أي العلماء الشرعيين، خير معين ومتفهم لضرورات التغير والانتقال، كما يبين تطور الخطاب العقدي للمشايخ ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله عن أسلافهما من علماء السلفية وانفتاحه على عالم الإسلام بكل اتساعه العولمي، بتناغم مع مصالح البلاد ومستجدات العصر. لقد أدرك علماء الدعوة الإصلاحية دائما أن المقصد هو الحفاظ على المجتمع والدولة وعملوا بضمير يقظ من أجل المحافظة على هذا الهدف النبيل. وأظن أنه يمكن لعلمائنا فهم أن كثيرا من تنظيم أمور المجتمع في شؤونه اليومية، كما في المجالات الثلاثة أعلاه، صار خصيصة لمجتمعات التطرف والعنف. وبناء على هذا، فإن مؤسستنا الشرعية خير من يدافع عن الوهابية بفك الارتباط بينها وبين مسارات متطرفة ومغالية للحياة الاجتماعية. ربما يتوجب علينا أن نفحص ترتيبات داعش والقاعدة للحياة الاجتماعية في مدنها وقراها ثم نقرر أن لا نكون مشابهين لذاك التنطع الذي جلبه هذان التنظيمان الإرهابيان للمجتمعات المنكوبة بوقوعها تحت رحمة منظمات القسوة والعنف والدمار.



عبدالسلام الوايل *

* كاتب وأكاديمي سعودي

Email:salam2323@yahoo.com

Twitter: salamalwail

21:49 | 22-04-2016