أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/290.jpg&w=220&q=100&f=webp

علي العميم

باروت والسلفية.. تعليل مقحم ومعلومات تحتاج إلى تصويب

يقوم بحث الدكتور محمد جمال باروت (المؤثرات الفكرية للسلفية على الحركات الإسلامية المعاصرة) المقدم إلى الحلقة البحثية التي أقامها معهد المعارف الحكمية ببيروت في شتاء 2004، تحت عنوان (السلفية: النشأة، المرتكزات، الهوية) الذي أشرنا في مقالينا السابقين: (افتراء على طارق البشري وسرقة منه) إلى فكرته الرئيسة، على تتبع «المؤثر السلفي النجدي، ببنيته المذهبية المغلقة الصلبة في نموذجها المنظومي الوهابي في الوعي السلفي للحركات الإسلامية المعاصرة، ببنيتها السلفية العامة المرنة المفتوحة». ويقتصر تتبعه على الشيخ رشيد رضا وعلى الشيخ حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين وعلى المنظر سيد قطب وعلى المنظر أبي الأعلى المودودي.
يتساءل في تعريجه على الشيخ رشيد رضا، مستنكراً «كيف تمكنت (يقصد سلفية محمد بن عبدالوهاب) من تحويل بعض أبرز ممثلي بنية السلفية المرنة إلى مدافع عن بنية السلفية المغلقة في رؤيتها للآخر، وفي مقدمته هنا الآخر الإسلامي، والذي كان ممركزاً حول الشيعة، مثل رشيد رضا تلميذ الإمام محمد الذي ترتبط به بنية السلفية النهضوية المرنة، الذي كتب كتاباً يدافع فيه عن موقف الوهابية من الشيعة؟».
في سؤاله الاستنكاري هذا اختزل باروت التحولات التي طرأت على فكر الشيخ رشيد رضا في مرحلته الثانية، بموقفه المساجل للشيعة، وبما أنه اختزلها على هذا النحو، ثمة سؤالان منهجيان هما: لماذا لم يرث الشيخ حسن البنا وجماعته، جماعة الإخوان المسلمين، منه هذا الموقف؟! ولماذا اقتصر تأثر المودودي وسيد قطب بالشيخ محمد بن عبدالوهاب -حسب زعمه- على مفهوم الحاكمية، ولم يمتد التأثر إلى موقفه التيمي ــ الحنبلي من الشيعة؟!
يُرجع الأمر في إجابته عن سؤاله الاستنكاري إلى «احتدام الصراع بين الليبراليين القوميين المصريين وبين الإسلاميين في مصر العشرينات، إثر فصل مصطفى كمال بين الخلافة والسلطنة في البداية، ثم فصله التام بين الدين والدولة على الطريقة العلمانية الفرنسية النضالية، وقيامه بالإجهاز على منصب الخلافة». ومرة أخرى، بما أنه اختزل تحولات رشيد رضا بموقفه المساجل للشيعة، ما صلة هذا التعليل بالشيعة؟! هل اصطفّ الشيعة مع القوميين المصريين الليبراليين ضد من أسماهم بالإسلاميين؟! وهل كان الشيعة من المؤيدين لفصل الخلافة عن السلطنة؟!
وهل كانوا من المؤيدين لفصل كمال أتاتورك التام بين الدين والدولة على الطريقة اللائكية الفرنسية؟!
إن تعليله -بصرف النظر عن أنه مقحم- يحتاج إلى تصويب في معلوماته:
أول تصحيح أنه لم ينشأ -فضلاً عن أن يحتدم- صراع بين القوميين المصريين الليبراليين وبين من أسماهم بالإسلاميين، عقب فصل الخلافة عن السلطنة، ذلك لأن النخب المصرية العلمانية والدينية كانت مؤيدة لهذا القرار الذي قام مصطفى كمال به، وكانت مناصرة للكماليين ومناصرة قبلهم للاتحاديين. والمناصرة للكماليين لم تكن مناصرة نخبوية وحسب، بل كانت شعبية.
قد لا يعلم باروت أن الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام عندما خرج من الأستانة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1922، فاراً من الكماليين وحل في أحد فنادق الإسكندرية، ونشرت بعض الصحف المصرية نبأ ذلك، أستقبل هو وعائلته أسوأ استقبال من المصريين؛ فلقد قذفوا بالبيض والطماطم الفاسد وبالقمامة، وصاحوا في وجوههم واعتدوا عليهم بالسب والإهانة والشتم في شوارع الإسكندرية والقاهرة، وأخذت الخطابات والبرقيات تنهال عليه من أنحاء مصر تحمل له في طياتها السب والإهانة، وتصفه بالعداوة للإسلام والمروق من الدين، وتطالبه بالرحيل العاجل من مصر، وهاجمته الصحافة المصرية هجوماً شديداً. (أنظر المقابلة التي أجراها الدكتور مفرح بن سليمان القوسي مع نزاهت هانم ابنه الشيخ مصطفى صبري ومع صديقه علي علوي قوريجي، وطالع نماذج للبرقيات والخطابات في ملاحق كتابه: الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد، وأنظر ص114 من الكتاب).
هذا الاستقبال السيئ له في مصر، دفعه إلى مهاجمة المصريين في العديد من فقرات كتابه (النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والنعمة) الذي أنجزه في 20 مارس 1924 ببيروت، حين أقام فيها إقامة موقتة. وهذا الكتاب -كما يقول ابنه إبراهيم أستاذ اللغات الشرقية في جامعة الإسكندرية- هو استكمال لمناقشته علماء وأدباء مصر وصحافتها في موقفه من الانقلاب الواقع في الأناضول (أنظر المرجع السابق ص 627).
وكان من علماء الأزهر الذين ردوا عليه بعنف حين كتب في ( الأهرام) و(المقطم) مهاجماً فصل كمال أتاتورك بين الخلافة والسلطنة، الشيخ محمد حسنين وكيل الأزهر ومدير المعاهد العلمية، والشيخ على سرور الزنكلوني. ومن أبرز ما كتب في الرد عليه في رأي الدكتور محمد محمد حسين، مقال الشيخ محمد شاكر: (ما شأن الخلافة بعد التغيير)، وقد قدم عرضاً لأهم ما جاء فيه. (أنظر كتابه: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر في جزئه الثاني، ص31 و32 وأنظر المرجع السابق).
الشيخ محمد شاكر حينما كتب رده كان وكيل مشيخة الأزهر السابق، وهو والد المحدث والمحقق السلفي أحمد شاكر، والأديب ذو النزعة السلفية محمود شاكر.
إن حادثة فصل الخلافة عن السلطنة كان لها رد فعل معارض في الهند عند زعمائها المسلمين وليس في مصر. وكان من أبرزها اعتراض الزعيمين المسلمين أغا خان وأمير علي؛ الأول مسلم إسماعيلي والثاني مسلم إثني عشري، وهما رفيقا السير أحمد خان المسلم السني في حركته الإسلامية التحديثية.
ثاني تصحيح، أن الفصل التام بين الدين والدولة على الطريقة الفرنسية النضالية، ويعني به قرار إلغاء الخلافة عام 1924، لم ينشأ عنه صراع بين القوميين المصريين الليبراليين وبين من أسماهم بالإسلاميين، فقد قوبل هذا القرار في مصر على نحو عام بمعارضة تفاوتت درجتها، وقوبل بحزن وأسى، وكان ممن عبر عن حزنه وأساه، محمد حسين هيكل وكان في ذلك الوقت، أحد زعماء حزب الأحرار الدستوريين وأحد المنظرين العلمانيين الكبار للقومية المصرية الفرعونية.
إن الذي أثار جدلاً وخلافاً سياسياً هو عقد مؤتمر إسلامي من أجل الخلافة في مصر، وفكرة نقل الخلافة إليها، وكان هذا الجدل والخلاف حول المؤتمر وحول هذه الفكرة ممتد إلى خارج مصر، فثمة معارضون لعقد المؤتمر في مصر، ولفكرة نقل الخلافة إليها من الزعامات السياسية والدينية في بعض البلدان الإسلامية، سنة وشيعة.
كتاب علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) الذي صدر في عام 1925، والذي هو أحد تداعيات قرار إلغاء الخلافة، وفكرة نقلها إلى مصر، كان هو البداية في نشأة الصراع بين الاتجاهات العلمانية الليبرالية والاتجاهات الدينية.
ثالث تصحيح، أنه استخدم تعبير (الإسلاميين) في مقابل القوميين المصريين الليبراليين، وهذا التعبير استخدمه في غير موضعه وفي غير زمنه؛ لأنه في الفترة الزمنية التي يتحدث عنهما لم تكن في مصر ثمة كتلة سياسية ولا كتلة اجتماعية ولا فكرية تسمى بالإسلاميين، كما أن (الإسلامية) بوصفها أيديولوجيا لم تنشأ بعد. ففي واقعة فصل الخلافة عن السلطنة وواقعة إلغاء الخلافة، كان المسهمون في النقاش (علماء دين أزاهرة) و(أدباء) و(صحافيين). وهاتان الواقعتان -كما أوضحت من قبل- لم ينشأ عنهما أو بسببهما فرز واضح ما بين الاتجاهات العلمانية والاتجاهات الدينية.
ولتأكيد ما نقوله، سنستشهد بتصنيف رشيد رضا للتيارات في تلك الفترة.
هذا التصنيف هو: حزب المتفرنجين. وقال عنه: إنه حزب قوي ومنظم في الترك، وغير منظم وضعيف في مصر، وضعيف في مثل سورية والعراق والهند. وحزب الإصلاح الإسلامي المعتدل. ويقصد به نفسه وآخرين من أتباع محمد عبده من الدينيين. وللإشارة إلى عدم صحة استخدام باروت لتعبير الإسلاميين في ذلك الوقت، نذكر أن محمد عبده كان هو الأب لحزب الأمة الذي انقسم إلى حزبين علمانيين هما: حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين، وأن ثورة 1919 التي اتخذت منحىً علمانياً وطنياً، شارك فيها كثير من شيوخ الأزهر وتلامذته، ورجال دين مسيحيين.
21:15 | 30-09-2016

موقف «الخطيب» من الشيعة يدحض تفريق باروت لسلفية «الحضرية» و«البدوية»

في رأي باروت أن الشيخ رشيد رضا – كما مر بنا – حين اختار الاصطفاف مع الدعوة الوهابية كان متناقضاً؛ لأنه كان رئيساً للمؤتمر السوري في عام 1920، والذي أقر دستوراً ينطبق عليه مفهوم الطاغوت من منظور السلفية المذهبية الصلبة.
وأود هنا أن أقدم للقارئ بعض الإيضاحات التاريخية التالية:
لم يكن للدعوة الوهابية لا موقف سلبي ولا إيجابي من حكومة الاتحاديين
(1908 -1914) ولا من إعلان الدستور العثماني عام 1908، ولا من خلع السلطان عبد الحميد عام 1909، ولا من حزب اللامركزية العثمانية الذي أسسه في مصر عام 1912 مجموعة من الشوام، المسلمين والمسيحيين، هم الشيخ رشيد رضا واسكندر عمون ومحب الدين الخطيب وداود بركات وشبلي شميل وسامي الجريديني وحقي العظم وترأسه رفيق العظم، ولا من المؤتمر السوري الذي كان يدعو إلى استقلال سوريا وأقر دستوراً للدولة الجديدة والذي ترأسه الشيخ رضا, ولا من فصل السلطنة عن الخلافة، ولا من إلغائها.
إن من رفع شعار دستورنا القرآن، هو السلطان عبد الحميد الثاني عندما جمد العمل بالدستور في بداية حكمه ورفعته تالياً جماعة الإخوان المسلمين، ولم يرفع هذا الشعار في السعودية إلا في وقت متأخر من رفع الإخوان المسلمين له.
إن من أعضاء المؤتمر الذي أشار إليه، يوسف ياسين وخير الدين الزركلي، وهذان الرجلان صارا فيما بعد من رجالات الملك عبد العزيز وتقلدا مناصب مرموقة في الدولة السعودية. ومن أعضائه الشيخ كامل القصاب الذي عمل وكيلاً للملك عبد العزيز في فلسطين وكان الواسطة بينه وبين رجال الحركة العربية والفلسطينية. ومعظم الرجال الذين استعان الملك عبد العزيز بهم من البلاد العربية كانوا ينتمون- بوصفهم ساسة ومثقفين - إلى أفق الحركة العربية. في الأصل لم يكن هناك تعارض وتناقض بين العروبة والإسلام في الشرق العثماني، فالشيخ كامل القصاب – على سبيل المثال – كان رجل دين ذا توجه قومي. والصحفي والمؤرخ محب الدين الخطيب الذي كان من أعضاء المؤتمر السوري، أسس في مقتبل حياته جماعة النهضة العربية في إستانبول، وكان مساعداً لسكرتير حزب اللامركزية العام, وكان عضوا في جمعية العربية الفتاة السرية، ومعتمد جمعية الجامعة العربية الفتاة في العراق وشرقي الجزيرة، كان سلفياً منذ مطلع حياته.
أغفل باروت في بحثه اسم هذا العروبي السلفي الدمشقي، رغم أهمية اسمه في الفكر السلفي المعاصر. فهو الذي أنشأ في مصر دار نشر أسماها بالمكتبة السلفية، عنيت بنشر كتب التراث السلفي وكان مناصراً للدعوة الوهابية وكان على خلاف رأي صديقه الشيخ رشيد رضا برفض فكرة التقارب السني الشيعي, وألف كتاباً عنوانه (الخطوط العريضة التي قام عليها دين الشيعة الإثني عشرية) وعلق على كتاب تراثي عنوانه (العواصم من القواصم) لابن العربي المالكي، والكتاب الأول والكتاب الثاني – بتعليقاته عليه – هما من الأعمال الأساسية في السجال السني الشيعي من وجهة نظر السنية المذهبية. وبعض أعماله مثل (مع الرعيل الأول, عرض وتحليل لحياة الرسول مع أصحابه) و(الغارة على العالم الإسلامي) الذي ترجمه مع مساعد اليافي – إضافة إلى العملين السابقين اللذين ذكرناهما سابقاً – كانت من ضمن الأعمال الموجه بقراءتها في حركة الصحوة الإسلامية. كما أن جماعة الإخوان المسلمين كانت على صلة به.
محب الدين الخطيب الذي من أساسه كان سلفياً، وكان مطلعاً على الثقافة الحديثة في عصره، يفترض من حيث تصنيف باروت المكاني للسلفية، ينتمي إلى سلفية المناطق الحضرية العربية الإسلامية. وبما أنه حصر تحولات رشيد رضا بموقفه المساجل من الشيعة، فإن موقف الخطيب المعادي للشيعة، هو مثال من بين أمثلة عديدة تدحض تفريقه المفتعل ما بين سلفية المناطق الحضرية وسلفية المناطق البدوية. تثمين السلطان عبد الحميد والدولة العثمانية في أواخر سنيها في مناهج الدراسة في التعليم السعودية بدأ في ما بعد سنة 1980، و كان وراءه الإخوان المسلمون من سورية ومن فلسطين ومن مصر. وكانت الدولة العثمانية في عصرها المتأخر قبل ذلك التاريخ، يقدم تاريخها ضمن الرؤية القومية العربية الكلاسيكية.
زار الشيخ رشيد رضا سورية بعد إعلان الدستور العثماني عام 1908، وألقى درساً في الجامع الأموي، فتحدث عن الدين بكلام عصري تجديدي، فهيج الحضورعليه رجل دين ممن هو مصنف ضمن أعداء التجديد الديني والحرية والدستور، واتهمه أنه وهابي!
وقد تحقق لها التعمق في سياقها والتساوق معه، وكذلك توفر فكرية شمولية فيها والنزوع الثوري في بعض اتجاهاتها واتجاهات السلفية عموماً، بفعل أسباب وعوامل مختلفة ومتباينة، لسنا في صدد الحديث فيها وعنها، كما أن الدعوة الوهابية منذ نشأتها وإلى ثمانينات القرن الماضي، كانت مقصورة على مجالات بعينها، فهي تفتقر إلى الأيديولوجية الشمولية المتوفرة لاحقاً في فكرة الإخوان المسلمين.
ألمحنا في ما مضى، وذلك من خلال سؤال اعتراضي موجه إلى باروت، أن الإخوان المسلمين، لم يتأثروا بموقف رشيد رضا المساجل للشيعة، ويتضح من خلال العرض الذي قدمناه أن من أسباب ذلك أن رشيد رضا ظل برغم مجادلته مع بعض علماء الشيعة، مؤمناً ومتحمساً لفكرة التقريب بين الشيعة والسنة. ومما يجدر ذكره في هذا المجال، أن محاولات محب الدين الخطيب في إقناع الإخوان المسلمين باتخاذ موقفه المعادي للشيعة، قد فشلت.
إن الجانب الذي اختزل باروت فيه تحولات رشيد رضا، يدخل ضمن موضوع هو موقف رشيد رضا من الفرق الدينية القديمة والمحدثة، وموضوع آخر هو استعراض تجربة العلماء والمفكرين الإسلاميين السنة الذين خاب أملهم من فكرة التقارب بين الشيعة والسنة، ومحاولة الوقف على أسبابها، ومن هؤلاء أعلام ليس لهم صلة، بالدعوة الوهابية، لا من قريب ولا من بعيد. لنأخذ على سبيل المثال موقف الدكتور محمد البهي، الذي كان مؤيداً لدار التقريب بين الشيعة والسنة ولمجلتها (رسالة الإسلام)، وكان من الذين آزروا شيخ الأزهر محمود شلتوت في فتواه الشهيرة التي نصت على أن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية، يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة. ومع هذا، فإنه في منتصف ستينات القرن الماضي، أبدى ملحوظة نقدية مهذبة إزاء دار التقريب، إذ قال في أحد كتبه:
«وفي القاهرة قامت حركة تقريب بين المذاهب... وبدلاً من أن تركز نشاطها على الدعوة إلى ما دعا إليه القرآن، ركزت نشاطها إلى إحياء ما للشيعة من فقه وأصول وتفسير! ونشر المقالات التي تدعو دعوة (عامة) إلى عدم التفرقة بين المسلمين!». (الفكر الإسلامي والمجتمعات المعاصرة، ص 327).
استحضرت اسم محمد البهي كمثال؛ لأني سآتي بنص له من كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) يحقق أكثر من غرض ينشد كاتب هذه السطور توضيحه.
يقول البهي: «على أن الشيء الذي يبدو فيه ضعف إقبال ثقته ببعض الحركات الإسلامية الحديثة، على أنها تمثل التجديد الفكري في الإسلام، وعلى أنها تمثل الوثيقة المطلوبة للعالم الإسلامي أن يقتدي به. يصف إقبال الحركة البهائية، أو البابية، بأنها من الحركات الإسلامية التي تأثرت بالحركة الوهابية، وليست سوى صدى فارسي للإصلاح الديني العربي... فهو يراها حركة إسلامية واصلاحاً دينياً، مع أن البهائية مزيج عجيب من الثقافات الدينية والفلسفة، فلا يقال مطلقاً: أنها تأثرات بحركة محمد بن عبد الوهاب؛ لأنها نشأت بعدها في القرن التاسع عشر. ويصف حركة التجديد التي قام بها بعض الأتراك المحدثين، وفي مقدمة الدعاة لها الشاعر ضياء كوك ألب بأنها حركة مثالية في إصلاح الفكر الديني في الإسلام، يصح أن تسير في طريقها بقية الحركات الإسلامية الأخرى المعاصرة». ص 485، 486.
ويقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتاب صادر في منتصف سبعينات القرن الماضي: «وأعظم المؤاخذات على دعوة إقبال بالإضافة إلى أنها توفيقية إشادته ببعض الحركات المنتسبة إلى الإسلام واعتبارها نماذج صالحة للتجديد المطلوب في التفكير الديني في الإسلام وهذه الحركات هي: البابية، والصيغة الكمالية في تركيا للإسلام، فهو يعد الحركة البابية بأنها إحدى الحركات الإسلامية الكبرى الحديثة، والتي هي ليست سوى صدى فارسي للإصلاح الديني العربي، كما أنه يمجد الصيغة الكمالية للإسلام في تركيا بحرارة». (بين الجاهلية والإسلام، ص 304).
عند المقارنة بين قول الدكتورالبهي وقول الشيخ شمس الدين، نجد أن قول الأخير، تلخيص لرأي الأول في إقبال لكن بلغته وتعابيره هو. وأرى أنه لم يعزه إلى مصدره ولم يأت به كاملاً؛ لأنه لا يود أن يبدو بمظهر المدافع عن الحركة الوهابية عندما ينفي تأثر الحركة البابية بها!
وهذا يشير إلى شدة وعمق الخصومة المذهبية مع الحركة الوهابية وعمقها، مع أن نفي هذا التأثر، هو إقرار لحقيقة موضوعية التبست على شاعر ومفكر كمحمد إقبال، ونفيها لا يعني بأي حال، أنه يدافع عن الحركة الوهابية. إن ما أخفاه الشيخ محمد مهدي شمس الدين بلباقة، أظهره مرتضى المطهري بصلافة في كتابه: (الحركات الإسلامية في القرن الأخير) الذي يقول مترجمه صادق العبادي عنه، إنه كتب الكتاب في أيام الثورة وقبل انتصارها.
يحدد المطهري تحت عنوان (إقبال ونقاط الضعف) نقاط الضعف عند إقبال والتي يعتبرها نقصاً في أعماله بنقطتين هما: «أنه لم يكن يعرف الثقافة الإسلامية معرفة عميقة. ومع أنه على خلاف السيد جمال الدين لم يسافر إلى الدول الإسلامية، ولم يطلع عن قرب على أوضاع التيارات والحركات والنهضات الإسلامية. ولهذا السبب فإن تقييمه لبعض الشخصيات في العالم الإسلامي وبعض الحركات الاستعمارية كانت تقييمات خاطئة خطأ فاحشاً. فمثلا نرى إقبال في كتابه: (إحياء الفكر الديني في الإسلام) يعتبر الحركة الوهابية في الحجاز(!) والحركة البهائية في إيران، وقيام أتاتورك في تركيا، حركات إصلاحية وإسلامية. وكذلك فإنه يمدح في أشعاره بعض المستبدين والديكتاتوريين في البلدان الإسلامية. إن هذه الأخطاء لا تغفر لمسلم مخلص كإقبال.
قد يكون من المفيد أن أورد نص ما قاله إقبال في كتابه (تجديد الفكر الديني في الإسلام) الذي ترجمه عباس محمود من الإنجليزية إلى العربية في منتصف خمسينيات القرن الماضي. يقول إقبال عن الحركة الوهابية: «وهي في الحق أول نبضات الحياة في عالم الإسلام الحديث، وقد كانت هذه الحركة مصدر الإلهام بصفة مباشرة أو غيرمباشرة لمعظم الحركات الكبرى الحديثة بين مسلمي آسيا وأفريقيا كالحركة السنوسية، وحركة الجامعة الإسلامية، والحركة البابية التي ليست سوى صدى فارسي للإصلاح الديني العربي». ص180. إن ما قاله إقبال غير دقيق في ناحيتين: الأولى وهي ما قام بتصحيحه الدكتور البهي في نقل سالف منه, فالبابية حركة تولدت عن الحركة المشيخية وانبثقت عنها البهائية, والبابية والبهائية حركتان انشقاقيتان عن المذهب الشيعي, وتعتبران مذهبين مستقلين عنه, مثلها في ذلك مثل القاديانية التي هي مذهب منشق عن المذهب السني ومستقل عنه. والأخرى أن حركة الجامعة الإسلامية ليس لها صلة بالحركة الوهابية.
يقصر المطهري تحت عنوان (أفول الفكر الإصلاحي في العالم العربي) الحركة الإصلاحية على أسماء ثلاثة، هي من حيث أهميتها عنده بالتسلسل: «جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي. ويرى أن الذين أتوا بعدهم ليسوا في مستوى أهميتهم حتى أن فيهم – بسبب بعض الانحرافات – من يعتبرون مفسدين بدل أن يكونوا مصلحين. ذلك أنهم بدل أن يقوموا بعمل إصلاحي قاموا بعمل إفسادي». المرجع نفسه، ص 64.
يطرح بعد إبدائه هذا الرأي، أربعة أسئلة، هي: «لماذا لم تظهر في العالم العربي شخصية أخرى يمكن أن يعتبرها بطلة الإصلاح غير الثلاثة الذين ذكرهم؟ لماذا لم تقم تلك الشخصيات التي ادعت الإصلاح في العالم العربي بعمل متكامل وصحيح من أمثال عبد الحميد بن باديس الجزائري وطاهر الزهراوي السوري (ربما وقع خلط هنا بين اسمي عبد الحميد الزهراوي وطاهر الجزائري) وعبد القادر المغربي وجمال الدين الكاظمي السوري (الأرجح أن الخطأ هنا خطأ المترجم، فالاسم الأخير هو القاسمي وليس الكاظمي) ومحمد بشير الإبراهيمي وغيرهم؟ ولماذا أساساً سقطت جاذبية الحركة الإصلاحية والإسلامية من البلدان الإسلامية؟ ولماذا اجتذبت الحركات القومية والعربية من أمثال البعث والناصرية، أو الحركات الاشتراكية والماركسية الكثير من الشباب العربي؟».
يجيب عن أسئلته هذه بالقول: «شخصياً أعتقد بأن السبب الرئيسي نحو الوهابية (العبارة الصحيحة: هو نحوهم نحو الوهابية) وانحصارهم في الدائرة الضيقة لأفكار هذا المسلك. إن هؤلاء غيروا تلك الحركة الإصلاحية إلى حركة سلفية. ونزلوا في اتباعهم للسنة السلفية إلى حد اتباعهم لابن تيمية الحنبلي. ومن الحقيقة (قول إنهم) حصروا الرجوع الإسلام الأصيل بالرجوع إلى الحنبلية التي تعتبر من المذاهب السطحية في الإسلام، وتغيرت بعد ذلك الروح الذي جعل الحركة الإسلامية التي بدأها السيد جمال الدين تفقد أهميتها وحرارتها. وهو اتجاه أكثر مدعي الإصلاح بعد (حركة) السيد جمال والشيخ عبده الثورية من النضال ضد الاستعمار والاستبداد إلى النضال ضد العقائد التي تخالف معتقدات الحنبليين خصوصاً إبن تيمية الحنبلي» ( المرجع نفسه، ص63، 64، 65).
22:27 | 23-09-2016

افتراء على طارق البشري وسرقة منه (2 ـ 2)

خالف الدكتور أنور أبو طه طارق البشري في تحديد سنة ميلاد الإمام الشوكاني، والتاريخ الذي ذكره هو الأدق عند المؤرخين لسنة ميلاده.
وقد يلحظ القارئ أنه بسبب خطأ طباعي، جعل عمر الألوسي الكبير عاماً أو بضعة أشهر.
لا عجب في ما اقترفه الدكتور أنور أبو طه من سرقة، فقد فعل مثلها أخ له في تلك الحلقة البحثية، هو الدكتور عبدالغني عماد، الأستاذ في الجامعة اللبنانية، الذي استل بحثه المعنون بـ(السلفية وإشكالية الآخر، بين المفاصلة والمفاضلة)، أسطراً من مقال لي عنوانه (مشايخنا ومشايخ الصحوة: نظرات في الإسلام السعودي الحركي) وادعى أنه صاحبها!
ما الذي جعل الدكتور أنور أبو طه يكذب، ويقوّل طارق البشري كلاماً لم يقله؟
الذي جعله يفعل ذلك أنه مؤمن بالقضية التي طرحها الدكتور محمد جمال باروت في بحثه وهي تقسيم السلفية على أساس مديني بدوي إيماناً مفعماً، ومتحمس لها إلى أقصى حد، بدليل أنه اختار من بين ملحوظات الدكتور قاسم القادري على بحث باروت التي بلغ عددها سبع ملحوظات، ملحوظة واحدة، وهي المتعلقة بتلك القضية، ليفردها بالرد.
وليلزم القادري بأن ملحوظته غير صحيحة، ذكر أن القضية قال بها أكثر من دارس وعلى رأسهم طارق البشري. وبما أنه لا يوجد كلام للبشري يسند هذه القضية، وبما أن كلام البشري الذي استخلص منه معنى خاطئا يؤيد القضية، كان هو ما سرقه في بحثه، اضطر أن يلفق كلاماً من عنده وينسبه إلى البشري. فهو قد كذب عليه ليغطي على سرقته منه.
ومن نافلة القول، أن الرد الذي يقوم على مجرد التلويح بأن فلاناً قد قال بهذه الفكرة، ويعتبر ذلك حجة ملزمة، ينبئ عن ذهن بسيط وإدراك محدود وعقلية متواضعة في النقاش والمجادلة والمحاجّة، ولا أنزه الدكتور أنور أبو طه عن مثل هذه الذهنية وهذا الإدراك وهذه العقلية. فبعد كلامه الملفق، أضاف قائلاً:
«أنا أعتقد أنه (يقصد الدكتور باروت) لم يحصر هنا تفسير هذه السلفية من حيث النشأة والتكوين فقط من ناحية سوسيولوجية اجتماعية تاريخية، بمعنى آخر حضارية وريفية، ولكن أراد أن يشير إلى هذه النقطة. أيضا (كذا) - في هذا السياق هو تحدث عن تقسيم حضري ريفي، تحدث في سياق السلفية المعاصرة وليس (كذا) السلفية التاريخية، صحيح أن ابن تيمية عاش في بغداد وهو حضري وهو لم ينطرف (كذا) إلى السلفية المعاصرة. أما سيد قطب الذي عاش في السجن ولم يعش في مصر وأمريكا، السلفية عنده تشكلت في السجن، وكما يقول عبدالله النفيسي عن كتاب معالم في الطريق إنه زنزانة فكرية مغلقة (!) فهو بيئة هذه (كذا) العذابات التي شكلت (كذا) في السجون».
كل هذا الكلام في مجمله وفي تفصيله، لا يتضمن رداً مقنعاً على ملحوظة الدكتور قاسم القادري الرابعة على بحث الدكتور باروت التي عرضنا لها في صدر المقال، للأسباب التالية:
1- أن ما نفاه في أول كلامه عن بحث الدكتور محمد جمال باروت، هو واضح وجلي، فالدكتور باروت يقول: إذا كانت المناطق الحضرية العربية - الإسلامية قد شهدت ازدهار بنية السلفية العامة المرنة أو المفتوحة، فإن المناطق البدوية قد شهدت تكوّن بنية السلفية المذهبية الصلبة أو المغلقة. ولقد ارتبطت البنية الأولى المرنة بحركة الإصلاحيين الإسلاميين، في إطار وطأة إشكالية النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والربع الأول من القرن العشرين. وعبّرت عنها أكثر ما عبرت مدرسة الإمام محمد عبده وقال أيضاً: «كان يجاوز هذه السلفية العامة النهضوية المرنة، التي ازدهرت في وعي نخب البيئة الحضرية العربية الإسلامية، في المغرب والمشرق العربيين، سلفية أخرى، تبلورت في البيئة النجدية البدوية في شبه الجزيرة العربية، وترتبط هذه السلفية باسم ونتاج وعمل مؤسسها الإمام محمد بن عبد الوهاب».
2- في وسط كلامه اُرتج عليه في التعبير فجعل ابن تيمية بغدادياً ثم أتبع هذا الخطأ بجملة غير مفهومة، وهي: وهو لم يتطرف إلى السلفية المعاصرة!
3- نفى أن يكون سيد قطب عاش في القاهرة وفي أمريكا وأحاط الدكتور القادري علماً بأنه عاش في السجون وأن (سلفيته) تكونت في السجن. وأخبره - نقلاً عن النفيسي - أن كتابه معالم في الطريق عبارة عن زنزانة فكرية مغلقة. ولا ندري ما مناسبة هذا الإيضاح الأخير الذي أعوزه للنقل من النفيسي، هل قال الدكتور القادري في ملحوظته الرابعة أن هذا الكتاب كان فسيح الأفق؟!
ولقد قلت في ما تقدم إنه مؤمن بالقضية التي طرحها الدكتور باروت في بحثه إيماناً مفعماً، ومتحمس لها إلى أقصى حد، وهذا الإيمان وهذه الحماسة دفعته إلى أن يوحي لنا، أن الزنازين تكون على نوعين: زنازين مفتوحة وزنازين مغلقة، على طراز تقسيمه هو وباروت للسلفية!
ما ينبغي توضيحه هنا أن كلمة مغلقة هي زيادة منه في وصف النفيسي لكتاب سيد قطب: معالم في الطريق، وأن وصف النفيسي للكتاب بأنه زنزانة فكرية ورد في بحثه (الإخوان المسلمون في مصر: التجربة والخطأ) الذي ضمه كتاب (الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي) وضم بحث البشري (الملامح العامة..) وأبحاث لآخرين من الإسلاميين.
إن حشو الدكتور أنور أبو طه رده على الدكتور القادري بمعلومة هي خارج النقاش، يطلعنا على أنه طاب له المقام في البيت - وأعني به كتاب (الحركة الإسلامية..) - الذي سرق فيه من غرفة البشري!
وبالمناسبة فإن أنور أبو طه الذي سرق من طارق البشري ولفّق له كلاماً لم يقله والذي لم يحسن فهم كلامه على وجهه الصحيح قيادي في حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية المتأثرة بفكر الإمام الخميني. والمدعومة من إيران.
____________________
* باحث وكاتب سعودي.
22:24 | 2-09-2016

افتراءعلى طارق البشري وسرقة منه (1 ـ 2)

في ورقة له عنوانها (المؤثرات الفكرية للسلفية على الحركات الإسلامية المعاصرة) قدمها الدكتور محمد جمال باروت في حلقة بحثية، كان عنوانها (السلفية: النشأة، المرتكزات، الهوية) أقامها معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية في بيروت عام 2004م، قسم السلفية إلى سلفية عامة مرنة وسلفية صلبة أو مغلقة، استناداً إلى ثنائية المدينة والبادية، فتحفظ المعلق الأول على الورقة، الدكتور قاسم القادري على ربط الدكتور محمد جمال باروت كل سلفية من السلفيات ببيئتها، مما أوحى – كما قال – بأن التشدد هو نتيجة البيئة الصحراوية والبدوية الجافة والقاسية، والمرونة والانفتاح هو نتاج البيئة المدنية المنفتحة. فالدكتور القادري رغم اقراره في تأثير البيئة في الفكر السلفي، رأى أن تفسير هذا الفكر وإرجاعه فقط إلى عامل البيئة ينطوي على خلل منهجي. فتساءل: كيف تفسر أن المرجع الأول أحمد بن حنبل عاش في بيئة مدنية في بغداد وابن تيمية عاش في دمشق، وسيد قطب عاش في القاهرة وفي أمريكا؟
وهذه الأسماء كلها – كما قال – تعبر عن أصحاب سلفية متشددة. ناصر المعقب الثاني على الورقة، الدكتور أنور أبو طه – عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الإسلامي – وجهة نظر الدكتور باروت فقال: هذه الفكرة قررها أكثر من دارس وعلى رأسهم الأستاذ المستشار طارق البشري، ونسب إليه قوله: «السلفيات المغلقة تكونت على أطراف الدولة العثمانية، وليس في حاضرة الدولة، أي في بلاد الشام، فالسلفيات المفتوحة تكونت في بلاد الشام، فيما السلفيات المغلفة تكونت فعلاً على الأطراف، وأضاف قائلاً: وهذا ما يذهب إليه الكثيرون».
خمنت في البداية أن القول الذي نسبه إلى طارق البشري مأخوذ من بحث له في كتاب شارك آخرون فيه، حرره وقدم له، الدكتور عبدالله النفيسي، هو كتاب (الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي). خمنت أن يكون في هذا الموطن، لأني كنت أتذكر أنه في ذلك البحث تحدث عن مركز وأطراف في حركات الإصلاح الديني.
قرأت البحث الموسوم بـ(الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر) مجدداً، ولم أجد فيه ما نسبه الدكتور أنور أبو طه إليه.
فتشت عن القول في مواطن أخرى، ككتبه والكتب التي هي أصلاً ندوات ضمت في كتاب وكان مشاركاً فيها إما بأبحاث وإما بتعليقات، ولم أجد فيها أيضاً ذلك القول المنسوب إليه.
راودني بعد عناء التفتيش شك في صحة مانقله الدكتور أنور أبو طه عن طارق البشري. ففي القول الذي نسبه إليه ووضعه بين علامتي تنصيص، للإشارة إلى أنه منقول حرفياً من كلام البشري، كانت بلاد الشام هي حاضرة الدولة العثمانية حصراً، وهذا غلط لا يقع مؤرخ كالبشري فيه، فالبشري في بحثه المشار إليه آنفاً، عد بلاد الشام زمن الدولة العثمانية، من ضمن منطقة القلب (أو المركز) من الأمة الإسلامية. ومنطقة القلب عنده هي «التي كانت تتمركز في مجال الهيمنة المركزية للدولة العثمانية... وهي المنطقة الممتدة على المحور من تركيا إلى الشام إلى مصر (استامبول – دمشق – القاهرة)».
هذا موجب أول شك.
موجب الشك الثاني، أن البشري في ذلك البحث لحظ أمرين هما: أن الدعوات التجديدية الإصلاحية كانت ظاهرة عامة من منتصف القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، وأن مناطق قيامها (نجد، الحجاز، الهند، اليمن، العراق، المغرب، السودان) مع أنها حركة عامة كانت – بحسب تعبيره – تتفادى منطقة القلب من الأمة الإسلامية.
والقول الذي نسبه إليه أنور أبو طه يخل بأطروحته في أكثر من جانب، وهذا ما وقف عليه القارئ عند عرضنا لها في مقال سابق عنوانه (تلفيق بين ماض يساري وحاضر إخواني). الموجب الثالث، أنني في تفتيشي عن مصدر القول المنسوب إليه، اطلعت على مقابلة له في مجلة (العربي) في باب (وجهاً لوجه) سأله سيد خميس فيها عن حركات التجديد في الفقه الإسلامي، فأعاد ما قاله نصاً في ذلك البحث، مع بعض الإضافات الطفيفة.
المقابلة نشرت بعد تسع سنوات من نشر ذلك البحث، إذ إن البحث نشر في كتاب النفيسي عام 1989.
واطلعت على كتاب ضمن سلسلة كتب يصدرها بعنوان رئيس، هي (في المسألة الإسلامية المعاصرة) والكتاب كان عنوانه هو (الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر) صادر في عام 1996، أعاد فيه نشر بحثه المنشور في كتاب النفيسي كما هو، بل جعل عنوانه هو عنوان الكتاب الذي ضم دراسات ومقالات له متناثرة بين كتب ندوات وصحف ومجلات أسبوعية وشهرية. مما يعني أن وجهة النظر التي قدمها في بحثه (الملامح العامة..) ظلت هي هي، ولم يجر عليها أي تعديل.
الموجب الرابع، أنني وأنا أدقق قراءة في بحث الدكتور أنور أبو طه الذي قدمه في تلك الحلقة البحثية، وكنت قريب عهد بإعادة قراءة بحث طارق البشري (الملامح العامة..) تنبهت إلى أنه سرق منه في موضعين: موضع عدد أسطره ثمانية، وموضع عدد أسطره ستة. الموضع الأول ليس له في سوى حذف ضمير (نحن) من جملة البشري التالية:
ونحن إذا نظرنا إلى مناطق قيام هذه الحركات... وحذف السودان من الجملة التالية:
وجدناها تظهر في الهند والعراق شرقاً، وفي نجد واليمن والحجاز والسودان جنوباً، وفي المغرب والجزائر وليبيا (البشري هنا يشير إلى منشأ الدعوة السنوسية في هاتين المنطقتين) غرباً. وتعديل طفيف في صياغة عبارة مع فتح قوس توضيحي.
العبارة هي قول البشري: هي حركة عامة ولكنها تتفادى منطقة القلب من الأمة الإسلامية. بحسبان أن منطقة القلب من هذه الأمة كانت تتمركز في مجال الهيمنة المركزية للدولة العثمانية في ذلك الوقت. هذه العبارة أجرى فيها الدكتور أنور أبو طه تعديلاً طفيفاً ووضع داخلها قوساً توضيحياً، وسأضع التعديل الطفيف بين علامتي تنصيص: هي حركة عامة «تنتشر في الأطراف وتتفادى المركز»، أي منطقة القلب (المنطقة المدينية) من الأمة الإسلامية، بحسبان منطقة القلب من هذه الأمة كانت تتركز في مجال الهيمنة المركزية للدولة العثمانية في ذلك الوقت.
الموضع الثاني يقول البشري قبل تلك الفقرة المسروقة والتي أوردنا جملتين منها «كانت حركة التجديد الفقهي والفكري التي استفتحت بابن عبد الوهاب في نجد في القرن الثامن عشر (1703 – 1791) تقوم على التوحيد المطلق وترفض فكرة الحلول والاتحاد وتؤكد مسؤولية الإنسان وتمنع التوسل بغير الله وتدعو لفتح باب الاجتهاد، وظهر محمد بن نوح الغلاتي في المدينة (1752 – 1803) كما ظهر ولي الدين الدهلوي في الهند (1702 – 1762) وفي اليمن ظهر محمد بن علي الشوكاني (1758 – 1834) ثم الشهاب الألوسي في العراق (1802 – 1854) وفي المغرب ظهر محمد بن علي السنوسي (1878 – 1859) ثم ظهر في السودان محمد بن أحمد المهدي (1843 – 1885). ويقول الدكتور أنور أبو طه: «ثم التحول من السلفية التاريخية إلى السلفية المدرسية التقليدية في مطلع القرن الثامن عشر، وبدأت مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1703 – 1791) ورفض فكرة الحلول والاتحاد، وتأكيد مسؤولية الإنسان، ومنع التوسل بغير الله والدعوة لفتح باب الاجتهاد. ومن هذا الاتجاه محمد نوح الغلاتي في المدينة المنورة (1752 – 1803) وولي الدين الدهلوي في الهند (1760 – 1834) ثم شهاب الدين محمود الألوسي في العراق (1802 – 1803) وعثمان بن فودي في أفريقيا (ولد في 1756)».
وفي هذا الموضع نرى أنه أسقط اسم محمد بن علي السنوسي وأسقط اسم منطقته المغرب التي ذكر اسمها في سرقته في الموضع الأول، وأسقط اسم محمد بن أحمد المهدي واسم منطقة السودان التي كان أسقطها في سرقته في الموضع الأول. وأضاف اسم عثمان بن فودي واسم منطقة أفريقيا، أو على وجه التحديد نيجيريا.
لا أعلم لما أسقط اسم الدعوتين، السنوسية والمهدية، مع أنهما تساعدانه في دعواه في تقسيم السلفية إلى حضرية مدنية وسلفية بدوية وريفية، من حيث زيادة العدد في السلفية الأخيرة!
طارق البشري حدد ظهور حركة التجديد الفقهي والفكري في سطر تلا كلامه السالف مباشرة، ما بين منتصف القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر، والدكتور أحمد أبو طه حدد ظهور ما أسماه بالسلفية المدرسية التقليدية ما بين مطلع القرن الثامن عشر (ربما احتسب هذا التاريخ من ولادة الشيخ محمد بن عبدالوهاب) إلى أوائل القرن التاسع عشر.
21:45 | 26-08-2016

«كنت ماركسياً...» غيضٌ من تدليسات النفيسي

انتظم عبدالله النفيسي بعد أن حصل على درجة الدكتوراه من جامعة كمبردج في سلك التدريس في قسم العلوم السياسية بجامعة الكويت في شتاء عام 1972. وفي سيرته الذاتية (من أيام العمر الماضي)، تكلم عن ملحوظاته على الجامعة والمناخ العام فيها. وفي كلامه عن المناخ العام في الجامعة حدثنا أنه «كان يرأس قسم العلوم السياسية (وقتها 1972–1974) الأستاذ الدكتور إبراهيم صقر... وهو – مع خالص تقديري له – ذو نزعة ناصرية مع مسحة يسارية(!)... أبديت له رغبتي في أن أضيف إلى مقررات القسم مقرراً جديداً وهو (الفكر السياسي الإسلامي) وأن ألتزم شخصياً بتدريسه فوافق على الفور. إذ لاحظت أن القسم يدرس مقرر (النظرية السياسية political theory)... دون التفاتة في رصد النظرية السياسية عند ابن خلدون وأبو يعلى الفراء والجويني وابن قيم الجوزية وابن تيمية والماوردي وعبدالقاهر البغدادي وابن حزم وغيرهم من المعاصرين أمثال طارق البشري ومحمد عمارة والشهيد سيد قطب والشهيد عبدالقادر عودة وغيرهم».
في الكلام أعلاه، كان من المفترض أن يتقدم اسم سيد قطب واسم عبدالقادر على اسمي البشري وعمارة، لأنهما كانا متقدمين عليهما في السن وفي الكتابة والتأليف.
لكنه أراد أن يوحي للقارئ بأن مكانة البشري وعمارة في نفسه تتقدم على مكانة قطب وعودة، وأنه لم يكن في تدريس المقرر حزبياً محصوراً في مؤلفات الإخوان المسلمين، بل كان منفتحاً. أراد أن يوحي بذلك، فخلّط تخليطاً مضحكاً.
في العام المذكور لم يكن البشري كتب مؤلفاً ولا بحثاً ولا حتى مقالة صحفية، تناول فيها الفكر السياسي الإسلامي، ولا الفكر الإسلامي عامة في أي جانب من جوانبه في ماضيه وحاضره، وفي العام المذكور كان قد صدر كتابه (الحركة السياسية في مصر 1945–1952)، وكان في ذلك الوقت يسارياً محسوباً على الحركة الشيوعية في مصر. وكذلك كان الكتاب. وفي المنتصف الثاني من عقد سبعينيات القرن الماضي كان البشرى يعيش مخاض تحول مكتوم استوى إلى اتجاه إسلامي، كانت ثمرته الأولى مقالاً نشر في شهر مارس عام 1979 في مجلة (العربي) بعنوان (رحلة التجديد في التشريع الإسلامي)، نشر بعد فصل الحكومة الكويتية عبدالله النفيسي من عمله في الجامعة، بسبب تأليفه كتاب (الكويت.. الرأي الآخر)، وفي العام نفسه الذي قبض عليه وعصابة 36 جهيمانياً، بتهمة دخوله السعودية من غير جوازات سفر، وتهريب كراسات جهيمان إليها.
وفي أول الثمانينيات أفصح البشري عن اتجاهه الإسلامي أكثر فأكثر، واقترب من الإسلاميين والإخوان المسلمين كثيراً إلى حد تبني مفاهيمهم الأساسية، وفي الطبعة الثانية لكتابه (الحركة السياسية في مصر 1945–1952) الصادرة عن دار الشروق عام 1983، كتب مقدمة طويلة – المقدمة مؤرخة كتابتها في 5 أكتوبر عام 1981 – عدد صفحاتها 72 صفحة، وقد أراد – كما في عنوانها – أن تكون (تعقيباً ومراجعة) للكتاب الذي كتبه في ظل اتجاهه السياسي والفكري اليساري السابق.
الجوانب التي راجع ما كتبه في المتن عنها جوانب ثلاثة هي: «الوجود الأجنبي اليهودي على رأس كثير من التنظيمات الماركسية في الأربعينيات» وإدراكه في ما بعد «الأبعاد الممتدة لهذا الوجود ووظيفته السياسية»، إشارته إلى الحزب الوطني الجديد مراراً في سياق أحداث الكتاب، من دون أن يفرد له قسماً مستقلاً كما صنع في غيره، وتسجيله لتاريخ الإخوان المسلمين ونظرته إلى فكرهم.
وقد استغرقت مراجعته الأخيرة معظم صفحات المقدمة. ويهمنا هنا من هذه المراجعة الأخيرة قوله عن نفسه: إنه كان لا يفهم صميم الدعوة الإسلامية السياسية، أي صلة الدين الإسلامي بالسياسة وبنظام الحياة.
ومن كان فهمه على هذا النحو، لا ينتظر منه أن يؤلف كتاباً عن الفكر السياسي الإسلامي. أما عمارة فإلى سنة 1975 لم يكن له مؤلف يتعرض فيه للفكر السياسي الإسلامي، وفي العام المذكور ناقش أطروحته للدكتوراه التي كان موضوعها: نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة، وموضوعها – كما تلحظون – يتعلق بالفكر السياسي الإسلامي عند فرقة إسلامية واحدة. وإضافة إلى هذا كان عمارة في عقد السبعينيات وقبلها في المنتصف الأخير من عقد الستينيات محسوباً على الفكر القومي العربي اليساري، وهو في الأصل كان كادراً شيوعياً دينياً، اعتقل مع الشيوعيين عام 1959 وأفرج عنه وعنهم عام 1965. وكانت بوادر تحولاته في المنتصف الأول من الثمانينيات.
الإسلاميون – وهم الجماعة التي ينتمي النفيسي إليها – كانوا معادين لعمارة ولكتبه، نظراً لكونه قومياً عربياً يُيُسْرِنْ الإسلام في قراءته له، ويروم علمنته على خطى علي عبدالرازق، وينتصر للمعتزلة، ولكونه مصنفاً ضمن الإسلام العقلاني المستنير.
يصفى لنا من أعمال المعاصرين التي استعملها في تدريس المقرر الجديد (الفكر السياسي الإسلامي) كتب سيد قطب وكتاب عبدالقادر عودة (الإسلام وأوضاعنا السياسية) وكتب من لم يسمهم، وهم – بلاشك – كانوا من الإسلاميين الحركيين.
ومن الملفت للنظر أن ثمة مؤلفات معتبرة تصلح أن تكون عمدة في تدريس المادة المشار إليها، بعضها ألفها أكاديميون قريبون من الإخوان المسلمين لم يدرجها في مراجع تلك المادة! فكتب سيد قطب وكتاب عبدالقادر عودة «وغيرهما»، يقدم تصوراً حزبياً مستحدثاً للفكر السياسي الإسلامي أتت به الجماعة الإسلامية في القارة الهندية وأتى به الإخوان المسلمون. وهذا التصور يمثل الإسلاميين – ومعهم النفيسي – أكثر مما يمثل الفكر السياسي الإسلامي.
كتب الدكتور عادل رضا مقالاً هاجم فيه النفيسي بشدة، وكان عنوان المقال (المسكين عبدالله النفيسي)! وتحدث عن صلته الشخصية بالنفيسي، فقال: «أنا أعرف الدكتور عبدالله النفيسي، وجلست معه أكثر من مرة، وتناولنا الطعام معاً، وذهبت إلى منزله وصلينا معاً كذلك». وذكر أنه «كان ماركسياً في الستينيات، حتى أنه أطال شعره إلى كتفيه، وكان يضع صورة لتشي غيفارا على صدره دائماً، ويتمشى في الشارع بهذا الشكل، وذكر هو قصة مفادها أنه كان بدرجة من التعصب الماركسي إلى حد رفضه بيع سيارته إلى أحدهم فقط، لأنه اكتشف إنه إنسان غير شيوعي!».
روايات النفيسي عن نفسه يجب أن تؤخذ بحيطة وحذر، ومن الغفلة تصديقه في كل ما يقوله عن نفسه وعن تاريخه.
لم أجد في استقصائي عن حياته حين كتبت سيرته (عبدالله النفيسي: الرجل – الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية) أنه في مرحلة ما من حياته كان شيوعياً أو يسارياً أو حتى قومياً عربياً، بل كان عدواً للشيوعية واليسار ومحارباً لهما، وكذلك كان عدواً للقومية العربية، وبخاصة الناصرية، ومحارباً لها.
لنفحص صحة ما قاله للدكتور عادل رضا عن نفسه.
في العام (1961 – 1962)، وكان سنه يراوح بين السادسة عشرة والسابعة عشرة، قرر فجأة أن يترك الدراسة في كلية بمدينة مانشستر، كانت تؤهله للدخول في كلية الطب بجامعة مانشستر، ويعود إلى الكويت، ليدرس الإسلام والشريعة الإسلامية في كلية الشريعة بجامعة الأزهر أو كلية الشريعة بجامعة دمشق. وقد روى هو هذه الحكاية كاملة في مقدمة كتابه (في السياسة الشرعية) الصادر عام 1984، ووضعها على لسان الناشر، ومؤخراً وضعها على لسانه في سيرته الذاتية (من أيام العمر الرياضي). وفي سلسلة مقالات نشرها بجريدة القبس في أواخر عام 1987، وكان عنوانها (الحركة الإسلامية، ثغرات في الطريق) حكى عن التقائه بالإسلاميين منذ عام 1962... وكان مكان اللقاء مسجد مانشستر.
وفي العام الدراسي المذكور – كما حدثنا هو في سيرته الذاتية – كان يقتني دراجة هوائية (سيكل) مستعملاً، اشتراه من طالب نيجيري. أي أنه في ذلك العام، لا كان شيوعياً، ولا كان يملك سيارة.
وفي مرحلتي بيروت (1963 – 1967) وكمبردج (1968 – 1972)، من الثابت لنا من خلال زملائه وعارفيه وأصدقائه ومن خلال كتاباته باسمه الصريح أو المستعار، أنه كان إسلامياً معادياً للشيوعية وللقومية ومعادياً للعلمانية في أي اتجاه وأي مستوى من مستوياتها.
بلغني في أثناء استقصائي عن حياته السياسية والعقائدية، أنه قد زار الاتحاد السوفيتي (لا أذكر الآن، إن كان قيل لي إن الزيارة كانت في الستينيات أم في المنتصف الأول من السبعينيات)، وكان في عز عداواته للاتحاد السوفيتي وللشيوعية، وبعد عودته من هذه الزيارة أسرّ لبعض خلطائه من اليساريين، بإعجابه بالأنموذج السوفيتي وكان هذا الإعجاب عرضياً وموقتاً. ولا ندري إن كان هذا الإعجاب صادقاً أو مزيفاً، فلربما أراد به التودد لخلطائه من المحازبين للاتحاد السوفيتي، فعبدالله في لقاءاته الشخصية الخاصة ببعض الناس المؤثرين يلجأ إلى تودد وتملق عقائدهم المذهبية وأهل طائفتهم، لكسبهم إلى صفه.
وفي أواخر السبعينيات الميلادية تحالف تارة مع مجموعة الطليعة (اليسار القومي في الكويت) وتارة مع التجمع الوطني (القوميون الناصريون الكويتيون)، وكان مجرد تحالف سياسي، لكنه آنذاك كان إسلامياً وفي الوقت نفسه ملتصقاً بالجماعة السلفية المحتسبة بقيادة جهيمان العتيبي!
إعجابه العارض والموقت السري بالأنموذج السوفيتي وتحالفه السياسي العابر مع مجموعة الطليعة والتجمع الوطني، كان الحد الأقصى الذي وصل إليه في اقترابه من اليسار. وكما قلت عنه في سيرته الذاتية التي كتبتها: «عنايته بمواجهة فكر حركة التحرير العربية وفكر الأحزاب الشيوعية جعلته – وبشكل معكوس – أسيراً للأبعاد المنهجية والثورية لمدارس العقيدة الماركسية المختلفة. وكان أثر هذه الناحية فيه قوياً على مستوى علمي وآخر نظري، وقد برز هذا التأثير في أواخر السبعينيات». وقد قلت عنه في هذه السيرة: إنه استلهم تجربة ريجيس دوبريه، الشيوعي الفوضوي المتطرف صاحب كتاب (ثورة في الثورة)... فـ«تخيل... وهو يتأبط كتابه النضالي (الكويت... الرأي الآخر)، أن يكون هو ريجيس دوبريه! ويكون جهيمان العتيبي تشي غيفارا!».
لاحظت أن البعض يعتمد على مقال الدكتور عادل رضا، المشار إليه آنفاً، في استعراض تحولات النفيسي، لذا رأيت أن أنبه إلى أن المقال غير دقيق في معلوماته سواء في المعلومة التي أفضى بها إليه النفيسي أو في معلومات أخر، أعتمد فيها هو على نفسه. المقال الذي يتضمن رصداً دقيقاً لتحولات النفيسي هو مقال خليل علي حيدر، وهو بعنوان: (تحولات المنظرين: النفيسي أنموذجاً).
في سيرته الذاتية التي كتبتها، حاولت إزالة التوهم، وإيهامه هو بأنه كان ماركسيا، لكن فيما يظهر أن في محاولتي هذه قد أخْفقت، لعله ليس هو الذي يريد أن يغتصب ماضيه ليكون فيه ماركسياً بل جمهوره الإسلامي يريد له أيضا مثل هذا الماضي المغتصب!

* باحث وكاتب سعودي
22:57 | 19-08-2016

لا عجب من النفيسي ولا عجب معه

الدكتور متروك الفالح الذي هو يختلف عن اتجاه الصديق السويد السياسي والفكري، وزميل للنفيسي في العلوم السياسية، ومطلع على التيارات السياسية والفكرية في بلدان الخليج والبلدان العربية، كان مثل السويد لم يحسن فهم ما قاله النفيسي في تغريداته الخمس، فقد علق عليها مغرداً: «تغريدات د: النفيسي كمراجعات للتعامل مع النظام الدولي تبدو غريبة ومتأخرة!! غرابتها بكونها من بدهيات علم السياسة الذي هو تخصصه!»، فصوره وكأنه يجهلها. وهو في واقع الأمر لايجهلها وإنما يرفضها لمراهقة وسفه ثوري. ووهم مثل الصديق السويد أن في ما قاله ثمة مراجعات. وماقاله -كما شرحناه في الحلقة الأولى- لا يتضمن ما يمكن تسميته بمراجعة.
توهم الصديق عبدالعزيز في مناقشته للنفيسي في مقاله الثاني أو الأخير في معرض التعليل، أن النفيسي ضحى بنفسه (أو بتجربته) وضحى بمن يؤمن بأفكاره. وفيما يظهر لي أنه لا يعلم أن صاحبنا في ذهابه إلى تيار وإيابه من تيار آخر من التيارات الإسلامية، حذق في التلاعب بعقول وقلوب الإسلاميين، متطرفهم ومعتدلهم وعاديهم، وكذلك هو شأنه مع نخب وجمهور تيارات علمانية وشبه علمانية.
قد يخفى على الصديق أن النفيسي يمثل حالة لا يوجد لها شبيه في الثقافة العربية المعاصرة وفي تاريخ الأحزاب والتيارات الفكرية في العالم العربي، فهو سريع التقلب، سريع الارتداد. وهو في هذا يشبه الحمام التركي القلاب الذي قيل في التعريف به: «إن معظمه يؤدي حركات الشقلبة الاستعراضية بالقرب من المسكن الخاص به». والمسكن السياسي والاقتصادي الخاص بالنفيسي تيارات إسلامية بينها وبين بعض تداخلات وتقاطعات، ويجمعها التزمت والانغلاق والتطرف، ويختلف هو عن أبنائها، منذ سبعينيات القرن الماضي بأنه يتلاعب ويتحايل على التيارات العلمانية، للبحث عن موقع تقدير ولمعان اسم لدى أصحابها. ولو كان المجال يتسع لعددت المنافع العملية والمغانم المعنوية التي درّها عليه مباشرة سجنه في سجن الدمام.
تضحية النفيسي التي توهمها الصديق هي -كما قال معللاً- جاءت من أجل الحفاظ على الأنموذج (الصلب) الذي هو هنا تركيا أردوغان إلخ.. وهذا التعليل مستوحى من تغريدة النفيسي الخامسة التي لم يحسن الصديق أيضا فهمها، وهي قول النفيسي: «وأدركت الآن أن في الحياة (مؤسسات صلبة) و(مؤسسات رخوة) وأن التسلح بالأولى خير من التمني على الثانية. ولا تسلني عن طقوس السرية في كلامي».
المؤسسة الصلبة والمؤسسة الرخوة اصطلاحان يرددهما النفيسي منذ أيام ثورة الربيع العربي وفي أحد لقاءات عبدالله المديفر به على قناة (خليجية)، أوضح مقصوده بهذين الاصطلاحين:
وهو أن الإسلاميين سيفشلون حتماً بالإمساك بزمام الحكم، لأن ما بيدهم هو المؤسسات الرخوة، وهي الشعبية والشرعية والطلبة والجامعات وهيئات التدريس والنقابات. والشعبية لا تعني الأهلية السياسية للحكم، فقد لا تكون لك شعبية ومع هذا تكون مؤهلاً للإمساك بالحكم وما هو ليس بيدهم هو المؤسسات الصلبة؛ كالجيش والاستخبارات والأمن والشرطة ومالية الدولة، والعلاقات الخارجية الدولية والإعلام..
هذا مقصوده، كما شرحه هو بنفسه، وكان يتحدث عن الإخوان المسلمين في مصر. ولاحاجة لي أن أناقش تعليل السويد -لأنه كما ترون- قد أبعد النجعة فيه كثيراً.
يقول الصديق عبدالعزيز: «إن الإدراك المتأخر هنا لا يمكن تبريره من مفكر لأن خطط (النظام الدولي) في المنطقة معلنة بالصوت والصورة، من حرب الأفكار إلى الفوضى الخلاقة المطرزة بـ(الربيع العربي) لتأسيس الشرق الجديد (والإسلام المعدل) حسب المقاس الأميركي ــ الإسرائيلي، وإلا ما الفرق بين المفكر والفقيه والواعظ عن الأخرين».
أقول: تضمحل في منظومة فكر الصحوة الإسلامية الفروقات والتباينات بين المفكر والفقيه والواعظ، حتى أنهم يبدون في مواطن عديدة وكأنهم قدوا من أديم واحد. ولا غرو فإن هذا من انفرادات هذا الفكر الذي لا يشاكله في خصلته هذه فكر آخر في العالم العربي. وأما الإسلام (المعدل) حسب المقاس الأميركي ــ الإسرائيلي،
فليس واضحاً لي تماماً ماذا يقصد بهذا التعبير، وما هو واضح لي من سياق جملته التي أوردت نصها، وما تلاها من كلام، أنه يستعمله في الإطار السياسي وليس الثقافي والفكري، وأنه يخاطب به الإسلاميين. يعيدنا تعبير (الإسلام المعدل) إلى حديث سيد قطب في مطلع خمسينيات القرن الماضي عن (الإسلام الأميركاني) إلى آخر هذا الحديث الشائك والمتناقض. وفي المجمل هذا التعبير يستوي في قوله وترديده المفكر والفقيه والواعظ في تلك المنظومة. أمريكا رعت في الإطار الأول والثاني إسلام سيد قطب منذ بزوغه عنده ورعت إسلامات متشددة. وكذلك فعلت بريطانيا مع إسلام حزب التحرير الإسلامي وإسلامات متشددة، ومع أن ما ألمح إليه حقيقة تاريخية إلا أن النخب الإسلامية لم تدفعها تلك الحقيقة إلى لفظ الإسلامات المتشددة أو حتى اقصائها أو تهميشها.
وإذا كان الإسلاميون في الإطار الثاني يصمون اتجاه تحديث الإسلام منذ أيام جمال الدين الأفغاني في الهند إلى يومنا هذا، بأنه صمم في الغرب، ويستخدمون ذلك التعبير وما يشابهه، فبالإمكان الحديث عن إسلام معدل مضاف إليه ومزاد فيه عندهم، وبخاصة في الإسلام السني، أحدثه الدعاة إلى إسلام جديد من الإسلاميين الأصوليين منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وليس هذا الإحداث (أو الابتداع) يقتصر على سياسة وثقافة وفكر الإسلام، بل تعداه إلى جوهره وماهيته.
وكانت المشكلة الكبرى أن ذلك الإحداث (أو الابتداع)، لم يبق محصوراً في تيارات الصحوة الإسلامية، بل انتشر -ابتداءً من ثمانينات القرن الماضي- عند نخب في المسلمين، ومسلمين عاديين، وعوام المسلمين. فأصبح فهم هؤلاء للإسلام والواقع والتاريخ يستند إلى مصادرات الإسلاميين المغلوطة والمغشوشة.
يقول الصديق في كلام تالٍ: «إن الحرص على (الأمة) لا يأتي بالاندفاع والتحول إلى أدوات صغيرة في مخطط (النظام الدولي) من دون إدراك، وواجب المفكر الحريص هنا على الأمة كما هو واجب الفقيه كالشيخ القرضاوي والوعاظ المؤثرين وهم كثر، أن يخافوا الله في أتباعهم وأوطانهم والمتأثرين بكل كلمة يقولونها أو يخطونها، وألا يكون هدف إغاظة الخصم الداخلي مبرراً لمزيد من استدرار وحشد العاطفة الحمقاء وأن يعيدوا التأمل في فقه المقالات، فهذا لا يصح قبوله من نخب مفكرة أو تدعي ذلك أو ينتظر منها أتباعها مثل ذلك إلخ..».
وهنا سأتعرض لأحد تداعيات المشكلة الكبرى التي نوهت عنها سابقاً: الافتراء والفجور والنفاق والغدر وإنكار الإحسان والتنكر للجميل والكذب والانتهازية والوصولية والوشاية السياسية والتكسب... وكل ما ينافي التقوى الدينية، ومخالفة حتى مبادئهم السياسية وأصولهم الفكرية، متوفر في تيارات الصحوة الإسلامية، فلا يذهب بنا حسن الظن وسلامة الطوية أن نعتقد بأنه في تقديم مذكرة نصيحة أو زكائب من النصائح الدينية، ستجعل المفكر والفقيه والواعظ في الصحوة الإسلامية، فرائصه ترتعد، ويديه ومفاصله ترتعش، وقلبه يبلغ حجرته. ذلك لأن المنظومة التي ينتمون إليها والعمل الذي يزاولونه فكر وفعل سياسي وأيديولوجي محض.. إن المنطق العقلاني والواقعي في النظرة إلى تيارات الصحوة الإسلامية وفي طريقة مجادلتها، هو وضعها في نصاب واحد مع التيارات السياسية والأيديولوجية الأخرى.
هذا في حالة كنا من غير المحزبين لها في السياسة والثقافة والأيديولوجيا.
يطلب الصديق عبد العزيز من المفكر (النفيسي مثالاً) والفقيه (الشيخ القرضاوي مثالاً) والوعاظ المؤثرين أن يعيدوا التأمل في فقه المآلات!!!
وما أوجب عندي وضع علامات تعجب في نهاية هذه الجملة، أنه توجه بطلبه هذا إلى تيار هو من ابتدع هذا التسمية الجديدة. وبما أنهم هم مبتدعوها كان من المفترض به -وفق ما ذهب إليه في محاورته الحميمة والداخلية لأولئك- أن لا يدعوهم إلى إعادة التأمل بـ(فقه المآلات) الذي لم يعملوا به أصلاً.
من الناحية التاريخية والعملية والمنهجية لا يوجد في الفقه الإسلامي فرع أو قسم اسمه فقه المآلات. فهذه التسمية ما هي إلا تشقيق متأخر جداً، قام بسكه الإسلاميون. وكل مايقولونه تحت هذه التسمية يدخل ضمن فكرة المقاصد وفي باب المصالح المرسلة المشهورتين في الفقه المالكي.
ومما ينبغي التذكير به هنا أن هذا التشقيق سبقه تشقيق آخر عند الإسلاميين الحركيين هو فقه الواقع، وكان استعماله -بالدرجة الأولى- ينصرف إلى الواقع السياسي، وكانت (مآلاته) وخيمة على صورة الإسلام والمسلمين على صعد شتى.
يرى الصديق أن المفكر والفقيه والوعاظ لديهم (قابلية) للاستدراج، وأنهم قد أدمونها، بحيث صار القائد لا يختلف في اندفاعه عن الأتباع.
وفي ما نعرف أن من لديهم قابلية للاستدراج هم الطفل والمراهق والغر والغفل والبليد والجشع أو شخص تقدم له إغراءات يسيل لها اللعاب.
هذه واحدة. أما الثانية، فإن القول بالقابلية يتضمن تفهماً واعتذاراً وتبريراً لفعل ما، ويخلي -إلى حد ما- صاحب الفعل من تحمل المسؤولية، وعوضاً عن أن يكون هو المسؤول، يصبح ضحية. ضحية استدراج الأشرار!.
أما الثالثة، فالتفسير بـ(القابلية) يصح في بعض الأفراد، ولا يصح في تفسير أفعال الأحزاب والتيارات والجماعات والمجتمعات والأمم.

21:43 | 12-08-2016

لا عجب من النفيسي ولا عجب معه

في الحديث الذي أجراه الصديق منصور النقيدان مع عبدالله النفيسي في شهر يناير سنة 2006م، ذكر له «أنه كان في شهر رمضان من العام 1399هـ/ 1979م في شوق عارم لأداء العمرة، ولكنه لا يملك جوازاً يمكنه من دخول الأراضي السعودية بعد أن قامت الحكومة الكويتية بسحب جوازه عقب تأليفه كتاب (الكويت... الرأي الآخر)، ولكنه وجد من يعرض عليه المساعدة بتهريبه إلى داخل الحدود السعودية، وبعد دقائق من اجتيازهم الحدود أحاطت بهم سيارات أمن الحدود السعودي في (الرقعي)، فقبض عليه متنكراً باسم عبداللطيف الفهد، ضمن 20 شخصاً (العددالذي ذكره فيما بعد للزميل عبدالعزيز قاسم وفي سيرته الذاتية هو 36 شخصاً ويبدو أنه هو العدد الدقيق)، أودعوا السجن في المنطقة الشرقية لأكثر من شهر حيث أطلق سراحهم جميعاً بعد تدخل الشيخ سعد العبدالله الصباح ولي العهد الكويتي، ماعدا شخصاً واحداً هو صاحب (الوانيت الداستون) عبداللطيف الدرباس للتحقيق معه بشأن النشرات» (جهيمان العتيبي بعد 28 عاماً... نهاية أسطورة مقال منشور في جريدتي الوقت وإيلاف). وفي حوار الزميل عبدالعزيز قاسم معه في قناة (دليل) سنة 2011م، نفى أن تكون له صلة بحركة جهيمان العتيبي، وعد الحديث عن هذه الصلة من الشبهات التي تحيط به من جهات هو يعرف هويتها. ثم أعاد قول الرواية التي أفضى بها لمنصور في خطها الرئيس.
قلت في خاتمة الحلقة السابقة إنه اعتمد هذا القول في سيرته الذاتية (من أيام العمر الماضي).
يبدأ النفيسي الرواية في هذه السيرة هكذا: «ذات يوم في مسجد (الحقان) بالفنطاس قال لي: كيف حالك؟ قلت: في نعمة وستر قال: ترافقنا للعمرة؟ قلت: ياليت عندي جواز سفر. قال: لن تحتاج إلى جواز سفر فنحن منذ سنوات نسلك الطريق (الشرعي). قلت لنفسي: يبدو أن الأخ من منظمة (بادرماينهوف) فهم لا يعترفون بوثائق السفر الألمانية. أعجبني هذا (البافاري) من سكان الفنطاس فقلت له: على بركة الله».
الذي قدم له ذلك العرض وأغفل اسمه هو عبداللطيف الدرباس، وهو من أبرز أعضاء (الجمعية السلفية المحتسبة) في فرعها بالكويت والتي يقودها في مقرها الرئيس بالسعودية، جهيمان العتيبي. وقد أغفل اسمه في بداية روايته ليدعي أنه لا تربطه به معرفة سابقة.
نسي النفيسي أنه ذكر للنقيدان في الحوار المشار إليه آنفاً أنه «قد التقى خريف 1979 جهيمان في مسجد العباسية بالكويت، وسنحت له الفرصة مرة أخرى بلقاء خاطف مع المهدي محمد عبدالله التركي (القحطاني) في الفنطاس».
وهذان اللقاءان لا بد أن يكونا بتدبير وتنسيق من الدرباس وبرغبة من النفيسي، فالدرباس على ما حدثنا الصديق مشاري الذايدي في مقال له عن سيرة أبي محمد المقدسي منشور في جريدة (الشرق الأوسط)، بتاريخ 7 يوليو 2005: «من أبرز من كان له صلة وصداقة بجهيمان العتيبي في الكويت». هذا إضافة إلى أنه كان هو الذي تولى نشر كراسات جهيمان في الكويت.
وزيادة في ادعائه بأنه لا تربطه معرفة سابقة بالدرباس ولا بأتباع جهيمان في الكويت، ولا بجهيمان نفسه، ولا أنه كان مطلعا على كراسات الأخير ومعجباً بها، اصطنع الدهشة حينما أعلمه الدرباس، كما روى هو أنهم يتنقلون ما بين الكويت والسعودية من دون جوازات، وكأنه يجهل تحريماتهم (الجواز يقتضي وضع صورة فوتغرافية وهم يحرمون الصور)، ويجهل نشاطاتهم المتعلقة بتهريب كراسات جهيمان من الكويت إلى السعودية.
دهشته كانت في تشبيههم بمنظمة أو جماعة أو عصابة (بادرماينهوف) الألمانية الذين يسمون أنفسهم (الجيش المسلح الأحمر). وهذه المنظمة شيوعية مسلحة متطرفة فوضوية. بصرف النظر عن أن تشبيهه هذا ليس في محله، وبصرف النظر عن أن إطرائه لعبداللطيف الدرباس بنعته بـ(البافاري) تكلف كان فيه فدامة ووخامة وغلاظة، فإنه أراد بالأولى إضفاء لمسة (حديثة) ورونق (عصري) على حركة جهيمان العتيبي التي هي كما أشرت في الحلقة الماضية حركة دينية بدائية ومتخلفة وأمية في فكرها وفي وعيها بعصرها، ليبرر لنفسه دخول السعودية مع عصابة 36 جهيمانياً بطريقة غير شرعية، كما في الرواية المبتورة التي اعتمدها في سيرته الذاتية. وليبرر لنفسه -وهو الأمر الذي ينفيه وينكره- تورطه مع أولئك في تهريب كراسات جهيمان إلى السعودية، وانضمامه إلى الحركة والتنظير لها وللتكفير عامة، كما في كتابه (الكويت الرأي الآخر) و(عندما يحكم الإسلام).
وللدلالة على أن قوله مهلهل في التملص من مشاركته عصابة 36 عملهم، أشير إلى أنه قال للزميل عبدالعزيز قاسم في مقابلته التلفزيونية: (هربت مع مجموعة الشباب عبر الحدود السعودية لكي أحصل على العمرة هناك ثم أغادر المملكة إلى بلاد الله الواسعة للعمل) خارج الكويت.
السؤال هنا: كيف سيغادر السعودية إلى بلاد الله الواسعة، وهو ليس لديه جواز كويتي؟!
يا دكتور عبدالله، لا أقول لك إلا كما قال سعد الفرج لخالد النفيسي وهما يتباريان في (الفشر) على طريقة (أبو لمعة والخواجة بيجو) في إحدى المسرحيات الكويتية: (وديّ ... وديّ أصدق بس، قوية... قوية).
الصحيح في ما قاله: هو أنه كان آنذاك مدفوعا بقناعة مفادها، «بأن الأرض، كل الأرض، هي بلاد الله، ودخوله إلى أية بقعة فيها لا يحتاج إلى تأشيرة من سلطة أو سلطان على الأرض». عبدالله النفيسي: الرجل - الفكرة - التقلبات. ص64.
وهكذا كان فكر جهيمان وأعوانه كالدرباس وسواه.
استرعى انتباهي وهو يتحدث عن أيامه في سجن الدمام، إفصاحه عن أحد أمرين شغلاه في اليومين الأولين من سجنه وسجن بقية رفاقه، وهو: «مصاحفنا وكتبنا في السيارات لم يسمحوا لنا بها... فوتح الرائد عبدالله بالموضوع فقال: أظن في اليوم الثالث نسمح لكم بالمصاحف والكتب».
وفي اليوم الثالث أعلن النفيسي مغتبطا: «المصحف في متناول اليد وهي فرصة عظيمة للحفظ والتدبر والمدارسة و(حاشية السندي) كان مشعل يقرأ منها بصوت عال».
استرعى انتباهي أمر الكتب التي كانوا يحملونها في سياراتهم، وهم في مغامرة تهريب، والتي كانت قراءتها -بالنسبة لهم- أشبه ما تكون بممارسة طقس ديني يومي، فتساءلت: ما هي هذه الكتب؟ وما هي حكايتها؟
لجأت إلى الصديق ناصر الحزيمي ليجلو لي ما غمض علي، فسألته عنها، وقلت إنه لم يذكر منها سوى كتاب واحد هو (حاشية السندي).
أجاب موضحاً: «من عادة جهيمان ومن عادة أتباعه أن يحملوا مجموعة من الكتب في أسفارهم هي في الغالب كتب الألباني (لمعرفة قدر تأثير الألباني في فكر الجماعة السلفية المحتسبة أنصح القارئ بالرجوع إلى بحث الصديق النقيدان: السلفيون أهل الحديث، دراسة في فكر المحتلين للمسجد الحرام)، ونيل الأوطار في شرح منتقى الأخبار للشوكاني، وتفسير ابن سعدي، واتحاف الجماعة في الفتن وأشراط الساعة لحمود التويجري، أما الكتاب الذي ذكرته، فهو حاشية السندي على صحيح البخاري، وقد تختلف تفضيلاتهم في الزيادة».
وبعد هذا الإيضاح أدركت أن ما كان يشغل النفيسي هو الانقطاع ليومين متتاليين عن أداء طقس قرائي جهيماني جماعي.
وأخيراً -للتدليل على أن قوله مهلهل- ألفت النظر أنه خص من رفقائه في الزنزانة (س. ش. وع. د و ب. خ ومشعل)، عبداللطيف الدرباس (اكتفى بذكر اسمه الأول وانتحل هو اسمه الأول في الاسم المستعار الذي اتخذه لنفسه: عبداللطيف الفهد) بوصف إمامنا وشيخنا!
وما تغريدته الرابعة التي قال فيها: (وأدركت الآن أن على المرأ أن يستوحي دروسه ومراجعاته الفكرية من (عالم الشهادة أي الواقع)، وليس من (الخلوات أي التنظيم الصحراوي الرومانسي) -وهي التي ربما كانت من بين التغريدات التي وجد الصديق عبدالعزيز السويد في بعض عباراتها المقوسة غموضاً، كما أشار هو إلى ذلك في مقاله الأول عما أسمي بمراجعات النفيسي- سوى إيماءة من بعيد إلى تجربة جماعة جهيمان العتيبي التي هو خاض غمارها. وتحدث عن أيامها في سجن الدمام مع رفقته في الزنزانة بحنين فارط، ورومانسية عالية.
21:36 | 5-08-2016

لا عجب من النفيسي ولا عجب معه

كتب الصديق عبدالعزيز السويد في عموده الصحافي بجريدة (الحياة) مقالين عن تغريدات الدكتور عبدالله النفيسي التي أعلن فيها عن مراجعته أو تراجعه عن بعض الأفكار والقناعات التي كان يؤمن بها. في المقال الأول، وكان عنوانه (مراجعات د. عبدالله النفيسي!) أورد التغريدات بنصها، وكان عددها خمسا، وفي خاتمته حمد له التصريح بمراجعته أو تراجعه وأخذ عليه في الوقت نفسه الغموض في بعض العبارات التي جعلها بين أقواس. وفي المقال الثاني أو الأخير، وكان عنوانه (القابلية للاستدراج!)، أدار نقاشه على تغريدتين، هما الأولى والثالثة وأهمل بقية التغريدات، ولم يعلل للقارئ سبب إهماله لها، وكان لزاما عليه أن يفعل ذلك حتى لا يعتقد القارئ أنه يتفق مع ما جاء فيها.
تغريدة النفيسي الأولى نصها هو: «أدركت الآن كمثال أن (التعايش)، مع بعض الأوضاع أمر لا مفر منه، وأن (المفاصلة) ضرب من ضروب المواجهة غير المتكافئة والتي تقود حتما إلى الهزيمة».
وتغريدة النفيسي الثالثة نصها هو: «وأدركت الآن أن المواجهة مع النظام الدولي غير متكافئة، وتقود إلى الهزيمة، وأن (التعايش) معه و(التفاوض) معه هو المخرج الوحيد».
وفي النقاش الذي أداره السويد على هاتين التغريدتين دمجهما معا، ظنا منه أن معناهما واحد لكن الصياغة في الثالثة اختلفت عن الأولى!
سأورد العبارات التي جعلها النفيسي بين أقواس في بقية تغريداته والتي رأى السويد فيها مع التغريدتين السالفتين بعض العبارات الغامضة، لكي أدرأ عن النفيسي تهمة الغموض وشبهة الإبهام. العبارات هي: (نظام دولي)، و (احتكار السلاح، احتكار الخامات، احتكار الشرعية، احتكار الإعلام)، (عالم الشهادة أي الواقع)، و (الخلوات أي التنظيم الصحراوي الرومانسي)، و (مؤسسات صلبة)، و (مؤسسات رخوة).
والحق أن الغموض اكتنف ملحوظة السويد لاعبارات النفيسي المقوسة، فهو في ملحوظته لم يحدد أو يذكر بعض العبارات التي رأى فيها غموضا.
ربما كان منشأ ملحوظته تصديقه لقول النفيسي في خاتمة تغريدته الخامسة: «ولا تسلني عن طقوس السرية في كلامي»!
دعوني الآن أفصل بين معنيي تغريدتي النفيسي اللتين توهم السويد أن معناهما واحد في مناقشته لمحتواهما.
التغريدة الأولى تدعو الحركات الإسلامية الجهادية التكفيرية إلى (التعايش) مع مجتمعاتها وحكوماتها، رغم إنكارها الديني لبعض الأوضاع فيها، وإقراره هو الضمني بصواب هذا الإنكار. وهو هنا - بالدرجة الأولى - يخاطب الجهاديين والتكفيريين بالسعودية. وقوله في خاتمة هذه التغريدة: «إن (المفاصلة) ضرب من ضروب المواجهة غير المتكافئة والتي تقود حتما إلى الهزيمة» حشو غير دقيق، فهو خير من يعرف أنه في التنظير والخبرة الإسلامية التاريخية الراديكالية المعاصرة، أن (المفاصلة) هي مقدمة واستعداد للمواجهة المسلحة مع السلطة السياسية من أجل الاستيلاء على المجتمع واحتلاله. فالدعوة إلى (التعايش) هنا المقصود بها عموما، التعايش - بحكم الضرورة - مع الداخل الإسلامي. أما في تغريدته الثالثة فهو يدعو هؤلاء إلى (التعايش) مع الخارج غير المسلم الذي يمثله (النظام الدولي)، وإلى إحلال (التفاوض) معه محل (مواجهته) ليس على سبيل القطع والجزم، وإنما من باب الاحتمال، فلربما - حسبما عبر - يكون هو المخرج الوحيد من (المواجهة) غير المتكافئة. النفيسي في هاتين التغريدتين لا يرفض مبدأ المفاصلة التي تقود إلى المواجهة إزاء الداخل الإسلامي وإزاء القوى الدولية غير المسلمة، وإنما يدعو إلى انسحاب موقت عن فعل المواجهة، بحجة أن المواجهة المحلية والعالمية غير متكافئة، ولأنها غير متكافئة فهي حتما ستقود إلى هزيمتهم، وهذا ما لا يريده لهم.
قال الصديق عبدالعزيز في مفتتح مناقشته لكلام النفيسي في تغريدتيه الأولى والثالثة: «من المثير للعجب أن مفكرا بحجم الدكتور عبدالله النفيسي أدرك للتو أن المواجهة مع (النظام الدولي) غير متكافئة وتقود إلى هزيمة حتمية! وأن التعايش معه والتفاوض معه هو المخرج الوحيد، واستدارة المفكر هنا أو توقيت بزوغ نور الإدراك جاء مع استدارة السياسة التركية في المنطقة والانقلاب الفاشل الذي أعقبها». ثم علل ما أسماه باستدارة المفكر، بأن «المفكر ضحى بنفسه أو بتجربته ومن يؤمن بأفكاره من أجل الحفاظ على النموذج (الصلب) الذي هو هنا تركيا أردوغان، وسبب الاستدارة أن النموذج الذي تم النفخ فيه تعظيما وتقليلا من قيمة ما سواه ظهرت هشاشته من الداخل خلال ساعات صدمة الانقلاب الفاشل إلخ ..»
ولي أن أعجب من عجب السويد، إذ ليس في ما قاله النفيسي في تغريدتيه الأولى والثالثة، ما يثير العجب، فهذا هو النفيسي بأسماله الفكرية الرثة والبالية.
أعجب من عجبه لأمرين، هما:
• إن ثمة من هم أكبر من حجمه في التيار الذي ينتمي إليه، وهو تيار الدعوة إلى إسلام جديد، من مهده إلى شبابه إلى كهولته، يرفضون الاعتراف بـ (النظام الدولي)، وسأكتفي بذكر أسماء تنتمي إلى فترة المهد، وهي: مولانا محمد علي وأبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي وسيد قطب. فالاعتراض والرفض للنظام الدولي وللأنظمة السياسية العربية والإسلامية شائع عند أصحاب ذلك التيار. وهذا الاعتراض والرفض يتعدى النطاق السياسي إلى نطاقات واسعة ومديدة وعميقة.
• إن النفيسي - وهو المتخرج في كلية فكتوريا بالقاهرة في تعليمه ما قبل الجامعي، والمتخرج في الجامعة الأمريكية ببيروت في تعليمه الجامعي، والمتخرج في جامعة كيمبرج في مرحلة الدراسات العليا - بعد أن انضم إلى حركة دينية بدائية ومتخلفة وأمية في فكرها وفي وعيها بعصرها - وأعني بها حركة جهيمان العتيبي - قد استنفد العجب من غرابة أطواره وشذوذ أحواله.
يحاول النفيسي التملص من تلك الفعلة بأقوال عدة، تختلف باختلاف المقام الذي يكون فيه (راجع كتابي: عبدالله النفيسي: الرجل - الفكرة - التقلبات، ص 64)، وقد استقر في السنوات الأخيرة على قول من هذه الأقوال، وهو القول الذي قاله للصديق منصور النقيدان (راجع مقالته: جهيمان بعد 28 عاما... نهاية أسطورة) وقاله للزميل عبدالعزيز قاسم في حوار تلفزيوني، واعتمده في سيرته الذاتية (من أيام العمر الماضي). وذلك القول هو تلفيق وتزييف للواقعة المشهورة. والصحيح هو ما رواه الصديق ناصر الحزيمي في كتابه (أيام مع جهيمان) نقلا عن الكويتي عبداللطيف الدرباس والسعودي عبدالعزيز السدحان رفيقيه وزميليه في القضية التي كانت جنايتها الدخول إلى السعودية من الكويت بطريقة غير مشروعة، وتهريب رسائل جهيمان العتيبي المطبوعة في الكويت إلى السعودية ليتولى آخرون توزيعها سرا وخفية فيها.
___________________
* باحث وكاتب سعودي
20:23 | 29-07-2016

تلفيق بين ماضٍ يساري وحاضر إخواني

يتحاشى طارق البشري في بحثه الموسوم بـ(الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر) استخدام كلمة (أطراف) وهي ما تقابل كلمة (قلب) لكنه ضمناً، يومئ إليها في تحديد مناطق قيام حركات الإصلاح الديني، أو ما أسماها بحركات التجديد الفقهي والفكري. القلب والأطراف في بحثه لهما معنى سياسي متصل بالسلطة والدولة وليس لهما معنى ثقافي وتاريخي، كالذي أشار الدكتور خالد فهمي إليه في مداخلته، فالقلب حدد طارق البشري حيزه بمدن ثلاث هي: استامبول ودمشق والقاهرة، والأطراف حددها بمناطق هي: الهند والعراق ونجد واليمن والحجاز والسودان والمغرب.



المدن الثلاث بمناطقها، تركيا والشام، ومصر، هي عنده موضع ممارسة السياسة والإدارة والنفوذ والهيمنة في الدولة العثمانية، أو هي بتعبير آخر موضع مركز السلطة. والمناطق الأخرى هي عنده أطراف، لأنها -كما يتصور- بعيدة عن مركز السلطة كالحجاز والعراق، ولأنها بمنأى عن نفوذ الدولة العثمانية، كنجد واليمن (محمد بن علي الشوكاني ولد وعاش وتوفي في فترة زمنية لم تكن اليمن فيها تابعة للعثمانيين!)، ولأنها بعيدة عن مركز السلطة في القاهرة كما في حال الدعوة المهدية التي كان السودان إبان ظهورها تحت الحكم المصري-الإنجليزي، ولأنها بمنأى عن نفوذ السلطة العثمانية والسلطة المصرية كما هو حال الدعوة السنوسية، ولأنها نائية جغرافياً عن قلب الدولة العثمانية وحتى عن تخومها، كما هو حال الهند.



لم يستعمل البشرى إزاء الدعوات والحركات الدينية التي عرض لها في بحثه سواء على نحو أساسي أو ثانوي، عبارات، كالتفتح والانغلاق، التسامح والتشدد، الاعتدال والغلو إلا حين حديثه عن فكر سيد قطب، فقد وصفه بالمغالاة، لكن في سياق تبريري. ولم يرتب نتيجة سلبية على ظهور حركات الإصلاح الديني في مناطق الأطراف، ولا نتيجة إيجابية على ظهور حركة جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، لمجرد أن ظهورها على عكس الأولى كان في منطقة القلب.



اللبنة الأولى والأساسية في بحثه هي وضع ما أسماه بحركة التجديد الفقهي والفكري التي توالى ظهورها بدءا من منتصف القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، مع ما أسماه بحركة الإصلاح المؤسسي (السلطان سليم الثالث، السلطان محمود الثاني، محمد علي باشا)، اللتين يبتدئ بهما التاريخ الإسلامي المعاصر على نحو مواز، رغم أنهما كانتا متناقضتين. ويعتقد أنه كان من المفترض أن تمتد الدعوات التجديدية الإصلاحية إلى منطقة القلب من الأمة الإسلامية (تركيا، الشام، مصر) وتنمو ويزداد نفوذها حتى في مجال نفوذ المؤسسات المركزية، وذلك لعظم الاحتياج للإصلاح الفكري وللتجديد الفقهي في ذلك الوقت. ويقيم افتراضه بإمكانية حصول هذا الأمر، على توفر شواهد تاريخية تشير إلى أن هذه الدعوات كانت مما يحسن قبوله لدى عامة المفكرين والثقفين في مصر والشام، لو لم تواجه بمثل ما ووجهت به من السلطة.



هاتان الحركتان اللتان ظهرت أولاهما في منطقة الأطراف وثانيتهما في منطقة القلب، يرى أنهما مكملتان لبعضهما البعض، فلو تعاضدتا، لكان ثمة حركة تجديد شامل للجماعة والمؤسسات المختلفة، ولظهر الجديد انبثاقاً من القديم، ولما حصل الازدواج بين المؤسسات القديمة والحديثة الذي أقام صدعاً في الجماعة أوفي البيئة الاجتماعية أو في الهيكل الفكري، ولما تسرب إلينا النفوذ الأوروبي في الكثير من المجالات والأنشطة، ولما كان هناك تغريب، ولما وتوقفت حركة الإصلاح الفقهي والفكري، ولكتب لها ولحركة الإصلاح المؤسسي أن تضعا قدمي الأمة الإسلامية في مسار تاريخي خطي، ليس فيه تعثر وانكسارات وفشل وهزائم، ولا تبعية سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية للغرب.



بحث البشري هو عمل دعوى وليس بحثاً علمياً، فهو يلغي المشكلات ويذوب الصراعات وينفي التناقضات ويختزل العوامل السلبية في الاستعمار وفي التحديث الغربي (أو التغريب)، ويقوم على التنظير والتأريخ والتفكير عبر الرغبة والتمني. وهذه الرغبة وهذا التمني يصدران في منطلقاتهما ومحدداتهما عن فكر الإخوان المسلمين.



إن الترسيمة التي وضعها للاتجاهات الدينية والاتجاه التحديثي في التاريخ المعاصر منذ منتصف القرن الثامن إلى ستينيات القرن الماضي لا تختلف عن السرد الإخواني لهذا التاريخ إلا في هذين الأمرين: هو لا يدين تجربة محمد علي باشا التحديثية في بناء الدولة مثلما يفعل الإخوان المسلمون واتجاهات إسلامية أخرى، بل حاول أن يلتمس لها ولتجربة التحديث العثماني العذر، «فمهام التحديث يقوم على تحقيقها رجال دولة ومديرو أعمال ومنفذو سياسات، وهم بحكم نوع أعمالهم وخبراتهم ذوو حس عملي مباشرة ولا ينشغلون كثيراً بالجوانب النظرية والفكرية. ثم إن الضرورة تستدعي منهم سرعة سريعة في التحرك والتنفيذ، لمواجهة المخاطر الخارجية أولا، وللمناورة والالتفاف على القوى التقليدية في الجيش وفي مراكز الدولة ثانياً».



ومن التناقضات في فكر الإخوان المسلمون والإسلاميين عامة، أنهم لا يدينون تجربة التحديث العثماني، رغم أن محتواها إصلاح علماني، بل يصمتون عنها، وإن تعرضوا لها اختلقوا العذر لها.



كذلك ينظر البشري إلى تجربة جمال عبدالناصر بمثل منظوره إلى تجربة محمد علي باشا، بوصفهما من التجارب التي بنت ورسخت كيان الدولة المصرية الحديثة ومفهوم الوطنية فيها. وهذه حقيقة لا خلاف عليها.



إن من الصعب عليه أن يتحدث عن هاتين التجربتين كما يتحدث الإخوان المسلمون والإسلاميون، فهو قد بنى اسمه كمؤرخ وقانوني في ظل التيار اليساري والناصري وأهميته بالنسبة إلى الإسلاميين وإلى العلمانيين تأتي من هذين المجالين اللذين هو اسم مرموق فيهما، ومن خلفيته اليسارية أو العلمانية السابقة.



ادعاء طارق البشري أن حركة التحديث في الدولة العثمانية وفي دولة محمد علي باشا، وأن حركة الإصلاح الديني كانتا مكملتين لبعضهما البعض، وتمنيه أنهما لو كانتا تعاضدتا رأي قال به -وعلى وجه محدد- المؤرخ محمد شفيق غربال في كتابه (محمد علي الكبير)، الصادر في عام 1944 ضمن سلسلة أعلام الإسلام، وقال به من بعده الصحافي جلال كشك في سلسلة مقالات نشرها في مجلة (الحوادث) اللبنانية عن الدعوة الوهابية في شهر أربعة من عام 1979، فلقد تمنيا لو كان قام تحالف بين محمد علي باشا والدولة السعودية.



وقد ناقش الدكتور محمد فتحي عثمان هذا الرأي وفند إمكانية حصوله في كتابه (السلفية في المجتمعات المعاصرة)، وكان يفترض به أن يعرض لاعتراض محمد فتحي عثمان المنهجي ويناقشه لكنه لم يفعل ذلك، لأن بحثه -كما أسلفنا- عمل دعوي وليس بحثاً علمياً.



إذا أنعمنا النظر في الإطار التاريخي لموضوع بحثه من حيث الشكل، نلحظ أنه أدخل منطقة لم تكن في أي فترة من فترات تاريخية جزءاً من الدولة العثمانية، وهي الهند، وعد موقعها من هذه الدولة موقعاً طرفياً وليس مركزياً. وأنه أدمج دولة محمد علي باشا في الدولة العثمانية.



إدخال الهند ضمن النفوذ العثماني وإدخال حتى المسلمين الموجودين في إمبراطوريات مسيحية وإمبراطورية بوذية، وجعلهم هم والمسلمين، رعايا الدولة العثمانية، ورعايا إمارات إسلامية في الهند وحدة واحدة، منحى لا غبار عليه، ففي القرن الثامن عشر لم تكن النظريات القومية قد تبلورت تماماً في أوروبا، ولم تدخل أوروبا بعد في المرحلة القومية. وكان ما يجمع الأمم والشعوب هو الوحدة في الملة والطائفة. ومنذ أن استحدث السلطان سليم الثالث، لقباً هو لقب (الخليفة) عام 1797، صار له سلطان روحي على المسلمين، وأصبح مخولا برعاية الحقوق الدينية للمسلمين في الإمبراطوريات المسيحية.



لا يدين البشري في بحثه التجربة الناصرية التي لا يسميها، إدانة واضحة وقوية، وإنما يكتفي بالإشارة إلى العقدين اللذين حكمت فيهما مصر، وهما عقد الخمسينيات والستينيات، بل يتوجه إليها بما يمكن القول عنه إنه لوم ومؤاخذة فـ«رغم كل تحفظات قيادة الدولة في مصر وحذرها مما اسمته (استيراد الأفكار) وحرص دعاتها على الترويج لما أسمي بالنظم المنبثقة عن واقع المجتمع وتاريخه، رغم ذلك فقد غلب الطابع العلماني في صياغة مجمل الأفكار والمؤسسات والنظم ورؤى المستقبل، واكتسب المثال الغربي قدراً كبيراً من السيادة في القيم السياسية وفي العادات وأساليب العيش».



اختلاف زاوية النظر عند البشري عن الإخوان المسلمون وعن الإسلاميين عامة، إزاء تجربة محمد علي باشا وتجربة جمال عبدالناصر سببه هو تجربته اليسارية السابقة، فالمثقفون والمؤرخون المصريون من تيارات سياسية وفكرية مختلفة، يجمع أغلبهم على شرعية حكم محمد علي باشا وعلى تثمين تجربته، وقد حافظ البشري على وجهة النظر هذه حينما انتقل إلى صفوف التيار الإسلامي.



يتخلل الإطار أو البناء الذي أقامه طارق البشري في بحثه ثغرات عدة، فهو رغم اعتباره عالم الإسلام كتلة واحدة، لم يتعرض بالحديث عن حركات التحديث في هذا العالم في المدى الزمني الذي حدده لنفسه، الممتد من نهايات القرن الثامن عشر إلى ستينيات القرن الماضي، واقتصر حديثه على تجربة السلطان سليم الثالث والسلطان محمود الثاني ووالي مصر محمد علي باشا.



ولكي يتسق الإطار أو البناء لجأ إلى الاعتساف في تطبيق فكرته، فأخرج العراق من دائرة الهيمنة المركزية للدولة العثمانية، وجعلها من الأطراف، لأنه ظهر فيها شهاب الدين الألوسي، وتغافل عن ذكر تجربة مدحت باشا من بعده. كما أغفل ذكر تجربة خير الدين التونسي في تونس.



وأخرج الحجاز من دائرة الهيمنة المركزية للدولة العثمانية للسبب نفسه الذي أخرج العراق منها. فلقد ظهر في المدينة -كما قال- محمد بن نوح الغلاتي ضمن ما أسماه بحركة التجديد الفقهي والفكري.



وقد أسقط ذكر مدينة حلب، رغم أنها كانت في الحاضرة العثمانية أهم من مدينة دمشق، إذ إنها تلي مدينة إستامبول في الأهمية، فهي من منطقة القلب في الدولة العثمانية.



وأسقط ذكر الحلبي عبدالرحمن الكواكبي مما أسماه بالموجة التجديدية الثانية التي قال عنها إنها استفتحت برجال مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، مع أنه من رواد الفكر الإسلامي الإصلاحي في العالم العربي، ومن المؤثرين في الفكر العربي القومي والفكر الإسلامي، وفي أفكار الثورة العربية الكبرى، وفي فكر إصلاحي إسلامي، كالشيخ الإيراني محمد حسين النائيني.



الثغرة الكبرى في ذلك الإطار أو ذلك البناء أنه عد موقع الهند موقعاً طرفياً وليس موقعاً مركزياً، وإن كان يقصد كما تعرفنا على ذلك من قبل معنى سياسياً محدداً ومحدوداً.



فللهند موقع مركزي في العلوم الدينية والثقافة الإسلامية، بل هي الأساس، فهي تحتل موقع الصدارة في القرون المتأخرة، وذلك حينما كانت العلوم الدينية والثقافة الإسلامية في بقية المناطق الإسلامية بما فيها ما أسماه البشري منطقة المحور وكذلك منطقة مستقلة عن السلطنة العثمانية كإيران، تعيش ركوداً وخموداً وتدهوراً وانحطاطاً في تلك العلوم والثقافة. ومن الثابت أن الفكر الإسلامي الحديث في معظم تياراته وكثير من مقولاته نشأ نشأة هندية.







_________________________



* باحث وكاتب سعودي

00:53 | 4-06-2016

لا مستقبل للإسلام الحركي في الرياض...! (الحلقة الأخيرة)

لم يكن مسعود الندوي راضياً عن مستوى مؤلفات الإخوان المسلمين التي قرأها في العراق. الكتاب الذي قرأه في العراق وكان راضياً عن مستواه، هو كتاب. (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، لمؤلفه سيد قطب، وكان المؤلف في ذلك الوقت ليس من الإخوان المسلمين، وكان الكتاب حديث الإصدار.
شهد للكتاب بأنه كتاب جيد، وشهد للمؤلف بأنه مسلم متمكن فكرياً وثقافياً «والأهم من ذلك تفرقته بين الإسلام والمسلمين، وأنه يرى العدل الاجتماعي، وقد تحقق في المستقبل على أسس الإسلام الصحيح، ولا يدري المسكين أن هناك في الهند وباكستان من انشغلوا وانهمكوا، وغرقوا في وضع الأفكار الرامية إلى التطبيق العملي لهذا الحكم، إن إطلاعه على هذا الأمر يدخل في صميم أعمالنا».
يرجع تقديره لتفرقة المؤلف بين الإسلام والمسلمين، لكون هذه الفكرة فكرة أساسية لدى الإسلام الحركي الهندي في النظر إلى تاريخ الإسلام والمسلمين منذ زمن النشأة إلى الزمن الحديث وفي التنظير إلى دولة إسلامية طوباوية.
وكان أول من قام بها -بحسب أول المتلقفين للفكرة وأهم المطورين لها أبي الأعلى المودودي- المجدد الديني الهندي شاه ولي الدين الدهلوي (1703 – 1762).
يقول أبو الأعلى المودودي عن هذا الأمر: في كتابه (موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه)، «نظر ولي الله في التاريخ الإسلامي بأكمله نظر المنتقد المحقق والإمام على ما ينتهي إليه علمي، وكان أول من تفطن للفرق الجوهري الدقيق بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين وتناول تاريخ المسلمين بالنقد والاختبار من وجهة نظر تاريخ الإسلام ليتبين ماذا كانت حالة لإسلام في الواقع بين الأمم الداخلة فيه خلال القرون الماضية المتعددة. وهذا الموضوع يبلغ من الدقة أن الناس ارتبكوا في مضلاته فيما مضى، ولا يزالون يرتكبون فيها اليوم، فلم يأت أحد من بعد هذا الإمام الحقيقي متبايناً عن تاريخ الإنسان وقد جاءت شتى المواضع من كتب الإمام الألمعي يحمل في ذهنه تصوراً واضحاً لتاريخ الإسلام إشارات بهذا الصدد ولكنه خص بانتقاده لتاريخ المسلمين على الاطراد في الفصل السادس من كتابه (إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء).
هذا الكلام قاله -أيضاً- مسعود الندوي، تلميذ المودودي، في كتابه: «تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند» مع تغيير في الألفاظ والعبارات.
قال شاه ولي الله الدهلوي بالفكرة من أجل غرض دفاعي، هو الدفاع عن إسلامية معتقد الخلافة السني وعن أحقية الخلفاء الراشدين بالإمامة العظمى أمام هجوم الشيعة على هذا المعتقد وعلى خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلى الخلافة السنية وهذا الهجوم له تاريخ متصل في الهند وكانت بداياته في عصر السلطان جلال أكبر. ومن أجل هذا الغرض مايز وفرَق بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين، وبين الخلافة والملكية، وعد الأخيرة مفسدة كبرى اعترضت وعطلت استمرار الخلافة الراشدة، وكتابه (إزالة الخفاء عن تاريخ الخلفاء) الذي أشار المودودي ومسعود الندوي أنه ركز فيه هذه الفكرة، والكتاب في أصله رد على الشيعة.
سيد قطب توصل إلى الفكرة أو انتهى إليها في سياق مختلف عن الذي قالها به شاه ولي الله الدهلوي، ومشابه للسياق الذي دعا أبو الأعلى المودودي أن يطور الفكرة ويتوسع فيها، وهذا السياق سياق عصري تضاءل فيه الإيمان بالدولة المستندة كلياً إلى الدين، وقوي الإيمان بوجوب علمانية الدولة، إما على أساس قومي ليبرالي، وإما على أساس ماركسي، وإما ما بينهما.
وفي سبيل دعم الفكرة التي توصل أو انتهى إليها سيد قطب في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، اتكأ على مصادر تاريخية شيعية.
وكان الكتاب معنياً بتقديم بديل إسلامي كامل ومتكامل، ينافس ما تغري به الشيوعية من حلول سهلة وعادلة لمشكلة الفقر والعوز والفاقة والتفاوت والتباين بين الناس في المنزلة الاجتماعية وفي المورد المالي، وتشير بمجتمع تتوفر فيه المساواة كل المساواة.
ويقوم البديل الإسلامي الذي تحدث عنه سيد قطب على نظام كلي للكون والإنسان والحياة، وما العدالة الاجتماعية سوى فرع من هذا الأصل الكبير، الذي مرجعه تعاليم الإسلام.
وقد استعان سيد قطب في تقديم البديل الإسلامي بكتابين، هما: (الإسلام والنظام العالمي الجديد) لمولاي محمد علي و(الإسلام على مفترق الطرق)، وقد استمد جوانب في الأصولية الإسلامية المعاصرة من هذين الكتابين، ومن جوانب هذه الأصولية مناهضة الثقافة الغربية ومعادتها والانغلاق على الإسلام وعلى ثقافته.
وكان سيد قطب في كتابه أقل طموحاً من صاحب الكتاب الأول، مولاي محمد علي، فالأخير في كتابه كان يدعو المجتمع الدولي، حين كان هذا المجتمع يتباحث في السنة الأولى والسنة الثانية من الحرب العالمية الثانية في إنشاء نظام عالمي جديد، إلى اعتماد الإسلام والاستناد إليه في هذا النظام، فالإسلام وحده كما رأى هو، الذي هو بمقدوره جمع الدول المختلفة كلها في عالم إنساني واحد يعمه الحب والإخاء والسلام، بينما سيد قطب في كتابه كان يخاطب المسلمين لا المجتمع الغربي أو المسيحيين. كذلك لم يكن مثله عنيفا في نقد المسيحية (مولاي محمد على هو رئيس الرابطة الأحمدية لإشاعة الإسلام بلاهور، وهذه وتلك معنيتان بمجابهة المسيحية) لكنه في ما بعد حذف العبارات من الطبعة التي قرأها مسعود الندوي، التي فيها ثناء على الدين المسيحي وتلطف في سرد تاريخه!
ومع أن سيد قطب قد استعان بالكتابين السالفين في التنظير لدولة إسلامية طوباوية، ومسعود الندوي يعلم قدر أهميتهما في الإسلام الهندي الحركي، بخاصة كتاب محمد أسيد، إلا أنه نعته بالمسكين شفقة عليه لأنه بدا له وحيداً من دون مراجع ترفده. وفي ظني أنه كان يقصد بالذين انشغلوا وانهمكوا وانغمروا في الهند وباكستان في وضع الأفكار الرامية إلى التطبيق العملي للحكومة الإسلامية، أبي الأعلى المودودي، فلا يوجد أحد ينطبق عليه هذا الوصف في الهند وباكستان سواه. فقد لحظ أن سيد قطب في كتابه لم يرجع إلى ما ترجموه من أعمال المودودي إلى العربية في دار العروبة للدعوة الإسلامية، كمنهاج الانقلاب الإسلامي ونظرية الإسلام السياسية، مع أنهم قاموا بترجمتها عام 1946، وأرسلوا نسخا منها إلى القاهرة، وكتاب سيد قطب صادر في عام 1949. ومعنى ذلك أن الذي أرسلوا إليه نسخاً من الترجمتين (في الغالب سيكون صاحب المطبعة والمكتبة السلفية، محب الدين الخطيب لأن مسعوداً كان يكتب في مجلته الفتح) لم يوزعها كما يجب. ولما رأى مسعود أن سيد قطب من خلال كتابه غافل عن كتب المودودي المترجمة إلى العربية ولا يدري عنها شيئاً، قطع وعدا، بأن إيصال كتب المودودي إليه سيكون من صميم عمله في دار العروبة، حينما يرجع إلى باكستان.
أخبرنا مسعود في الانطباع الذي سجله عن كتاب (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، بعد أن قرأه أن هناك بعض النواقص في الكتاب وأولها تلك اللهجة الشديدة التي تحدث بها في الباب الخاص بعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص، فهذه الحقائق المرة يمكن أن توضح بطريقة حلوة، ثم أين العدل إذا ما اتهم إسلام أسرة (هند وابي سينان) كلها بسبب أعمالها قبل الإسلام).
وكما ترون، فقد اكتفى بذكر نقيصة واحدة وكانت هي الأهم عنده.
هو لا يختلف معه في نقده لعثمان ومعاوية وعمر بن العاص، وإنما يختلف مع اللهجة الشديدة التي صاغ بها نقده، ويختلف مع اتهامه لأبي سفيان وهند بنت ربيعة ومعاوية بالنفاق وتشكيكه بإسلامهم، استنادا إلى أعمال الأول والثانية في الجاهلية، وتأخر الأخير في إسلامه.
إنه لا يختلف معه في نقده لعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص، ولا يختلف مع حكمه أن الإسلام لم يطبق ولم يعمل به إلا مدة رسول الله ومدة أبي بكر ومدة عمر، وهو الحكم الذي كان في صدر الإسلام ما أثار استياء محمود محمد شاكر من الكتاب في أول رد له عليه مع طبعته الثانية عام 1952، لا يختلف معه في ذلك لأنه يعلم أن ذلك النقد وذلك الحكم من مقتضيات الفكرة التي بحسب ما أشار المودودي وأشار هو أن الإمام الدهلوي كان أول من قال بها. وهي الفصل بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين وبين الخلافة والخلافة والملك، على أساس أنهما متباينان ومتفاوتان.
كان مسعود في موضع سابق من كتابه (شهور في ديار العرب)، شكا من عجزهم في دار العروبة من إيصال كتب المودودي إلى مصر كما يجب، لتسد الثغرة الفكرية في دعوتهم. فإلى تاريخ زيارته إلى العراق كان أهم مؤلفات الإخوان المسلمين في ميدان الفكر، هما كتابا محمد الغزالي: (الإسلام والأوضاع الاقتصادية) و(الإسلام والمناهج الاشتراكية).
تلك الثغرة كان يعرف بأمرها مجموعة من شباب الإخوان المسلمين في مصر، وكانوا يشكون إلى زعيمهم حسن البنا أن العمل السياسي في الجماعة جاء على حساب الفكر، ولكن شكواهم لم تجد آذانا مصغية، فأنشأوا تجمعاً مستقلاً من الناحية المالية عن الجماعة، اسمه لجنة الشباب المسلم، يتلقون فيه محاضرات ثقافية، ويضم مكتبة تحمل الاسم نفسه.
الإخواني عبدالله العقيل الذي التقى مسعود الندوي في البصرة حمل معه كتب المودودي، وهو ذاهب إلى مصر للدراسة الجامعية في أواخر عام 1949، وأطلع عليها زملاءه من الإخوان المسلمين في الجامعة «وتحمسوا لطباعتها بمصر، وقام الأخ عبدالعزيز السيسي رحمه الله بطباعتها عن طريق مكتبة الشباب المسلم بالحلمية الجديدة بالقاهرة، وتم توزيعها بأعداد كبيرة في أوساط الإخوان والشباب المثقف بجامعات مصر».
وهكذا حقق العقيل ما كان يتوق مسعود الندوي إلى صنعه في مصر.
أما سيد قطب فقد تحقق ما يرجوه مسعود الندوي له عن طريق صديقه أبي الحسن الندوي، فعندما صدر كتاب الأخير (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) عن لجنة التأليف والترجمة والنشر في القاهرة عام 1950م كان من بين مقتني الكتاب. فقد تعرف إلى مفاهيم الجاهلية والحاكمية من هذا الكتاب ومن الرسائل (أو الكتيبات) التي زوده بها حين التقاه في أول عام 1951، وهي الرسائل أو الكتيبات التي جرى ذكر بعض أسمائها في حلقات ماضية. وبعد ذلك تعرف على فكر المودودي وغرف منه، كما هو مشهور.
لعلكم تذكرون نبوءة مسعود الندوي ومحمد عاصم حداد في أول مقال من مقالات هذه السلسلة، بأن لا مستقبل أمام الكتاب الإسلامي المعاصر في الرياض، مسعود الندوي توفي بعد هذه النبوءة بما ينوف على الأربع سنوات، أما رفيقه وتلميذه، فلقد عاش وعمل في رابطة العالم الإسلامي بمكة تسعة عشر عاماً ورأى بأم عينه، أن النبوءة لم تصدق. وأخال طائفة منا تقول بحسرة: ليتها صدقت!

* باحث وكاتب سعودي
20:56 | 20-05-2016