أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author
--°C
تحميل...
⌄
لوحة القيادة
خروج
الرئيسية
محليات
سياسة
اقتصاد
فيديو
رياضة
بودكاست
ثقافة وفن
منوعات
مقالات
ملتيميديا
المزيد
الرياضات الإلكترونية
سعوديات
ازياء
سياحة
الناس
تحقيقات
تكنولوجيا
صوت المواطن
زوايا متخصصة
مركز المعلومات
⌄
لوحة القيادة
خروج
الرئيسية
محليات
سياسة
اقتصاد
فيديو
رياضة
بودكاست
ثقافة وفن
منوعات
مقالات
ملتيميديا
المزيد
الرياضات الإلكترونية
سعوديات
ازياء
سياحة
الناس
تحقيقات
تكنولوجيا
صوت المواطن
زوايا متخصصة
مركز المعلومات
الرياضات الإلكترونية
سعوديات
ازياء
سياحة
الناس
تحقيقات
تكنولوجيا
صوت المواطن
زوايا متخصصة
مركز المعلومات
تصفح عدد اليوم
فؤاد مصطفى عزب
أرق..!
عجزت (سارة) حفيدتي عن النوم في تلك الليلة.. اقتربتُ منها وبيدي كوب حليب.. فتحت عينيها ببطء مع ثمالة كوابيس أيقظتها مرات عدة.. كان صرير رياح (كنساس سيتي) ينذر برعد، وبرق، ومطر عنيف.. كان ذلك مصدرها خوفها.. سارعت بالمسح على جبينها، وتلاوة آيات من القرآن، آيات الطمأنينة وإزالة الخوف، وهزم الأرق.. حاولت بمسح يدي على جبينها أن أجعل من كفي معطفاً يحتوي على كل ذلك.. تبادلت معها بعض الكلمات القصيرة، علها تخلد للنوم.. توسلت لي بصوتها الناعم الرقيق أن أبقى معها، وأن أحكي لها حكاية. لقد كنت أحفظ في أيام حداثتي نخبة من القصص المختلفة، قصصتها كلها على أحفادي فنفد المعين، وفرغت الجبة. لكن نهم حفيدتي في سماع القصص كحبي لها، لا حدود له.. من أين لي أن آتي ذاك المساء بقصة طريفة وجديدة في نفس الوقت..! كان من السهل إعادة قصة قديمة على مسمعها، لكن ذاكرتها الحديدية دائما تدفعها إلى أن تقاطعني قائلة: (ياجدو هذه القصة أعرفها، أريد سواها) ابتداع القصص مثل الرقص، مثل الكتابة الإبداعية، كلاهما يصهر الأعماق، ويفجر الإبداع الجامد في الجسد.. مثل ينبوع متفجر أو فيضان هادر. تذكرت فجاءة أنني لم أقص عليها أبدا حكاية الغراب المغرور بحسن صوته، والثعلب الماكر الذي ينتزع منه الجبنة بدهائه وحيلته.. أخذت أحكي لها القصة كشلال ليس أمامه أي عائق، وتفننت في تقليد نعيق الغراب، وأسبغت بعض البهارات التفصيلية، حتى أقرب أحداث القصة لعقليتها كطفلة، وحتى وصلت إلى: ما إن فتح الغراب فاهه ناعقاً أو مغرداً كما كان يعتقد (قاق.. قاق) حتى سقطت الجبنة، فالتقطها الثعلب فاراً فرحاً بما جنى... استغرقت (سارة) في الضحك الطفولي، كانت ضحكتها كأجراس الفضة.. هنا سألت حفيدتي متودداً
- أأعجبتك القصة؟! أجابت: - نعم ياجدو حلوة..
- ومن أحببت أكثر الغراب أم الثعلب؟
- الثعلب ياجدو.. - حسناً.. أنت ماذا تحبي أن تكوني؟ - ثعلب بالطبع ياجدو، شاطر وداهية وعفريت.. ثم أغمضت أميرتي عينيها، وغمرها السكون والهدوء وراحت في سبات عميق.
يا الله ما أجملها مسندة رأسها إلى الوسادة مبتسمة تحتضن العالم بكلتا يديها.. وأنا أمسح على رأسها وشعرها الأشقر المفلفل المتناثر على كتفيها. مرت عليّ برهة، وأنا أتساءل في قرارة نفسي: ترى هل أخطأت حقاً في رواية هذه القصة لصغيرتي..؟!
أليست التربية الحق في إعداد الطفل إعداداً كاملاً للحياة..؟! ثم أليست حياتنا الاجتماعية، صورة صارخة للكذب، والمنكر، والدهاء، والخداع..؟!
أي حفيدتي لقد أحسنت صنعاً، عندما اخترت أن تكوني ثعلباً، لا غراباً في هذا الزمان...
فالمستقبل ليس للأيدي اللينة التي تنتج قمصاناً بيضاء. المستقبل ليس للبراءة لأنها نقيضه، لذلك الورم الذي طفح على جلد الأرض، وأكتنز بالصديد، والبكتيريا الملوثة، والعفن، والسموم.
المستقبل ليس لمن يحمل بيده غصن زيتون، في طرق موغلة في المجهول، وطقوس موغلة في الزيف، ولغات موغلة في الخبث، وأوهام تنكسر على رؤوسنا كنصل السكين. بينما كنت مستسلما لكل تلكالتأملات المتناقضة، صحوت على صوت حفيدتي وهي تهزني بيدها الناعمة تناديني بلطف ودلال، وعينيها تبرقان في الظلام كعيني قط شقي:
- ياجدو قص عليّ حكاية ثانية حلوة كحكاية الثعلب والغراب...!
00:02 | 15-09-2021
غربة.. ولوعة.. وحنين..!
ما إن استعدت بعضاً من لياقتي الجسدية.. حتى قررت أن أهذب شعري.. في الشارع المؤدي إلى محطة القطار..
في (كنساس) صالون حلاقة، يُضيء يتأرجح كقنديل، يملكه مهاجر دفع فاتورة التناحر بين فئتين في تطاحن مذهبي، يهرول في الحياة منذ عرفته، كما يهرول حاج بين الصفا والمروة دائماً تراه هناك مزوٍ، كلفافة تبغٍ، على شفتين جامدتين. لا أستطيع أن أصفه في سطور، فهو رغم غربته الكثيفة، حسن الحديث، طريقة حديثه تضحك، حتى أولئك الذين لم يعد لهم أمل في الحياة. رجلٌ عامرٌ بالحياة.. جاء من عالم يكاد يكون مفككاً، إلا أنه إنسان متماسك، كلما أجلس إليه، أوقر سمعي لما يقوله (البحر). الأيام جعلتني أنضج على فرن محبته.. رجل يرغمك على الابتسام، ينسيك همك في جلسة، له ضحكة خاطفة تميزه من بين ألوف البشر. شخص يمنحك قدراً كبيراً من التوازن النفسي والاجتماعي.. انتظرت حتى جاء دوري، ثم جلست على الكرسي، يضع عم (كاظم) الرداء القماشي حولي، ويحكم ربطه حول عنقي، لا يسألني عن نوع القصة التي أبتغيها. أنظر إلى المرآة الأمامية، لأرى المرايا التي تحيط بجدران المحل، تتعاون جميعها على تضخيم عدد الأشياء. أرى الشيء ذاته ثماني مرات أو أكثر. أتوقف عند العدد ٨ ولا أكمل. أتوقف عن النظر، أحني رأسي بطلب من العم (كاظم)، وأشعر بالمكينة تجز شعري، يبدأ في الحديث: - كيف الأحوال يا دكتور..؟! أرمم السؤال بسؤال.. أشعر دائماً بالحرج وأنا أسأله كمن ضبط وهو يسرق:
- كيفك يا عم (كاظم).. كيف الأهل في الوطن؟!
سكت، يشرب الشاي من فنجان بجواره، وهو يحاول أن يخفي انفعاله، ويردع بعض الدموع التي تتلألأ في عينيه.. أجابني: - وطني مثلك أهتم به، لأن اسمه وطني، إلا أنه أصبح مكانا ولدت فيه فقط، كنت أهتم بك بسبب اسمك لأنني معجب بأغنية أم كلثوم (يا فؤادي). الآن أنت زبون فقط.. يستكمل وكأنه يقلب دفتر الأيام والذكريات: - كان لي وطن من ورق وكلمات، يمجد الجهل والإحباط، ويجعل كل الطرق مسورة. كنت أعيش في وطن أخرس كالحيطان، يراك تبكي ولا يأخذك بين ذراعيه، رغم التصاقك به، هناك أوطان مثل مسقط رأسك يا دكتور، إن أخطأت، ضربتك بوردة، مرجعكم عائلة حكيمة وملك كريم، وطني كان إن أخطأت يجعلك تتعفن في بطن سجن. لم يكن للأحلام مرسى في وسائدنا، حتى صرنا نخاف النوم من كثرة الكوابيس. كان وطناً يكره الحالمين والأحرار، لم يكن وطناً، كان ورماً خبيثاً في دماغ الكون. هذا هو الفرق بين وطني ووطنك يا دكتور.
كنت أعيش كأعمى في موقف باص في أرض مقفرة. أحلم بالإيمان بأي شيء أن يصل.. أنبش الطفل في كبدي، ذلك الذي يصدق النبؤات، ويزرع يقيناً، فاتحاً تحت أظافره. كان يقيني الأمل في ذلك الوطن، ومن هنا كان الرحيل بعد أن فقدته، لقد تركت وطن الإحساس بالظلم، والقهر، والمهانة، والتفرقة وكبت الحريات. لكنه لا يزال في حجري أبداً، صار يسكنني ولا أسكنه، تركت فيه وجه أمي كي أراه في صورتها، وما إن غادرته حتى غيب وجهها في ترابه، واتخذ له وجها آخر. ابتعدت عنه كي ألقاه، واغتربت عنه كي أراه. لقد تركته بعد أن صارت الحياة فيه أشبه بغيمة قاتمة، لا تمطر فرحا، ولا ترحل بعيدا. كنت أعيش، قلقاً يملأ حقيبة كاملة على ظهري. قلت له: ولكن أبو عادل قال لي مرة أنك أتيت من أسرة فائقة الثراء. أبتسم ابتسامة تترسب في المفاصل وقال لي: - دعني أقص عليك قصة، قد تكون جواباً لك، يقال إن هناك ثريا كان يسعى للحصول على نوع من الطيور لا تتواجد إلا في الهند، ارتحل إلى هناك وجد على إحدى الأشجار، ثلاثة ببغاوات، عرض عليهم نوع الحياة التي سيمكنهم منها إن وافقوا على مرافقته. رفض اثنان، ووافق واحد منهم. الذي وافق كان في استقباله قفص ذهبي رحيب مقفل بإحكام، يقدم له يوميا الزبيب وماء الورد، ويعيش في حجرة مكيفة، وتمر ليالي الثري، ليبلغه أنه ذاهب للهند في رحلة عمل.. طلب منه الببغاء أن يمر على أصدقائه ويعلمهم بما هو فيه.. وفعل الثري، وبينما هو يتحدث عن كل ذلك، سقط من على الشجرة أحد الببغاوات ميتاً، ترك الرجل الموقف وعاد ليبلغ أسيره بما حدث.. وما إن انتهى من قصته، حتى سقط الببغاء في القفص ميتاً. أخرجه الثري من القفص ليفاجأ به يطير ويحط على سور المنزل، أستغرب الثري من ذلك التصرف، سأله: ولماذا فعلت ذلك؟ قال له لقد أتيتني برسالة من صديقي مفادها بأن ما أعيش فيه دون حرية هو الموت بعينه..!!
تأكد -يا سيدي- أن صديقي في الطرف الآخر لم يمت.. كان عم (كاظم) ينهي القصة، وهو يبعد بالسيشوار قدر الإمكان ما تبقى من شعر متناثر عن الكتفين والوجه والأذنين. وانطلقت مودعا عم (كاظم) كبقعة زيت على صفحة ريح، وأنا أردد: «نرحل عمداً.. ولكن نرحل إلى أين؟ ولماذا؟ عندما يرحل الكائن يموت الذي كان قبل الرحيل، ويولد غيره.. ذلك وحده يكفي لكي نرحل.. لئلا نكف عن الرحيل»..!!
00:09 | 8-09-2021
غجري في حب النساء !
أنا للأسف غجري في تقاليدي في ما يخص الإناث، فالغجر لا يفرحون أو يحتفلون بمواليدهم الذكور، بينما يتباركون ويفرحون بالإناث. فأقوام الغجر تعتبر النساء رزقاً ووطناً، وأنا كذلك. حرمت الإناث بناتاً، وعوضني الله إياهن حفيدات، فتعلقت بهن، وأصبحت مسكوناً بهن، ومريضاً بهن مرضاً لا أسعى للشفاء منه. أتحطم مثل فخارة آشورية قديمة عندما تدمع عينا إحداهن، وتنطلق الابتسامات والضحكات من أفواههن كرذاذ من جوف غيمة حالما يأتين لقضاء الإجازة عندنا. يتحول منزلنا إلى عجلة من البهجة تدور ببطء من تلقاء ذاتها. كنت في منزلي في (كانسس ستي)، لا أفعل شيئاً غير تناول الإفطار، وترك الأفكار تسترسل بشكل النبات المتسلق، أنظر للنوافذ الزجاجية، أرسم قلوباً في الهواء عليها، سنجاب في الشرفة الخشبية يحدق فيّ بنظرات متوثبة وذيل متقوقع، أخذ يتقافز مع الريح حالماً. وضعت حفيدتي (ياسمين) قدميها على خشبات الشرفة. تعود لتخبرني، أن حمامة في ركن الشرفة قد وافقت أن تكون صديقة لها، ثم تستأذنني أن أسمح لها بإدخال صديقتها إلى داخل المنزل، الأحفاد كالشياطين يجملون لنا الأمور، يوسوسون في قلوبنا حتى نقع على وجوهنا. توجهت معها للخارج، لأجد حمامة منكمشة في أقصى الزاوية، يغمرها النور الحليبي من الفضاء، تستحوذ عليها ارتعاشات متصلة، كانت مثل خرقة بالية لا حياة فيها. قلت لها إنها إذا اصطحبتِها إلى الداخل، فربما تأتي أمها فلا تجدها، وحتى لو أن الحمامة سعيدة بصداقتك، إلا أنها بعد قليل ستشتاق إلى أمها.. يبدو أنها اقتنعت بالفكرة، أن الصديق لا يغني عن الشوق للأم.. لكن قبل أن تدخل للنوم فرشت تحتها مناديل من الورق كمخمل دافئ، أفرغت كامل صندوق المناديل تحت الحمامة، وزودتها بالماء وفتات التوست.
ومضت الأيام وتوالت ابتكارات (ياسمين) في رعاية الحمامة، زجاجة قطرة أفرغتها من محتوياتها ووضعت فيها مياهاً، وصارت تروي عطش الحمامة، وقليل من حبوب الرز هنا، مع كثير من الخبز المفتت هناك، لتنتعش الحمامة. بدأت بعد فترة أفضل بكثير مما كانت عليه، ورغم كل ذلك، كنت أرمق الحمامة بعين المتوجس من حالتها المرضية، ولخوفي على نفسية (ياسمين) إن هلكت الحمامة، كنت أرى أنها حمامة ميتة تحيا معنا، وخارجة للتو من القبر، محملة ما زالت بتربة القبر ووصايا الموتى. كنت.. وكنت.. وما أكثر ما ظننت. وخاب ظني بالظن، دبت الحياة من جديد في عروق تلك الحمامة، مثل الماء الذي يدب في السواقي، فيحول الشقوق والتراب إلى طين مشبع، ويسقي نبتة، فتتحول من نبتة جرداء صفراء إلى خضرة بالغة. إن الحياة مثل الماء، لا لون لها ولا طعم، ولا رائحة، نعيش فيها لكن لا نراها ولا نشمها ولا نتذوقها. ولكن للمرض رائحة، وللموت شكل أسود، ولا يعرف الاثنان أحداً. قدري في مساء اليوم التالي، حيث تبدو هذه القرية كزوجة تنتظر عودة زوجها من غياب طويل، شاحبة وحزينة، ناظرت الحمامة، وقد كان ذلك ما هو عليه، شاحبة وحزينة، ثم خلدت للنوم، لأصحو من نومي فزعاً، على فجيعة من العيار الثقيل، حلقات ذكر، وضرب على الدفوف أمام باب حجرة نومي، من قبل الحفيدة (ياسمين) على ما حصل للحمامة، وتحملني مسؤولية عزلتها في الخارج وضريبته وما آلت الأمور إليه! التفاهم مع (ياسمين) كالحرب لا مجال فيها لتقليل الخسائر، وتجنب وقوعها، من يخوض فيها، ليس بمقدوره إلا تحمل العواقب والتنازل عن أثمن الأشياء من أجل أن يسلم. أخذت على عاتقي نقل الحمامة في (الرنج روفر) وتحمل كامل تكاليف العلاج فلا مجال للنقاش، وللأسف ما إن وصلت إلى العيادة بدقائق حتى أعلنت حالة الوفاة، وعدت للمنزل أحمل لـ(ياسمين) نبأ الوفاة بقلب مفطور. كنت أتصنع الحزن والانكسار وأتلو سورة الفاتحة بصوت خاشع وأهبها روح الحمامة! استقبلتني بانعتاق الحاجبين، ونتوء من عدسة العين، ولطم على الرأس، وعويل، ونحيب وخيبة، وما أكثر خيباتنا وهزائمنا أمام الأحفاد، وما أضعفنا أمامهم، كنت كمنشفة مبتلة تتدلى من حبال الفشل. أصبحت كل النوائب فوق رأسي كغيمة صيف، عندما شاهدت (ياسمين) تلم (قشها) وتعلن رغبتها في ترك منزلي والذهاب لمنزل ابني، حيث إن منزلنا كما رددت وهي تستقل عربة أبيها لم يعد صالحاً للحفاظ على الأرواح. بعد أيام دار المشهد التالي، عادت (ياسمين) لزيارتنا مع ابني الذي كانت كل ملامحه تنطق بالعصبية، وحين أخذتها في حضني مستفسرا عن سبب بكائها، أخذت تشكو وسط دموعها من أن أباها قد رفض أن يصطحب معه (الكلب) الذي وجدته يعرج في الشارع!
23:45 | 31-08-2021
شجرة تحلم بالثمار..!
نادراً ما تخلفت عن موعد ما، بل إنني عادة ما أصل قبل الوقت، تعودت أن أسبق الوقت وأجعله خلفي، لا أتذكر أنني تأخرت ذات يوم عن أي موعد مهما كان نوعه، ليس لأنني منضبط كي لا أفوت أي شأن من الشؤون المتعلقة بي، أو لأنني حريص على أن أعطي انطباعاً أنني جدي. هي مجرد عادة تربيت عليها منذ الصغر، هي حاستي الداخلية بالزمن، وليس فقط بالساعات والدقائق، أنا لا أرتب أموري وفق الساعات والدقائق، إنما أندفع مشغولاً بإنجاز ما عليّ في وقته أو قبل وقته. في السنوات الأخيرة، أصبحت أحاول التخفيف من درجة الفرق بيني وبين النور، وهذا الفرق هو أنني أصبحت أفتقد إلى الكثير من المعلومات، ومن المعرفة التي تتعلق بالمجتمع الذي أعيش فيه، المعلومات تتدفق كحرب لا تنتهي. لذا أصبحت أمتع وأجمل اللحظات في حياتي تلك، التي أقضيها في داري، مع أبنائي «فراس» و«ريان» وزوجاتهم وأحفادي، يحضرون في إجازة نهاية الأسبوع، نظل نتناقش ونتحاور إلى ساعة متأخرة من الليل، ليعود كل منهم إلى منزله لينام. ولقد لاحظت أنني أصبحت متابعاً إلى درجة كبيرة بصمت أكثر وذاكرة أقل. أفرح بكل ما يقولونه بحجم رفة عين، أجلس معهم كشجرة تحلم بالثمار، المعلومات والحقائق التي أسمعها منهم، مثل الشمس التي توزع ضوءها على كل الأشياء دون تمييز، فتحيل كومة التبن إلى رابية من التبر، وقطرة الندى إلى درة متلألئة، والخرقة البالية إلى وشاح أرجواني. لقد انقضى الوقت الذي كان فيه الرجل المسن أو المرأة المسنة يعتبران مصدراً للمعرفة، والحكمة، يعلمان ما لا يعلمه الشباب والشابات، تغير الوضع مع مرور السنين، ففي المجتمعات الحديثة، أو السائرة في طريق التحديث، أخذ يتبدل الذين يعرفون والذين لا يعرفون. فمع التقدم المعلوماتي والتكنولوجي السريع، أصبح الرجل المسن والسيدة المسنة كلاهما يتخلفان بالتدريج عن أجيال الشباب والشابات، هذا ما عدا أقلية قليلة. فمهما يملكان من سعة أفق، وقدرة على التغيير، لن يكون لهما المرونة الكافية، ولا سرعة الالتقاط والتفاعل الكافية للتكيف مع وسائل المعرفة، التي تعتمد على أساليب التكنولوجيا الحديثة، والمتطورة على الدوام، وبسرعة كبيرة. هذا فضلاً عن أن الشباب والشابات، يعيشون في مجتمع مختلف، ويمارسون تجارب مختلفة عن تلك التي عرفها المسنون والمسنات. لذلك عندما أجلس مع أبنائي أو مع شابات أو شباب من جيلهم، أكتشف أنه أصبح من واجبي أن أنصت اليهم أكثر مما كنت أنصت في الماضي، لأنه كلما أنصت أدركت أنني أفتقد إلى الكثير من المعلومات، ومن المعرفة التي تتعلق بالحياة في عصرنا الحالي. لذا أصبحت أختصر كثيراً من ارتياد مجالس المسنين والمتقاعدين، فقد اكتشفت وبعد تجربة لصيقة، أن معظمهم أصبحوا بشراً لا يصلحون للحياة، يسرقون هواء الصباح بتشاؤمهم ويدسونه في علب سجائرهم، وإن اجتمعوا في المساء يهرولون بين ردهات الذاكرة، حيث أحاديثهم تدور عادة بين الماضي، عن ذكرياتهم، ومواقفهم، وما يظنون أنها أمجادهم، وإن تحدثوا عن الحاضر، فكثيراً ما يغلب على حديثهم طابع الشكوى، الاهتمام بالشباب عندهم - خصوصاً الرجال- هو بحث محموم عن وسيلة (للإيحاء الجنسي) ومحاولات يائسة لاستعادة شبابهم عن طريق العثور على زوجة شابة فاتنة من قُطر شقيق، أو سرد غزواتهم السابقة في ميادين الحب. لا شيء يحدث في مثل هذه المجالس، غير تقاسم شجون العتمة، نفق عريض بقدر صرخة قابيل، كل شيء غارق في اللامبالاة والسواد، سواد يعطي أن المكان الذي يرتادونه كل أسبوع هو سرة العالم، ولا وجود لزمان خارجه. جنازة انتهت مدة صلاحيتها تبحث عن قبر في خندق الصمت. في آخر زيارة لي لأحد هذه المجالس، أحسست أن الباب الذي انغلق على (نيلسون مانديلا) كان أكثر رفقاً عن الذي انغلق عليّ في تلك الجلسة. جلسة خارج مدار الجاذبية، حيث لا بشر يستقرون في مقاعدهم، أصوات عالية مختلفة ومتعددة، والحديث لا هنا ولا هناك، فالشرق غرب، والشمال جنوب، والبحر يابسة، والليل نهار، هذيانات، وسطحية وعشوائية متدفقة بشكل ملتبس كما لو أنك تترجم خطوطاً هيروغليفية، تم تدوينها في زمن معتم داخل كهوف مظلمة. أصوات مرتفعة، وكل يحاول إسكات الآخر، وعبارات غير مفهومة. داهمني اكتئاب حاد، شعرت بانقباض شديد يستولي على كياني، وغصة في حلقي، كنت أجلس كمحكوم عليه بالإعدام في انتظار ضربة الجلاد. فجأة داهمني سؤال طائش، ما الذي أفعله هنا؟! كتمت صرخة كانت ستنطلق من أعماقي: أخرجوني من هنا! وما إن وصلت منزلي حتى اتجهت لأقرب حمام، ألقيت برأسي تحت الصنبور، ليتدفق عليه الماء، شلالاً، وليشيع في داخلي حالة فريدة من الانتعاش. ألقيت بنفسي على الكنبة، وأرسلت برأسي إلى الخلف، أغمضت عيني، وتنفست بقوة، استسلمت إلى ما يشبه الكرى. هل كنت في كابوس أحاول الإفلات منه؟! لا أعلم؟
00:06 | 25-08-2021
سأربح هذا العناق..!
عدت إلى منزلي مكتنزاً بمياه الينابيع، منسدلاً كالحرير على ياقة.. البرنس النبيل، ابني الأكبر (فراس) اصطحبني من المطار حال وصولي من (روشستر) والابتسامة تملأ أسنانه، حضنته أمام مدخل القدوم إلى (كنساس سيتي) كنت أغلق عيني وأنا أحضنه كأنني أغلقهما على العالم يا أبتي قال لي (ريان) إن الأطباء نصحوك أن تخلص نفسك من كل هم وتترك الغليون أيضاً.. سأحاول.. أنت تعرف أن الإقلاع عن بعض العادات المشينة صعب كصعوبة استبدال المشي على الكفين بدل القدمين!.. هذا لا يمنع أن تحاول بصدق.. أنت قوي الإرادة..! قالها بعينين داكنتين، كخنجر الغضب.. ضحكت محاولاً تخفيف حدة الحوار، ما تطلبه يأتيك وزيادة.. حدّق في وجهي ذلك الطيب مهزوماً، وحده الله يعلم ماذا تعني لي في هذه الحياة.. ثم انكفأ يبكي، ورميت بقفاز الهدوء أمام القلب أخفف عنه، لا تقلق.. سأربح هذا العناق (يا فراس).. سأربح هذا العناق.. رددتها وأنا أنظر إلى الطريق.. كل شيء أخضر، ما تبقى لي أخضر، ما ضيعت أيضاً كان أخضر، لا بأس إنها الستون، سأوقدها سنة سنة، وسأشعلها يوماً يوماً، وسأصعد دخانها إلى أعلى بقعة حب.. أصل البيت المصبوغ بأزهار البرية، أصعد السلم الحجري العتيق، الحجارة فيه تطل على زمان لا ينام.. أنا في بيتي.. يا الله عجلة من البهجة تدور ببطء من تلقاء ذاتها، أسبح في الأعماق، أرى نفسي أتلألأ في تلاطم، أتأمل كل شيء في منزلي على حدة، التماثيل المنحوتة، المرايا المبطنة بقشور خشب الورد، المظلات الشتوية المركونة في غمدها الخشبي، أرتب بعض الأزهار التي أحضرها لي الأصدقاء، وأنا في المستشفى داخل ماء نيلي، أسقي أواني النباتات الداخلية، أكنس أشجاني، أسير مئات الخطوات فرحاً مثل حافٍ يمشي على غيمٍ، صاعداً نازلاً، أستمع إلى فيروز، زادت طمأنينتي سبباً.. أقبلت عليّ زوجتي وفي يدها قهوة الصباح، وفي قدمها حذاء تنس رياضي، تخرج بسمتها من كأس القهوة، كنت جالساً هناك لا أفعل شيئاً، غير تناول القهوة، وترك الأفكار تسترسل بشكل النبات المتسلق، أنظر للنوافذ الزجاجية، أرسم قلوباً في الهواء عليها سنجاب في الشرفة الخشبية يحدق فيّ بنظرة متوثبة، وذيل متقوقع متقافز مع الريح، يحدق فيّ مستمراً في تقشير قحف الصنوبر، صمت مطبوخ مثل ذهب عتيق في يد حسناء نائمة يحيط بالمنزل، هلال العقل أبيض، يتسكع في سماء الدار.. الوقت رمل ناعم يغنّي بين ذراعي، الفم مذموم كخشخاش من النسيان.. أقترب من نفسي أكثر فأكثر، أتحدث إليها، أتحاور معها أفرح باكتشاف ممالك مطمورة فيّ، أستعرض كل تجاربي الماضية، شرعت أهاجر إلى الداخل.. هذه المرة كنت أجتر نفسي، لا بد من تعلم حياة جديدة.. لا بد من تعلم حياة جديدة، انتهيت من القهوة كانت قهوة لذيذة ثملت من لذتها، تممدت عضلات جسمي، شربت كوبين قهوة كبيرين كأني أرضعهما، كنت شخصاً غيري هذا الصباح، فتحت الراديو على محطة لا تذيع سوى موسيقى عظيمة رصينة، الموسيقى العظيمة تلمسك وتنتشر في روحك، كالروائح الطيبة تلمسك وتخدرك فيغمى عليك.. سمعت صوت جرس الباب، هذا هو بروفسور (سارتين)، بروفسور عجوز علمني وعلم أولادي تغيبه الأيام والمسافات ثم يظهر كالسفينة، بعد ذلك حضرت (كارول) وزوجها (ارنست) ليشاركونا الحوار، (كارول) جميلة أنيقة رقيقة، تنظر بدعة كممرضة حنون، غير أنها تبدو مشدوهة، ملامحها خالية من أي احتجاج أو تمرد، غير متحمسة للشيء لغتها قليلة ومختصرة، زوجها (ارنست)، ريفي مثقف عمل بسلاح الطيران، وحتى تقاعد، ذو ملامح منشغلة كأنه تأخر عن موعد، يشربون الشاي بلا سكر ويتناولون بعض الحلويات، نتحدث في أحاديث مختلفة، مع مثل هؤلاء الأصدقاء تصبح الجلسات نوعاً من تهدئة الأعصاب، المجموعة هنا والتي تعرّفت عليهم منذ زمن بعيد، مجموعة لديها أسلوب فريد في تشجيعك على مواصلة الحديث، حميمية مطلقة وانسياب عفوي، حتى عندما يخالفونك الرأي يخالفونك الرأي بألفاظ مستساغة وابتسامة متوددة، فلا تشعر بأي استفزاز، أقارن أحياناً لا إرادياً ببعض الأحاديث المفككة، وكيف أنني أحياناً أصغي إلى أناس متحمسين، لحكم أو لدين، أو لفكر أو مفهوم، وأوقف في طابور الحديث أياماً وليالي، ولا يصلني الدور.. أيضاً الملاحظ هنا بشكل عام أن الجميع يقرأ للمعرفة والاطلاع وسعة الأفق، القراءة هنا تكاد تكون أسلوب حياة، عكس ما هو عندنا، حيث نلاحظ أن البعض يقرأ لدحر الآخرين، والاستعلاء عليهم وكأن الكتب التي يقرأها نياشين معلقة على الألسنة ما أن تتحلق الجلسات حتى يتحول البعض إلى معارض ثقافية متناثرة. يذهب الجميع.. وانصرف لصلاة الظهر، ما أن أفرغ من الصلاة، حتى أركع على ركبتي كأنني أعانق نفسي، خاطبت ربي بشفتي الروح، بصوت القلب، خاطبته بكل أسمائه الحسنى، من أحبه ولا أشرك في حبه أحد.. سبحانك ربي أنت تُميتني حياً، وتحيني ميتاً، شكراً أن أعدتني إلى بيتٍ بابه لا زال يشتهيني، فيه زوجة بركان من الحنان، حميمة كصوت همومي. وأحفاد لا زالوا أطفالاً يلعبون في الظل، لم تنبت أجنحتهم بعد.. لا زال هناك يا ربي شجرٌ وحجرٌ لم أتفيأ بظلهما.. لا زالت هناك يا ربي طيور كثيرة تنقر فتات طعامها من يدي.. لا زال لي في كل غار رجفة تقربني منك.. يا ربي لقد أحببت أناساً في بلدي حباً لا علاقة له بكل الحيثيات التي يؤكد بها كل المحبين حبهم لمن يحبون.. هذا الحب أصبح ممزوجاً بالأسى، لأنني شعرت في لحظة أنني سأفقدهم بالبعاد عنهم.. يا ربي أعطني فرصة لكي أفعل الأشياء بطريقة أفضل، فهناك بحار لم أمخرها، وجبال لم أصعدها.. وسهول لم أقطعها.. ونجوم لم أقطفها.. يا ربي إن نسيت.. فأنت من يذكرني.. وإن أخطاءت.. فأنت صوابي.. وإن أذنبت.. فأنت توبتي.. اللهم أنفخ في رئتي عنفوان الحياة من جديد لأنهي حياتي كما أريد، أفتح لي في الحياة، طريقاً جديداً.. اللهم أقبل صلاتي وبارك حياتي، واشملني برحمتك وغفرانك.. يا غفور يا رحيم.. يا رب العالمين.. يا إلهي..!
00:01 | 18-08-2021
أحلامنا.. كالسكر سريعة الذوبان..!
من شرفة عتيقة ترتجف إن هطل عليها المطر، وتبكي إن طلع عليها الحنين.. أكتب إليكم اليوم، بعد أن عدت لمنزلي... زهور عباد الشمس في البعد تهفو من الريح بأوراق عباد الشمس، وأقراصه الذهبية تسبح في شمس (أغسطس)، حولي تتحدث الطيور، أصوات الطيور أشبه بدوزنة العود. على كتفي يهبط أحياناً، ورق أخضر يميل إلى الصفرة، يستبق الخريف. مطر خفيف يشبه الرذاذ الناعم الذي ينزل على جبين المحموم عندما يشطف بماء الورد. أخيراً عدت لمنزلي، لا أحد يعرف معنى فقد الخصوصية، حتى ينحبس جسده في سرير، وتصبح روحه وكيانه مستباحين في المستشفى. لا سبيل للنعاس، ولا أمل في إغفاءة، أو حتى تمدد كامل، أو استلقاء. في ذلك السرير تعرف حقيقة معنى أن توهم النملة نفسها أحياناً أنها أضخم الحيوانات. ودّعت جارتي العجوز التي تقيم في السرير المجاور لسريري في ذات الغرفة، عجوز أمريكية طيبة من جذور أيرلندية، اخترت غرفة مشتركة معها، لأنني أكره الوحدة، قد يكون الخوف أيضاً، لا أعلم...! كانت بجواري تلك العجوز (كحمامة المعري) لا أعرف إن كانت تبكي، أو تغني، تقوم وتقعد ولا تكاد تتحرك. تلمع سن ذهبية في فمها، وتغير قنوات التلفزيون دون استئذان. كانت العجوز تبتسم لي كطير ذابل فقد وليفه، وأنا أودعها، كانت حنونة عليّ، في محطتي تلك في (مايو كلينك) والعمر محطات. كانت تضع يدها على جبيني، عندما يداهمني الألم كجرح مفتوح على الأزل، تتمتم بأدعية لا تنتهي. أحياناً عندما يجتاحك الألم تحس أنك كرسي فقد ساقيه، تتألم كصوت سكين في طبق بورسلين أبيض، يجعلك تشاهد عصافير لا حصر لها، وتلمس سقف السماء بأطراف أصابعك، تفتش عن بعضك كثعبان مطارد. كانت تلك العجوز حنونة وصادقة. لقد اكتشفت في هذه المرحلة من العمر، أن الحياة تحتاج إلى قليل من الحب وكثير من الحنان، وأن لا شيء يساوي إحساسك بالحنان كالحنان نفسه، وأن ليس في الوجود أمتع من شعور بقلق صادق حنون على إنسان، وأن هذا الحنان هو تذكرة الهروب الوحيدة الممكنة من قسوة الحياة. كلام كبير من طفل كبُر، وأصبح أجمل أطفال الكون شعورياً. استقبلني سرب من الطيور البيضاء، المتجهة للجنوب عند بوابة القرية يتصاعد كتنهيدة.. كأنه هموم الحياة تجري.. يا الله.. ما أجمل العودة للبيت، غزة في القلب تنمو كنباتات فطرية، وتتكاثر وتختلط بالذكريات الجميلة في هذا البيت. المنازل الحميمة تعطي للقسوة وجهاً آخر، وملامح أخرى، ومعنىً مختلفاً للحياة.
كانت الدنيا (تزغرد) لي، ازددت أنساً وامتلاءً، كانت روحي ذاتها ترقص.
كنت كمن يقرص نفسه، ليتأكد أنه يعيش في الواقع وليس في الخيال.
صوت زوجتي يلمع في المنزل مثل لمع البلور، كانت تعد لي وجبة إفطار بيتوتية، خبز محمص، وزبدة، وقهوة، وعصير برتقال طازج، وبيض مقلي، ممزوج بالزعتر والحبق والطماطم وجبن ريفي. ما أجمل الصباح عندما يخبرنا أن الأماني مهما تأجلت سيأتي الفجر بها تشرق، كانت (Ann Murray) تصدح في أرجاء البيت من مذياع المطبخ، بصوتها المغمس بشقوق الضوء والممتد بكسل أبيض على منحنيات الخشب المشبع بماء المطر:
You gave me strength
To stand alone again
To face the world
وقع الأغنية في أذني كالسحر. إحساس غامض وغريب مغلف بالشجن، اكتساني وأنا أتابع الأغنية. قطار القرية الكهل ما زال يمر بمحاذاة «الميسوري»، يطلق صوته الحزين، مُرحّباً بي.. وتلمع عيناه الأماميتان بهجةً وحبوراً. أيها القطار الكهل العجوز، ما أقوى صخبك، وضعف لياقتك، مثلي.
لقد اشتقت إليك، ولكل الأيام في (بارك فيل). كان لي شعر أسود، وأحلام بلون الثلج، تغير لون شعري، وظلت أشواقي بيضاء. لقد اشتقت أن أفعل أشياء كثيرة، لم أتمكن من فعلها خلال العامين الماضيين. اشتقت أن أمد يدي لأصافح فجراً مليئاً بعصافير تقتات من كفي، وأن أزرع حديقة منزلي بنفسي، وأن أتسوق في سوق الفلاحين، بقميص القطن الأبيض، وأن أعد إفطار زوجتي، وأن أسافر إلى بحيرة (أوزارك) لأعود في المساء، أجر قاربي من أنفه خلفى، وأن أرمي بجسدي على أقرب كرسي هزاز، وأمارس هواياتي المفضلة، في العبث بمحطات التلفزيون. واستحضار العالم من اليمين لليسار أمامي، أتفرج وأتابع، لأبيع كل ذلك إن أردت في ثانية، بفصل من كتاب. اشتقت أن أمرّغ رأسي في الثلج، وأن أرقص على الجليد بقدم واحدة.. وأن التهم حبات الكستناء من جوف الجمر مباشرة، وأن أجد الوقت الكافي لأراجع مواقفي كل مواقفي. وأرى العالم بدون كوادر أو حواجز. أفتش عن كل ذلك في نفسي بمنتهي الصدق والحيادية، أن أكوّن نفسي..!
وأسعى بكل ما في وسعي لتحقيق كل حلم أفلت مني يوماً، فأنا من المؤمنين أنه لا يحق للقلب أن ينزف
تساؤلاته أمام محنة صنعها القدر، ولكن عليه أن يبحث عن أشياء ضاعت منه في غفلة. فتمسكوا بأحلامكم، وآمالكم حين تلامس أطراف قلوبكم. اسعوا إلى تحقيقها، وفي أقرب وقت، فهي للأسف كالسكر سريعة الذوبان...!
01:30 | 11-08-2021
للصبر آخر.. خلاص !
اليوم تتسع لهفتي للذهاب إلى (كنساس سيتي) حيث أحباب لي، تركوا رماداً هنا، وأضاؤوا السفح بالحنطة هناك، وذلك بعد أن سئمت من الجلوس والتحديق عبر نافذة زجاجية، متأملاً هذا القلب الكبير الذي أصبح مجرد مضخة. وأشاهد الحياة تتعرى تحت مصابيح المستشفى مساء، والكلاب تلعق الفرح صباحاً من خطوات الزائرين. لقد أصبحت في بعاد (فراس وآدم) أكتب حروفاً أشبه ما تكون بوردة يابسة في كتاب، وأتحدث بانكسار المسنين، وأحمل جسداً هو علامة استفهام كبيرة، ينتشر الشوق والحنين فيه، مهما أرسلت الشمس من عمالها لتخفيف هذا التعب المفتوح، أبكي على البكاء وأضحك على الضحك. يبس الريق وأنا أستجدي الأطباء أن يطلقوا سراحي، كأنني أستجدي مطراً لا يجيء، وتقرحت عيناي من متابعة قمر يذهب وحيداً إلى بيته كل مساء، وتبلدت أذناي من الإصغاء إلى طرق خفيف على باب مؤصد. أصبحت حزيناً كاحتراق مدينة، أذبل كل يوم كوردة في إناء، مكسور في هذه المدينة المتوحشة. لقد اشتقت حقاً لمنظر البرق يحدق في زجاج نوافذ منزلي العريضة في (كنساس سيتي) ولقدر كبير من الشتاء القادم، ولفرك أحجار جرانيتية في حديقة داري براحتي، والاغتسال على حافة نهر (الميسوري) المثلج، والجلوس إلى حفيدتي (سارة) التي أفتقدها كثيرا، (سارة) التي تمص أرنبة أذنها ماسة، ويبتسم النمش على كتفها، وتتحرك ستائر غرفتي عند ذكرها، ويرشح من عينيها العسليتين الضوء، ويسبح شعرها الأشقر فوق كتفها كسفينة على متنها بحارة طيبون، وردة العالم هي، من لها رائحة الربيع، وعلى جبينها سياج الورد، من تبتل الفصول بعطرها، وأرى في كفها السماء، ومن ابتسامتها تتفتح أزارير القلب لتأخذ ما تشاء من نبضات. اشتقت فعلا لعسل النهر، ولثلج يدوم، والاستحمام برغوة الوجد، والسهر أمام مدفأة مع زوجتي يطقطق الحطب داخلها كتعدين الأيام، رغبة قوية تجتاحني اليوم.. مثل عناق طويل، كشخشخة المفاتيح في قلب رجل مسن، كهواء محبوس في خوذة، أصبحت ألهث خلف أحصنة في طريقها إلى ماضي قرية ردمت بالثلج. لقد مللت حقاً من ارتداء هذا المعطف، ومغادرة هذا السرير، والتخلص من هذا المكان.
ابن الفوضى وتقلب المشاعر ستنادونني، نعم يا سادة.. ولم لا؟! فلم أعدكم يوما أن أتغير كإنسان، والأيام نفسها لم تتغير، فاللحظات ظلت خشنة، وإن تبسمت لي أحيانا بالمقلوب، لقد حملت مظلتي، وأقفلت حبسي، بعد أن بشرني المشرف على علاجي أنني سأكون حرا طليقا أراجعه وزمرته عبر العيادات الخارجية، إلا أنه عاد، وابتسامة تشفٍّ على محياه وغيّر رأيه، وذلك بعد أن ربطت رجلي برجل نسرٍ عله يطير. عفواً على صراخي اليوم، الذي أصبح ينطلق من حنجرة كفتحة فرن ساخن، ولكن (للصبر آخر.. خلاص) على رأي العبقري (عبدالكريم عبدالقادر) الذي يغنيها كسحبة قوس لأوتار كمان، فأقسى ما يمر به الإنسان أن يتحول من يحب إلى صور على سطح شاشة هاتف نقال، ويصبح الوصال عبر الهاتف.. وما زال الحنين مستمرا..
أؤمن أن الله لا يدع ثقال الأيام تدوم.. عسر، ثم يسر، ثم سرور.. فهو من أقسم مرتين: إن مع العسر يسرا.. فإن مع العسر يسرا..
اللهم بشرني بالشفاء التام كما بشرت يعقوب بيوسف.. وبشرني بالعودة إلى أهلي كما بشرت زكريا بيحيى.. اللهم بشرني بما أنتظره منك وأنت خير المبشرين. اللهم اسكب في جسدي نهراً من الراحة في أوردتي.. ربِّ أرح ثم هوّن.. ثم اشفِ.. كلي أمل فيك يا رب، ومن أمله فيك.. لن تهزمه الهزائم.. ولن يؤلمه الألم.. ولن تكسره المحن.. ما دام يردد: إن مع العسر يسرا.
فإن مع العسر يسرا..
صدق الله العظيم.
01:27 | 4-08-2021
اختلاف العطور.. لا يغير للورد قضية...!
في كل مساء، أجلس أحدق من نافذة غرفتي ٥١٤٣ في مستشفى «سانت ماري» التابع لـ«مايو كلينك».. أحدق في حديقة ممتدة على مد البصر.. حيث الحدائق هنا في المستشفيات جزء لا يتجزأ من المشهد الصحي الأمريكي. أجلس صامتا، أعتقد أن الصمت في هذه الغرفة أمر عظيم، يميل كثير من الناس إليه في مرحلة من مراحل حياتهم. أقارن حجم غرفتي في المستشفى بمنزلي الواسع الفسيح، والذي أصبح أكثر وسعاً بعد أن رحل أبنائي، ولدان متتابعان، تزوجا وأنجبا.. ورحلا كل إلى حاله. لا ألومهما فهذه سنة الحياة، لكنني أشتاق إليهما.. أشتاق إليهما كثيراً، وأشتاق إلى زوجتي، التي دائما أشغلها وتشغلني حتى لو بالخصام، والمعارك الصغيرة. أشتاق لها، أشتاق لكل أمورها.
معظم الوقت وأنا أحدق في البعيد أسترجع الذكريات مع زوجتي وأولادي، من وقت ولادتهم، وطفولتهم، ومراهقتهم، وحتى رجولتهم. المشاكل التي وقعوا فيها وأوقعونا معهم، النجاحات التي حققوها، وأسعدتني أنا وأمهم. يأتي ابني الحميم الحبيب (ريان) يأخذني إلى الحديقة، مقاعد كثيرة. أجلس أنا وهو على أحدها، أراقب الأطفال في لعبهم، أتخيلهم أحفادي، الأطفال لا يأبهون بي حتى إن جاءت الكرة عند قدميّ، يتناولونها ويعودون إلى لعبهم دون أن ينظروا إليّ، لو كنت تمثالا هل كانوا سينظرون إليّ ؟!
الملل هو يومي، والضيق هو ليلي، يذهب (ريان) ليبتاع بعض القهوة. لحظات وإذا بعجوز تجلس إلى جواري، فرحت بتحيتها، أريد إنسياً أحادثه. لن أشكو له ما أنا فيه، سوف أحادثه قليلاً.. في أمور السياسة، في الله الخالق ورحمته، أحادثه في أي شيء.. أي شيء يميل للحديث عنه. شيء يداعب أسفل ساقي.. نظرت، كان كلب العجوز التي جواري يتمسح بي، يرفع رأسه ناحيتي، أنظر إليه، عيناه غريبتان، بهما شجن ناحيتي، مثل الشجن الذي أراه في المرآة حين أراقب وجهي، هز ذيله لي، فتبسمت له. كانت السيدة تخاطب الكلب باسمه، فوجئت أنها تناديه باسم عربي، اتضح لي بعد ذلك أنها من جذور لبنانية، وأن ذلك الاسم هو اسم زوجها المتوفى. أخذنا نتحدث في كل شيء، وأي شيء كحال العرب عندما يلتقون في الغربة. قلت لها في هذا الجو البديع وسط هذه الحديقة الغناء، يبدو أنه لا ينقصك سوى سماع صوت (فيروز).. التفتت إليّ، وعلى وجهها ابتسامة ساخرة قائلة:
أنا لست مهووسة بـ«فيروز»، فهي مغنية سريعة وهشة، وخفيفة كما يليق بفراشة تعوم في النور. «فيروز» عشب بلا جذور، وردة لا شجرة. صوتها صاف وشفاف، لكن لا يشبعني ولا (يبل) ريقي، تنقصه عثرة، غلطة، نحنحة، ذرة غبار، أو حبة ملح، تحد من حلاوته، صوت طالع من الحلق، لا العمق.. صوت فينيقي وطنه الماء، بلا طين ولا رسوخ، صوت (نخبة) يرفل في الفرح والراحة، هو بيت من هواء، لا خيمة لكلاب السكك ومشردي الشوارع، شوكولاتة، لا رغيفا للجوعى.
صوت طاهر ونظيف، محرم على الوسخ والتعاسة. صوت «فيروز» يجسد هوية المكان اللبناني بامتياز، هشاشة صوت (جارة القمر) مرادفة لهشاشة الدولة اللبنانية، الهروب إلى أعلى، هو طيران، أو فرار من أسئلة، إجابتها الوحيدة هي أن اللبنانيين لا يستطيعون زرع جذورهم في طين الواقع، لأن الواقع مؤلم. صوت «فيروز» ملائكي لا إنساني بمعنى أنه يفتقر إلى وحل البشر. صوت الرومانسيين، والمرفهين، والمرتاحين. لا صوت البائسين والضائعين، والفقراء، والتعساء. صوت نظيف ومعقم، كمستشفى!
صوت «فيروز» هو صوت فينيقي بمعنى أنه تجسيد حقيقي للخفة، والسرعة، والآلام السطحية، حيث لا قبور أصلا لدفن الموتى على السفن. لا معزين ولا طقوس عزاء، لا وقت للحزن. إلقاء الموتى في عرض البحر هو أول بند في ثقافة البحار لأنهم (حمولة زائدة) تعوق الانطلاق إلى رحلة جديدة وفرح آخر.
قلت لها، بعد أن فرغت، وبركان غضب من هذا الرأي الشاذ في صدري: يا سيدتي، أنا أختلف معك، فالله لم يخلق الأصابع العشر متساوية، والاختلاف في العطر لا يفسد للورد قضية. صوت «فيروز» بالنسبة لي رسالة حب من كوكب آخر، لو كانت «فيروز» كوكباً لاخترت أن أعيش فيه.. فصوتها يجعل الصحراء أصغر، والمدى أرحب، والسماء أوسع.
لطالما انتشلتني «فيروز» من الغفلة والغفوة، ومن بؤسي، ووحشتي، وأحزاني. صوت «فيروز» حرير الريح الأبيض، وأغانيها جعلت من هذه الحياة أكثر أُنساً. لقد هذبت «فيروز» مذاقنا، ومزاجنا، وساعدتنا على أن نستخرج من أنفسنا أجمل ما فينا.
هي امرأة الندى، والوديان من وراء ظهر الجبل. تراتيل هي أغانيها تحول الوادي إلى وله، والكلام إلى ضباب، والألحان إلى ريح، والألم إلى إيمان، والأمل إلى إمكانية، والحب إلى حنين، انعتاق من الرداءة والتردي، كلام متدفق على شكل نهر من نغم، الكلام، لا يكون نفسه عندما يصدر من نبع حنجرة «فيروز»، لا أحد يضاهي «فيروز» إلا هي نفسها. هذه هي «فيروز» التي عرفتها. واختلاف العطور يا سيدتي.. لا يغير للورد قضية...!
23:53 | 27-07-2021
الدلال المدهش..!
أهداني ابني (ريان) وأنا في المستشفى في (مايو كلينك) كتاباً شيقاً وممتعاً للدكتور (ديك سلينرز) جراح أمريكي، جمع بين فن الجراحة، وفن البلاغة، وعمق الإيمان. الكتاب يناقش أهمية الجو المحيط بالبيئة العلاجية، وكيف أن هذه البيئة لها تأثير عجيب على موقف كل من الطبيب والمريض معاً. أسمى كتابه (الدروس القاتلة) يقول (ديك سلينرز) في أحد فصول الكتاب:
أخشى أن نكون قد فقدنا واحداً من أهم مصادر قوتنا، وهو الارتباط اليومي مع خالق الوجود، عندما انتزع مصممو المستشفيات النوافذ منها. فهذا العالم الخارجي يذكرنا بارتباطنا بالحياة كوجود، ويساعدنا على البقاء.
ويقول:
لقد أظهرت أبحاث أجريت حديثاً في (بنسلفانيا) أن المرضى الذين تواجه غرفهم فناء مكشوفاً، أو شجرة، أو حديقة، أو السماء الصافية يتحسنون أسرع من أولئك الذين تواجه غرفهم حائطاً من الطوب. لقد وصف الدكتور (ديك سلينرز) هذا التأثير ببلاغة.. يقول:
كانت لغرف العمليات نوافذ رحبة من زمن غير بعيد، وكانت هذه النوافذ نعمة وبركة، حديث جراح مع خالق الوجود. وكانت رحمة السماء تعانق دموع الفرح والتي تسيل أحياناً من عيون الجراح، وبشكل لا إرادي، عندما تتحقق المعجزة بإنقاذ حياة مريض فُقد الأمل في إنقاذه. وكان الحوار الصامت مفتوحاً بين هذا الشعاع القادم من السماء، والدعاء الصادر من قلوب العاملين بهذه الغرفة، ونظرات الشكر والعرفان والتقدير والإحساس بقوة وقدرة الخالق في إعادة الحياة التي تكاد تخطف أحيانا من المريض. ولم يكن يعكر صفو هذا الحوار الروحاني سوى نفاذ ذبابة من خلال الستائر الشبكية، وتهديدها لتعقيم الوحدة، وكان الرد على هذه الحشرة المغامرة بضربة سريعة مباغتة، أو رشة من مبيد.. ثم يعود الباب ليفتح على العالم المجاور. كانت هذه النوافذ مهمة لنا في أن نواصل المعركة الأزلية كل يوم، فقد كانت هناك بركة السماء، وتصفيق الرعد أحياناً، وتأنيبه لنا في أحيان أخرى. وكان البرق بمثابة ومضة الحياة التي تتخلل أحاسيسنا ومشاعرنا من حين لآخر. وكان العمل في الجزء الأخير من الليل في غرف العمليات، والسكون يخيم على كل شيء، وروعة النجوم وخلودها، وترقبها الصامت لما يفعل الجراح، وكأنها حارس، وشاهد يرافق السماء من فوق كتف الطبيب. وأخشى جداً أن نكون بعد أن سددنا نوافذنا بالطوب قد فقدنا أكثر من النسيم، إذ إننا فصمنا الرابطة السماوية!
إن العمل في غرفة عمليات بلا نوافذ يعني أن تعيش في غابة ولا ترى السماء، ولا تطلع عليك الشمس، ولا تستنشق الهواء،. ألا يعرف مصممو المستشفيات في هذا القرن ما معنى احتجاب السماء في غرفة العمليات؟ إنه تشويش غير إنساني للحوار الصامت بين المريض والجراح.
هذه العلاقة لا يعرفها إلا من يعمل في هذه البقعة الصغيرة من الأرض، والتي ترتبط بسماء لا حدود لها..!
لقد قرأت في إحدى المجلات منذ عهد ليس ببعيد عن أهمية الجو المحيط بالبيئة العلاجية، وكيف أن هذه البيئة لها تأثير عجيب على موقف الطبيب والمريض، دراسة حديثة قام بها (المركز الطبي الباسيفيكي) في سان فرانسيسكو، أثبت أن الموسيقى تساعد على تخفيف القلق والضغط النفسي والألم عند الأطفال والمرضى والكبار، فقد تم إدخال أنواع مختلفة من الموسيقى إلى وحدة القلب. وكانت استجابة الأطفال للرعاية أفضل عند الاستماع إلى (أنه عالم صغير) و(علاء الدين والمصباح السحري) و(الأسد الملك).
أما المراهقون فكانت (موسيقى الروك) أدعى إلى هدوئهم. وأما البالغون فكان لهم أشياء أخرى يفضلونها، ولقد أثبت علماء البيولوجيا الحركية أن الموسيقى الهادئة في غرف العمليات تساهم في تهدئة الجراح والمساعدين معه وتخفف من حدة التوتر.
يطرح (ديك سلينرز) في كتابه (الدروس القاتلة) بعض القصص الواقعية ليؤيد أهمية الجو المحيط بالبيئة العلاجية، فيذكر أنه أثناء قيامه بإجراء عملية جراحية لرجل تحت تخدير نصفي. بعد ظهر أحد الأيام وصل شريط التسجيل الذي كان يبث الموسيقى في غرفة العمليات إلى مقطوعة (الدلال المدهش) عندئذ ارتفع رأس المريض، وسأل هل هناك خطأ هنا؟
فضحكنا جميعاً.. وقلنا: لا.. قال: إنني إيرلندي، وإذا غنيتم لي (حين تبتسم العيون الإيرلندية) فإنني سأشعر بتحسن، وقد فعلنا، واستمتع بالأداء. وقال مريض في يوم آخر بعد أن شرع في الضحك، وهو تحت تخدير موضعي.. هذا أنسب شيء يمكن أن يحدث لي..
وكنت أقوم باستئصال ورم حميد كبير وكان (فرانك سينتاترا ) يغني في الخلفية:
لماذا لا تأخذني كلياً؟
ما أجمل الجراح الذي يعمل ويقينه أن السماء ترقب هذا العمل، وما أسعد المريض الذي يؤمن بأن اليد الممتدة للخالق لا تعود فارغة أبداً، وإن الأماني مهما تأجلت.. سيأتي فجرها لتشرق، أوعدوا قلوبكم أنها تستحق الفرح واملؤوها بالابتسامة واستودعوها الله. كونوا مطمئنين فالشفاء ليس حلماً، ولا وهماً ولا أمراً محالاً، بل هو تفاؤل وحسن ظن بالله.
23:42 | 20-07-2021
أصبحت اللعبة باهظة الثمن..!
ودعت القرية - التي أقيم فيها مع عائلتي- قبل انبلاج الصبح في طريقي إلى (مايو كلينك) في «رويتشستر مينسوتا».. تركت القرية (بارك فيل) وهي تستحم في الماء، كان كل شيء يبكي.. المزاريب شلالات من دمع تجرف حتى طين الأسطح، شجرة الليمون الملساء الورق، كانت أيضاً تبكي بانكسار تحت كتف المنزل، وتتوضأ بالشمس فتسيل دموعها لتغطي حتى الطابق ما تحت الأرضي.. كنت أودع كل شيء، كسيرا كالنباتات الصغيرة، وعيناي في بركة من الدمع الساخن.
بيت خشبي قديم ينتصب وحيداً تطل شرفته على الطريق، عليه يافطة كبيرة كتب عليها (للبيع)، في وسط الشارع كرسي خالٍ،، يتربصه الشارع في صمت، وحوله هموم مهملة، ثمة ما يوحي بأن عاصفة على الأبواب.
عالياً في السماء يطير سرب من الأوز سائحاً يتجه نحو الشمال، كأنه متجه للمطار هو الآخر. تقترب أصوات الأوز، تخف ثم تتلاشى. موزع الجرائد الصباحي في الرابعة عشرة من العمر، كان ظهره شكل حفيدي (آدم).. كان سعيدا أنه لا يزال يقذف بالصحف - حتى يومنا هذا في تلك القرية التقليدية في كل شي - فتتمدد على أبواب بيوت قارئيها. يوم جديد يطل على العالم كان الطفل يصفر كأنه يحيي الصباح، نسمات لطيفة تلتصق بجسدي.
وأنا أتأمل أعمدة الكهرباء، والقطار الذي يمر بين أشجار الطريق، وخلفه نهر (الميسوري) العجوز. أقارن كل ذلك بكيف تطاردنا الحياة. ودعت حفيدي (آدم) الذي صاحبني للمطار، وأنا أحبس دمعة تحاول الانفلات من زاوية العين.. منذ متى أصبحت هذه العين تدمع دموعا ساخنة..؟!
رفعت يدي إلى وجهي للتأكد.. لكن الدمعة لم تسقط.. قلما تسقط من عيني دمعة في حضور من أحب، فالملاحات التي تحاصر بؤبؤ العين سرعان ما تمتص الدمع وتنقله إلى شغاف القلب. أطبع قبلة عميقة على كتفه ورقبته، أتناول من يده حقيبة جلدية سعدت قبضتها بملامسة كفه. يزداد ضوء الصباح خلف زجاج المطار، كأنه لحن موسيقي حزين، قد أصدر له الأمر قائد الفرقة أن يرتفع بانتظام لينشر في النفس مزيدا من الانكسار. كانت طائرتي قد وصلت لتوها، صوت المذيع والذي تمرس في مخاطبة المسافرين، يوقظ النفوس المتهالكة على المقاعد الجلدية للانتباه، فينداح طوفان بشري على طول الممر. ثوان وكنت مع الحشد الذي بلعته الطائرة التي كان ربها حليماً بها. أنه جعلها لا تنتمي إلى نسيج المشاعر فلو عرفت معنى الفراق لما تركت عجلاتها الأرض قط... انكفأت أتأمل صورة عائلتي لألتفت كالمذبوح متجها بنظري نحو الأسفل، هاوية مفتوحة كأقصى ما يكون الانفتاح، ظهرت تحتي مساحة القرية الصغيرة من نافذة الطائرة، تأملت بيوتها الملمومة على البشر، بمن فيهم أبنائي، وأحفادي، وزوجتي، والشجر المهفهف ذو الأغصان العاكسة لزرقة السماء تكاد تطالها. زمن سعادة كان لي هناك في ذلك البيت الريفي الجميل، قلت ذلك لجسدي والذي صار يعايش الألم كنجار ينزع مسماره ليدخله في ثقب آخر، وتمددت على الكرسي كقمح الفقراء، لتمتد أطرافي في تربة الذاكرة التي ترطبها مياه الحنين العميقة فتحول الجذور إلى نباتات تحرض شعيرات الرغبة في حق العودة.. ولكن من يحقق ذلك!
شيء ما يصل حتى الأعماق، يجذبني باتجاه تلك البقعة حيث مكاني الرطب، هناك في ساحة قلب من أنتمي إليهم. حاولت أن أنهض من مقعدي، شعرت بخدر عميق في أطرافي، حتى الرجلان تفقدان قدرتهما على المشي عندما يدمع القلب. كانت الصحراء تملأ حلقي بجفاف لم أعهده، وحجارة مسننة حادة بشروخ عاصفة تتحرك بقوة داخل قفصي الصدري المتورم بالشهيق لأقصى الحجاب الحاجز، حتى انفجار دم القلب الراكض كحصان بري يصهل في براري هذا الجسم.. ما أقساك أيتها الحياة..!
ليتنا ندرك ماذا خلف ستارة الرواية..!
وصلت «رويتشستر» أخيراً لتستقبلني هذه المدينة المعدنية القلب بصباحها، المتناثر بغيومه البيضاء في فسحة السماء كجبال الجليد في المحيط.
أعبر الشارع، بوجل أبناء الريف من السيارات المتدفقة من كل اتجاه، لأرمي بنفسي في العربة التي كانت تنتظرني، يستجيب سائقها لإيماء يدي المرفوعة: (مايوكيلنك) يا سيدي.. لا مانع..!
وتنطلق بي العربة التي لا تلبث أن تضيع في الزحام.. تضرب في المدى.. فجأة تحول الطقس من حال إلى حال، مثل أقدام مسرعة.. كأن الأفق يعزف لحناً كئيباً.. تحول الأفق إلى ظلمة داكنة.. قلبي تهاوى مع وقع أقدامي، وأنا أتقدم من المستشفى، الظلمة، المرض، وأنت أيها الطقس الكفيف تدعسني بنعليك الكبيرين.. لقد تعبت يا حياة، تعبت من لعب دور القوي، أصبحت اللعبة باهظة الثمن.. لقد فقدت شهيتي من زمان في أن أزرع شجرة تفاح في حديقة جدي، وتورمت قدماي من اللهاث وراء اللا شيء، بحذاء ممزق. كانت ابتسامات الممرضات تتساقط على جسدي ككسرة عاج من السماء.. كان في استقبالي الخل الوفي «محمد إبراهيم البيز» الأصيل كعباءة البدو، والذي يأخذ منك التعب ليترك لك العطر في الممرات، كأنه مطر على المعطف، وصهري «محمد إقبال بكر علوي» منحني كتفاً، أفرغت نحيبي به.
كأنهما كانا شجرة تحرس لي الطريق، ألفت البكاء تحتها، أنشر حاجتي على أغصانها، وأستجير من الريح، بجذعها ولحائها.. طوبى لأرض تتسع لهما...
00:21 | 14-07-2021
اقرأ المزيد