أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/222.jpg&w=220&q=100&f=webp

تركي الدخيل

حكمة القمّة بين «كلمة محمد» و«بُردة شوقي»

عجيبة هي الأفكار، كيف تتحول عملية التفكير أحياناً، إلى شبكة تتبع أحد خيوطها، فما يلبث أن يسوقك إلى خيطٍ غيره، وربما لا يجمع بينهما إلا الاسم.

ولأننا كنا نعيش أجواء مفعمة بالمشاعر إثر نجاح باهرٍ لقمّة جدة العربية، التي ترأسها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان نيابة عن الملك سلمان، وأعادت جمع الشتات العربي بعد عقد من التشرذم، فالتأم الجرح، وأغنى الاختصار عن الشرح، وكان بيان القمّة على درجة من جمال الطرح.

ولا يزال صاخباً دوي تصريح وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، لقناة (الإخبارية) على هامش قمّة جدة، التي رجعت فيها سوريا للعرب، إذ قال الوزير السوري عن السعودية: «أنا سعيد بانعقاد القمّة العربية على هذه الأرض الطاهرة، أرض نبي الإسلام وأرض العروبة. السعودية بذلت جهداً هائلاً من أجل تحسين الأجواء العربية ومن أجل احتضان جميع الدول العربية. نحن ممتنون أن كل الدول العربية موجودة في هذه القمّة وهذا إنجاز لهذه القمّة وللدور الذي قامت به السعودية»، وزاد المقداد: «نشكر السعودية على التحضير الناجح الذي قامت به وعلى تسهيلها لكل المداولات التي تمت من أجل الخروج بمواقف عربية تعكس إرادة موحدة لمواجهة تحديات المستقبل».

وإذا كانت قمّة جدة هي القمّة العربية الثانية والثلاثون، فإن أول قمّة عربية كانت في 1946، بدعوة من ملك مصر (آنذاك) الملك فاروق، ومشاركة سبع دول، عُدَّت دولاً مؤسسة للجامعة العربية، وهي: مصر، السعودية، الأردن، سوريا، العراق، لبنان، واليمن.

والمصادفة التي قادتني لها حبال الأفكار المتشابكة، أن سنة 1946 التي شهدت أول قمّة عربية، كانت هي السنة التي طرحت فيها (الست) أم كلثوم، وهي من لم يجمع العرب على شيء مثلها؛ أغنيتها الخالدة، لقصيدة أمير الشعراء، أحمد شوقي، (نهج البردة) في مدح النبي عليه السلام، الذي عقدت في أرضه الطاهرة، قمّة جدة.

بعد القمّة ذهب الوزير السوري المقداد، مذهباً مدوياً مجدداً، عندما سئل عن ترحيب الزعماء العرب في كلماتهم، بعودة سوريا لتملأ مقعدها العربي، فاعتبر الترحيب «يُظهر الاشتياق لعودة سوريا»، وأن هذه العودة كعودة «الحبيب إلى حبيبته».

وكأن وزير الخارجية السوري، بعبارته الرومانسية، يحاكي منهج شوقي في (نهج البردة)، ذات الـ190 بيتاً، إذ بدأ أمير الشعراء قصيدته بأبيات غزلية تقطر عذوبة، وتمطر رقة:

ريمٌ على القاعِ بينَ البانِ والعلَمِ

أحَلَّ سفْكَ دمي في الأشهرِ الحُرُم

رمى القضاءُ بعَينَي جُؤذَرٍ أسداً

يا ساكنَ القاعِ أدرِكْ ساكنَ الأَجَمِ

لَمَّا رَنا حدَّثَتني النفسُ قائلةً

يَا وَيْحَ جَنبكَ بالسَهمِ المُصِيبِ رُمِي

جحدتُها وكتمتُ السهمَ في كبدي

جُرْحُ الأحِبَّةِ عندي غيرُ ذي ألمِ

فَشَبَّهَ المحبوبة بظبية بيضاء، تتمخطر في أرض سهلة منبسطة، تحيط بها أشجار البان ويظللها جبل شاهق بدا كالعلم. وبجمال الريم، أباحت سفك دمه في الأشهر التي يحرم فيها القتل وإراقة الدم. وفي خضم فيض حالة الافتتان، يُصاب بسهم فتّاك، فيشغله الغزل عن الألم، وإن سألته عن السبب أجابك بما يروي ضمأ التساؤل: فما سال من دماء كبدي المصاب بمقتل، لا يرف له جفن، فجرح الحبيب، لا يفرز ألماً كباقي الجراح.

وانتقل إلى تأكيد الأمير محمد بن سلمان، في كلمة السعودية بالقمّة؛ «أن وطننا العربي يملك من المقومات الحضرية والثقافية والموارد البشرية والطبيعية، ما يؤهله لتبوؤ مكانة متقدمة وقيادية، وتحقيق نهضة شاملة في جميع المجالات»، وكأنه يغرف من بحر الحكمة الذي غرف منه شوقي، بقوله:

يَا نَفسُ دُنيَاكِ تُخفِي كُلَّ مُبكِيَةٍ ​​​​ ​​​​ وإن بَدَا لَكِ مِنهَا حُسنُ مُبتسَمِ

أو قوله في قصيدة أخرى:

وَمَا نَيلُ المَطَالِبِ بِالتَمَنِّـــــي ​​​​ ​​​​ وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيَا غِلَابَا

وَما اِستَعصَى عَلى قَومٍ مَنالٌ ​​​​ ​​​​ إِذَا الإِقْدَامُ كَانَ لَهُم رِكَابَا

ومن ذات نبع الوعي، ونهر الحكمة، يَعُبُّ مُجدداً شوقي ومحمد بن سلمان، عبر قول أمير الشباب: «نؤكد للدول الصديقة في الشرق والغرب، بأننا ماضون في السلام. ولن نسمح بأن تتحول منطقتنا إلى منطقة صراعات»... وقول أمير الشعراء:

صَلاحُ أَمرِكَ للأَخلاقِ مَرجِعُهُ ​​​​ ​​​​ فَقَوِّمِ النَفسَ بِالأَخلاقِ تَستَقِمِ

والنَفْسُ مِن خَيرِها فِي خَيرِ عَافِيَةٍ ​​​​ ​​​​ والنَفسُ مِن شَرِّهَا في مَرتَعٍ وَخِمِ

تَطْغَى إِذَا مُكِّنَتْ مِن لَذَّةٍ وَهَوَىً ​​​​ ​​​​ طَغْيَ الجِيَادِ إِذا عَضَّتْ عَلَى الشُّكُمِ

إن إدراك محمد بن سلمان طبيعة النفس الخَيِّرَة، والنفس الشريرة، جعله يؤكد للعالم رغبتنا الجامحة في السلام، ولن نسمح أن تطغى النفوس في هواها، فيسوق طغيانها منطقتنا للصراعات.. لذا نقول: شكراً محمد بن سلمان فنجاح القمّة جَمَعَ الأمّة.
04:08 | 21-05-2023

عبقرية الحكاية السعودية نهضت بالتحالف مع رجال الخير

امتدتْ مسيرةُ بلادي الظافرةُ لقرونٍ مديدةٍ، ونحتفي اليومَ باثنينِ وتسعين عاماً من الاستقرارِ، والتنميةِ، فنستعيدُ سيرةَ المؤسسِ العظيم، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، رحمهُ الله، الّذي سطّرَ التاريخُ اسمَه بأحرفٍ من نور، ما زِلنا نَرى علاماتها في واقِعنا، إذ لم يكتفِ بتوحيدِ بلادِنا، وشَدِّ أطرافِها، بلْ سَبكَ قلوبَ أهلِها بحبِ الطّموح، والولاءِ للقيمِ العربيةِ الأصيلة، وعلى دربهِ سارَ أنجالُه الملوكُ الكرام، حتى جادَ الزّمانُ بسلمانِ الحزمِ والعزمِ والتنميةِ والاستقرارِ، وابتسمتْ الدُّنيا لبلادنِا والمنطقة، بإعلانِ تباشيرِ رؤيةِ 2030 التي عملَ على أدقِّ تفاصيلِها ولي عهدنا سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ملهمُ الشبابَ في بلادِنا والعالم العربي، وقائدُ الطموحِ والإنجازِ، بمباركة ملكية. وهي رؤيةٌ تَستَغِلُّ طاقاتِ إنسانِ السّعودية كُلِها، وتعمل لصالح المنطقة كاملة، وتدعمُ تحوّلها لواحةِ استقرارٍ؛ وأمان. كيفَ لا، وهي دعوةُ سيّدِنا إبراهيم، ومهدُ الرّسالة، وقلبُ العروبَةِ، ونقاعَةُ المجدِ المُؤَثَّل.

أحدّثُكُم اليوم، ولكأني أنظرُ إلى المؤسسِ، يُطالعُ قبلَ أن يبدأَ رحلتَه لتوحيدِ بلادِنا، إلى تاريخِ الدّولِ والأيام، بخيرِها وشرّهِا، في صعودِها وهبوطِها. وقد أرادَ بناء مجدٍ يزيدُ على الأوائلِ، وجدّ عزمُه على حوزِ فضلٍ يبقى ويستمرُ وينفعُ الناس. فانتقى لرحلتِه، مع الرجالِ الشجعانِ المؤمنين بأمتهِم؛ رجالاً يضيفون إلى حواسِهم الخمس: حاسةَ الإدراك، وينظرون بالبصيرةِ، والحكمةِ. فكانت الحكمةُ والظفرُ، والأصدقاءُ والحلفاءُ الشجعان؛ أوّلَ «مال» تأثّلَته الدولةُ السعوديةُ في مسيرتها. وكان الأصدقاءُ والحلفاءُ، أقوى درعٍ لها، عرفنَا قيمتَه نحنُ الأحفاد، في صداقتِنا الدائمةِ مع الأشقاءِ في دولةِ الإمارات، صداقةٌ امتحنتْها الشّدةَ والرخاء، فما زادتْها الأيامُ إلا صلابةً وصلادةً ونقاء.

أكادُ أنظرُ لأنفاسِ الجزيرةِ العربية، منذ عرفتْ نفسَها، فأجدُها في جِدِّ امرئ القيس وسَعيِه، وفي ناقةِ طَرَفَة بن العبد وهِمّتِه، وحكمةِ زهير بن أبي سلمى وصَبرِه، وفي أدبِ النابغةِ الذبياني وتلطفِه، كُلُّها تنبعثُ في صدرِ رجالِ المؤسس -متساءلةً- أما آنَ للزمانِ أن يسمحَ لإنسانِ هذه المنطقةِ بالأمان؟ أن يحجَ في أمنِ، ويبيتُ في سِعةٍ، ويصبحُ في أمل؟!

كان عبدالعزيز، دعوةَ الأمهات، وفَرجَ الله لمنطقةٍ بخسها الناسُ حقَّها، وظلّوا يستكثرون عليها؛ أن جعل الله على ظهرها الحرمين، وفي بطنها الأنبياء والصحابة، وفي جنباتِها المعادن والكنوز. ولما جاء عبدالعزيز، كانت الاستجابة، فجاءت معهُ الدولةُ والنظام.

لقد حرسَ الملكُ عبدالعزيز دولتَه الوليدةَ، بأن أهَّلَ القادةَ العظام، ودرَّبَ الرِّجال، فَأهَّلَ أبناءه الملوك الميامين سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله، رحمهم الله، حتى سلمان حفظه الله، وقدَّم لهم خلاصة التاريخ، في كلمتين: احفظوا بلادَكم وأصدقاءَكم، وقد أثبتت الأيام أنه أجاد، وعلى دربه سارت البلاد.

ثم كان بعدَ مئةِ سنةٍ أخرى؛ أنْ استدارَ الزمان، وتداخلت التّحديات، وجاءت طامةٌ إثرَ أزمةٍ ماليةٍ لكلّ الشرقِ الأوسط، ونزلتْ على ظهرِهِ بمطرقةٍ من حديد، فكادتْ أنْ تَتَشَتَتَ الشعوبُ مرةً أخرى، وانبعثتْ الفوضى من مرقدِها، بِفِتَنِها، وقلبُ الجزيرةِ لا يغطيه إلا ضلعُ عبدالعزيز المستقيم.

كانت عبقريةُ الحكاية السعودية، التي نهضتْ بالتحالفِ مع رجالِ الخير، فعززتْ الاستقرار، لا في ربوعِ الوطن، بلْ وأنقذتْ الدولَ العربية، وصدّتْ أياديَ العبث. وكان قلبُها في يد سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وعقلُها في يد ولي عهده الأمير محمد بن سلمان.

فبلادُنا اليوم، ضمن العشرة الأوائلِ الأسرعَ تطورًا في تحقيقِ جودةِ مستوى العيش، ناهيكَ عن المساعداتِ الإنسانيةِ، والمسؤوليةِ الدوليةِ في الحفاظِ على المناخِ والمبادرات الحيوية، والسّعي لجلبِ السلام بين قوى العالم المتصارعة.

بلادُنا اليوم تحتضنُ الحرمين الشريفين، وتقودُ مع رفاقِها في دولة الإمارات ودول الاستقرار، أكبر مشروع إصلاحٍ في التاريخ الحديث، بهمةٍ واقتدار، ويكمنُ فيه الأمل الأخير لاستعادة الدين من أيدي مُختَطِفِيه.

أفلا يحقُ لنا أن نفْخَر! وأنْ يفخرَ معنا العرب.

الديبلوماسيون، يتحفّظون في الكلام، ولكنّي بين يدي وطنٍ، يُسيل حروف كل عاشق للمجد، وتنداحُ في رحابه قريحةُ كل مؤمنٍ بالدولة، وفي عَرَصَاتٍ قدّسها الله واختارها لبيتِه، أين لي التوقفُ والتحفظُ والالتزام؟!

كثيراً ما قيل لي: أنت سفيرُ رجلٍ عظيم، تخدِمُ دولةً عُظمى، فأستعير بفخرٍ ما قاله زهير، وأعتذر منه قائلاً:

لوْ كانَ يَقعَدُ فوْقَ الشّمسِ من كَرمٍ قَوْمٌ؛ بأوّلُهمْ أو مجدهم قَعَدُوا:

قَوْمٌ أبُوهُمْ (سعودٌ) حِينَ تَنْسُبُهُم طابُوا وطابَ منَ الأوْلادِ ما وَلَدُوا

أنا وزملائي نعيشُ بينكم ولا نشعر بغربةٍ، بل نشعرُ بعمقِ الصّلةِ والتّشابه والتّطابق... وصدَقَ من قال إنّ «السعودي إماراتي والإماراتي سعودي». فإنّ من ينظرْ بعين الأخوة، وببصيرةِ المحبةِ الصادّقة، سيرى أنّ في «ليوا» شيئاً من «الثمامة»، وفي «الظفرة» كثيراً من «نجد»، وفي «حفيت» ملامحَ من «طويق»، وفي «قصر الحصن» نفحاتٍ من «المصمك». وفي كلِّ شيءٍ من هنا ألفُ شيءٍ من هناك!

فلا غروّ أنْ نقولَ، نحنُ أنتم، وأنتمُ نحن، فنحن معًا وأبدًا. عِيال زايد وأحفاد عبدالعزيز، أخوان شما، وأخوان نوره «كف على معصم»، نخلتنا واحدة وعندنا سيفان.

*كلمة سفير خادم الحرمين الشريفين لدى دولة الإمارات العربية المتحدة تركي بن عبدالله الدخيل في اليوم الوطني السعودي الـ92.

19:31 | 25-09-2022

إرشاد الحيارى إلى حِكَمِ أبي يارا

بعد مرور عقد وعام على رحيل غازي القصيبي، في 15 أغسطس 2010، بقي غازي يتصدر المشهد، في حياته، وبعد مماته، ولا ريب فهو ممن تحدث عنهم صديقه في الشعر، أحمد شوقي، في عجز بيته الجميل:

الناسُ صنفانِ: مَوتى فِي حيَاتِهِم ** وآخرُون بِبَطنِ الأرضِ أحيَـــاءُ

والقصيبي من تلك الفئة من الناس، المتوجة بمقولة: «المعروف لا يُعَرَّف»، لأنه جاوز القنطرة أولاً، ثم لصعوبة تعريفه، رحمه الله، فهو أستاذ جامعي، ومثقف لامع، وشاعر فحل، وروائي مبدع، ورجل دولة بارز، ووزير ناجح، وسفير متقن، ومتحدث مصقع، وفوق ذلك كله؛ رجلٌ يمتلئ إنسانية، ويفيض وطنية.

إنه ظاهرة استثنائية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، في كل مراحل حياته، وخلال كل مناصبه، مذ بدأ حياته المهنية، وحتى غادر دنيانا عن سبعين عاماً.

أينما ذهب كان نجماً، وحيثما حَلَّ أصبحَ رمزاً، وكلما طرح منتجاً ثقافياً، قصيدة، أو فكرة، أو مقالة، أو كتاباً، دُقّت الطبول، وقُرعَت الأجراس، ونُودي لميدان الجدل، ومضمار الإثارة.

كابد الراحل الكبير، في حياته من أجل وطنه ودينه، فهوجِم وفُسِّق، ووصم بالعظائم، لكنه اليوم، بات رمزاً وطنياً شاهقاً، يفتخر به الشباب قبل الكهول:

وشمائلٌ شهِدَ العدو بفضلها

والفضلُ ما شهِدَت بِهِ الأعداءُ

في ذكرى وفاة غازي القصيبي، رحمه الله، هذه بعض مقولاته، وكتاباته، وهي تكشف حكمته، وحنكته:

• الهجاء، فنٌ لا علاقة له بالشتم.

• الذين يشتمون الشهرة، هم الذين فشلوا في الحصول عليها.

• إن الذي يُحب الله، لا يمكن أن يكره البشر.

• ما أكثر الذين يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء... يحكمون على كل إنسان... ويَبُتونَ في كل قضية... ويُفتون في كل معضلة.

• عدونا الأول هو التخلف، وليس إسرائيل.

• عندما كنت في المدرسة الابتدائية، وصل أبي إلى متجره ذات يوم، فوجدني ألعب مع مجموعة من الزملاء وسألني «مع من كنت؟» قلت على الفور:«مع أصدقائي». قال مستغربا:«كل هؤلاء أصدقاؤك؟». قلت بثقة الطفولة:«نعم! كلهم!». ضحك أبي وقال:«أنت محظوظ لو خلص لك من بينهم صديق واحد».

• لم أرَ أحداً يكرهُ الناس، إلا وهو يكره نفسه أكثر.

• إن رغبتي في إتقان ما أقوم به من عمل لم تَعنِ، قط، رغبتي في التفوق على أي إنسان آخر. وكنتُ، ولا أزال، أرى أن هذا العالم يتسع لكل الناجحين، بالغا ما بلغ عددهم. كنت، ولا أزال، أرى أن أي نجاح لا يتحقق إلا بفشل الآخرين، هو في حقيقته، هزيمة ترتدي ثياب النصر.

• كنت أقول للطلبة في المحاضرة الأولى إن رسوب أي منهم يعني فشلي في تدريس المادة قبل أن يعني فشله في استيعابها.

• إن اكتشاف المرء مجاله الحقيقي الذي تؤهله مواهبه الحقيقية لدخوله يوفر عليه الكثير من خيبة الأمل في ما بعد.

• الذين يعرفون فرحة الوصول إلى أعلى السلَم، هم الذين بدأوا من أسفله.

• سر نجاحي هو أنني كنت دوماً أعرف مواطن ضعفي، بقدر ما أعرف مواطن قوتي...

•الإنسان السعيد هو الذي يستطيع أن يحول كل موسم من مواسم الحياة، فرصةً لنمو طاقات جديدة، أو متجددة في أعماقه.

• إنني أؤمن أنّ الصداقة تُعطي الحياة معنى أعمق. كان لي صديق عزيز قال لي وهو يحتضر إنّه يَمُوت سعيداً لأنّه يمُوت وَهُو مُحاط بالكثير من الأصدقاء. قال لي: إنّ هذا يجعله يَشعُر أنّ حياته لَمْ تَكُن عَبثاً.

• اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، والسخيف جداً، أن كل قضايا الود -عبر التاريخ- أفسدها اختلاف الرأي.

• رسالة إلى مخترع الفياغرا:

يا سيدي المخترع العظيم...

يا من صنعتَ بلسماً قضى على مواجعِ الكهولة... وأيقظ الفحولة...

أما لديكَ بلسمٌ يعيدُ في أمتنا الرجولة؟!

• شهادة الدكتوراه، لا تعني أن حاملها يمتاز عن غيره بالذكاء أو الفطنة أو النباهة، فضلاً عن النبوغ أو العبقرية. كل ما تعنيه الشهادة، أن الحاصل عليها يتمتع بقدر من الجَلَد، وبإلمام بمبادئ البحث العلمي.

• الإجابة على سؤال سخيف هي تشجيع على السخف.

• التحدي هو أن تنحازَ في قراراتكَ؛ كلَ قراراتكَ، إلى الحل، لا إلى الأزمة.

• لو طَبّقَ كُلَ إنسان ما يؤمنُ بهِ من آراء في عمله -بسكوت وبصمت- وتركَ الحُكم على العمل للآخرين، لخدم بذلك الفكرة التي يُؤمن بها، أكثر مما لو كتبَ كتابا كاملا في شرحها.

• من السُخف أن يُعَذِّب الإنسان نفسه بقراءة شعر سخيف، أو رواية ركيكة.

• هناك قانون -في رأيي- لا يخيبُ أبداً: أنكَ بقدرِ ما تعطي تأخذ.

• عندما يكون الأمر متعلقاً بالمصير؛ بأن يكون الإنسان أو لا يكون؛ فإن إرضاء الأشخاص، لا يكتسب أي أولوية على الإطلاق!
22:36 | 19-08-2021

السعودي الكبير.. عثمان الصيني الصحافي والأكاديمي وعاشق التراث

غربي السعودية، بين الجبال وحيث القداسات، ولد الصحافي الأكاديمي السعودي الدكتور عثمان محمود الصيني، عام 1955، في أقدس بقاع الإسلام (مكة المكرمة).

فتح الصبي عينيه أول مرةٍ، على واحدةٍ من أكثر المدن تعدديةً، واخْتلافاً، فرأى الأعْراق المتباينة، والأشكال المختلفة، والألوان المتنوعة، والطقوس الديْنية التي لا تنتهي، حيث تلبية وتكبير ملايين الحجاج المعتمرين، آتين من كل فجٍ عميق.

هذا الصبيّ الشقيّ، تلمع عينيه مع كل مشهدٍ، من تلك اللحظات الأثيرات، ومعها، تخلّقت بِذْرة الملاحظة، لدى الصحافيّ الأديب الأكاديميّ القدير عثمان الصيني.

شغف الصينيّ، منتهى الشغف باللغة العربية، أصولها، وتنوعها، درساً، ومنهاجاً، فحاز فيها، على شهادة الماجستير في عام 1982، والدكتوراه في عام 1990، من قسم اللغة العربية بجامعة أم القرى بمكة.

وقاده حبه للغة العربية، ليسلك دروبها، فعكف على دراسة اللهجات، وساقه الافتتان بمعرفة الغوامض من القول، إلى الولع الشديد بالصحافة، ليكون من أبرز الأسماء الصحافية، السعودية، في العقود الأخيرة.

تنقل عثمان، بين مطبوعاتٍ، ومهماتٍ، ومسؤولياتٍ في الصحافة والإعلام. أعجبته وأعجبها.. وقع الحافر على الحافر، فكان الأكاديمي الذي طوّع الصحافة، ولم يقع في فخ الامتلاء النظري، قبالة الضعف العملي، وهو نموذجٌ يندر، تكراره في بلاط صاحبة الجلالة.

البدايات: الجدّ المهاجر... المعلم اسم صاحبنا: عثمان بن محمود بن حسين الصيني...

منذ ما يقارب التسعين عاماً، رحل الجدّ حسين من موطنه، بشمال غرب الصيْن، حيث يسكن مسلمو تلك البلاد، قاطعاً جبال الهملايا، تجاه ميناء كراتشي بباكستان، ليبحر منه صوب بوابة الحرمين، جدة في طريق حجٍ وعرٍ خطرٍ طويلٍ، إذ تستغرق الرحلة أشهراً، وربما تجاوزت العام الكامل!

ورّث الحاج حسين صفاته التي لازمته حتى وفاته (رحمه الله) لأبنائه. وفي الصدر من هذه الصفات: الصبر، والتفاني، وإتقان العمل.

وفي رحلةٍ، ماتعةٍ، يروي عثمان الصيني، للزميل، مفيد النويصر، ببرنامج mbc: «من الصفر» أنه كان يتبضع مع جدّه للبيت من السوق الكبير، فيحملان الزنبيل خفيفاً ذاهبين، وبعد التبضع يمتلئ الزنبيل، فتثقل خطى الجدّ المتكئ على عصاه، بينما يعجز الطفل الصغير عن حمل الزمبيل، فيأخذ الجدّ العصا ويمدها عرضاً، ليكون طرف عند حفيده، والآخر عنده، معلقاً الزمبيل منتصف العصا، والشق الأثقل بيد حسين، فيما الأخف بيد صغيره. ويحدث أن يشفق عليهما سائقٌ، فيقلهما بسيارته إلى البيت.

يقول عثمان: «عاهدت جدّي، لاحقاً، أن أقل، إذا امتلكت سيارةً، كل من تراه عيني ماشياً».

طريق الحياة الوعر.. مهنٌ لا تفقد بريقها وصل الجدّ حسين مكة حاجاً، لكنه قرر أن يجاور الحرم، فينتقل ليسكن في مكة بجوار المسجد الحرام، حيث الطائفين، والعاكفين، والركّع، السجود، وحلقات الدروس الدينية تتناثر في صحن المطاف، وفي أروقة بيت الله العتيق. كان حسين شيخاً شغوفاً بتعلم علوم الشريعة، خصلة أورثها الجدّ للحفيْد، فيما أفرغ الأب، محمود بن حسين كل طاقاته في الكدّ والعمل لتأمين لقمة عيش أسرته المكونة من والده ووالدته وزوجة محمود وأولادهما.

عمل محمود في الصناعات الحديدية البسيطة، وخصوصاً صناعة السحّارات، كما عمل في حياكة الطواقي، ونظم السبح، وهي المهن التي تفرضها اقتصاديات مكة، آنذاك. وباع عثمان في طفولته الطواقي، والسبح، والكروت التذكارية أمام دكّان والده بباب السلام. هذه البضائع يعرف عثمان آليات تسويقها، بل ويتعدّى إلى غيرها، فتراه ينظر إلى أنواع الأقمشة، وزخرفات الزينة، ويميّز بين السكاكين والخناجر، ولو سألته، لأطنب متحدثاً عن أصل كل خنجر، ونوع كل سكين، فقد تجذرت معلومات البضائع، في ذاكرته، وهكذا تفاصيل كل أمر يهتم به، حيث تنقش معلوماته في رأسه نقشاً، فكيف ينسى؟!

بدايات الطلب في رحاب الحرم

نشأ عثمان في كنف جدّه، وقدمت له حلقات تعليم الشريعة بالحرم، حيث تتنوع بين المذاهب الفقهية، قبول التنوع، والاستعداد للانفتاح على الثقافات المتباينة، وتفهم الآخر المختلف. طلب العلم مع الجدّ في حلقات مذاهب فقهيةٍ متعددةٍ، وتعلم القرآن بالقراءات المختلفة، فمن قراءة حفص عن عاصم؛ إلى قراءة ورشٍ، ما منح الطفل مناعةً ضد التعصب لفكرةٍ، أو اعتقاد الصواب المطلق في رأيٍ فقهيٍّ، ورفض غيره، فضلاً عن المنازلة لإثباته.

الجانب الآخر، الداعم لتعددية عثمان الصيني، يكْمن في براغماتية التاجر، إذ نشأ في بيتٍ مكافحٍ، فوضع نصب عينيه حفظ أنجح طرق التعامل مع الزبائن. تعلم لأجل ذلك قليلاً من لغاتٍ عديدةٍ، منها: الإندونيسية، والنيجيرية، والأوردية، والتركية، والفارسية. التعامل مع اختلاف المذاهب الفقهية، وبراغماتية السوق، صاغا على مهلٍ، وشكلا على عينه، بمستوياتٍ مرتفعةٍ من الرقة، والروقان، شخصية عثمان المرنة.. التي يسميها صديقه، ورفيق عمره الدكتور عالي القرشي: «مراوغة الموقف»، إذْ يتلافى صاحبنا، كل ما يجْلب الشقاق، ويسْعى بكل ما أوتي لتجنب الاصطدام، لا خوفاً، بل تسامياً عن الصغائر، وكأن شعاره: لن أتدافع مع الآخرين على الجيف!

يدخل بهدوءٍ.. ويخرج بهدوءٍ.. لا يتذكّر إلا أطيب الأشياء، وإلاّ فقد اتخذ الرجل الصمت، صديقاً صدوقاً.

الاحتفاء باللهجات.. دار التوحيد والسوق!

التحق عثمان بدار التوحيد بالطائف، ويعتبرها نقطة تحول في حياته، أتاحت له الاقتراب من مكونات المجتمع كله، مما سهل له التقاط عادات القبائل، وتباين اللهجات واختلافها، والتنوع الشعري من قبيلة لأخرى ومن منطقة لأخرى، فما بالك بالأنساب، التي بات الصيني بها عارفاً خبيراً، يبرز بمعرفته المختصين كافة.

وجود عثمان في السوق، وتعامله مع البدو والحضر السعوديين وغيرهم، أضاف له معرفة بتباين الأشعار، وهي وسيلة التأريخ الرئيسية في الجزيرة آنذاك، واختلاف اللهجات من بين القبائل والمناطق.

يقول الصيني: «تخرجت عام 1976، وذهبت في زيارة إلى عسير، وكان هدفي من الزيارة إضافة للسياحة، أن أتعرّف على أماكن سكنى زملائي».

في روايته هذه يسرد الأسماء، وكأنه يشاهد خارطة كبيرة تنتصب أمامه، يطرز روايته، بذكر مزايا شمال المنطقة وجنوبها، وتفاصيل عاداتها، ويمايز بين رقصات أهاليها، مفرّقاً تفريق العارف المتبصر بين رقصة أهل الجبال والصحراء، وحداء أهل الوادي، وأهل الجبل، وطبقة صوت سكان السهل، مقارنة بطبقة صوت سكان المرتفعات. ويضيف للمعلومات تحليلاً نفسياً عميقاً يسرد أسماء الناس والمناطق، والعادات، وكأنه ترعرع في تلك المنطقة، ولم يبرحها طوال عقود عمره التي توشك أن تعانق العقد السادس.

وأنت تستمع إلى الصيني، تسرج خيْلك لاقتفاء معنى هنا، ومكاناً هناك. وسترى فيه رجلاً يشبه في التقاطاته الاجتماعية النابهة جان جاك روسو، وهو يدون كتابه: «محاولة في أصل اللغات»، أو شاعراً سكب شاعريته على منهجية الباحث، مثل عبدالرحمن الأبنودي، وهو يتقفى سيرة الهلاليين. عثمان الصيني السعودي الكبير علماً، ومهنيةً، وخلقاً، وتواضعاً، لا يقل في أسلوبه السهل، الممتنع، وسرده المشوق، ببلاغة لا يشوبها تقعرٌ عن الإذاعي البديع عبدالعزيز العروي راوية الحكايا التونسي الشهير.

هذا الشغف عند عثمان الصيني جعله لا يقنع، بذكاء المراقبة والالتقاط، وبراعة التفريق والسبر والتقسيم، بين اللهجات والعادات، بل أزّه أزاً، وذهب به إلى الجامعة، لمنهجة ما نبت لديه من اهتماماتٍ، وقراءاتٍ، عزّزها بضرب أكباد الإبل، سفراً ورحلةً في طلب الوقوف على رصيده المعرفي من أفواه الناس، ناقلاً تصرفاتهم، وصفاتهم لا عبر وسيطٍ، بل بشهادة عينيه التي لم يكن لصغر حجمهما أثرٌ عكسي على عثمان الذي كان يكبر كل يومٍ معرفياً، وإنسانياً، وقبل ذلك وطنياً، فكل معلومة جديدة يعرفها عن وطنه وإنسان بلاده تزرع نخلةَ ولاءٍ، وتنبت ثمرة عشق للوطن.

في الجامعة التقى بالدكتور خليل عساكر، وللصيني وفاء نادر يبذله لهذا الرجل، إذ لا تكاد تسمع مادةً يحلل فيها أبو حازم (كنية عثمان الصيني) اللغات؛ إلا وفي رأس مراجعه الدكتور عساكر تقدير لعلمه، وإجلال لمكانته، إنها ممارسة الكبار مع أساتذتهم ومشايخهم الذين أخذوا العلم من أفواههم، وثنوا الركب في حلقات علمهم، ولو كانت مدرجات جامعية.

ويبدأ الحكاية بتأكيد فرادته، وهو عجيب بحق، إذ يتقن -هذا الـ عساكر ولاحظ أنه جمعٌ لا مفرد- 16 لغةً حيةً ومندثرة، ومنه أخذ الصيني الاهتمام بالأطلس اللهجي. استبطن الصيني هذه المعرفة، ووظفها لإنتاج آرائه اللغوية التي تظهر فيها براعته، وتبحره في فقه اللغة.

الأكاديمي: في رحاب الجامعة وبين الزملاء

وكأن الشاب الذي لا يزال يتحدث مع عائلته في البيت بلغتهم الصينية الأم يكرر قصص أئمة اللغة المتقدمين الذين خدموا العربية رغم أن أصولهم ليست عربيةً، وفي سيبويه، مثالٌ يغني عن غيره. لم تخْلُ الجامعة من صعوباتٍ، هنا، ومنغصاتٍ هناك. مكافأة الجامعة كانت لا تقيم أود شابٍ في عمر عثمان حينها، خلافاً لمشكلة تعثرها وعدم انتظامها، ما جعل الشاب النّابه، والتاجر الصغير يبحث عن مخرج ولو كان حيلةً.

اشترى كتاباً، مختصاً بأدعية المناسك، وحفظ أدعية الطواف والسعي، واشترى جُبّة (عباءة) ممُطَوِّفٍ بخمسين ريالاً تقاسمها مع زميلين آخرين، كانا يستخدمان ذات الجُبّة، كلما أَنّ جَيبُ أحدهم، يشكو فراق الريالات!

أجرةُ تلقين الحجاج والمعتمرين الأدعية، كانت عشرة ريالات لكل حاجٍ. وما إن يهُذُ عثمان الأدعية على ثلاثة معتمرين، ويضع في جيبه ثلاث عشرات، حتى يعود راكضاً، وقد امتلأ سروراً وحبوراً، لإكمال رحلة العلم والدراسة.

فتنة الشغف العلمي والنهم المعرفي، عند الصيني لم تقف عن اللغويات واللسانيات، بل امتدت لتشمل المخطوطات، وكانت مكتبة الحرم المكي، ومكتبة جامع عبدالله بن عباس بالطائف كصومعتين يقضي فيهما عثمان الساعات، يتقلب بين مخطوطة وأخرى، مسجلاً الملاحظات، حتى لا تخونه ذاكرته، تلك التي يصفها زملائه بالذاكرة التصويرية. وضمن هوَسه العلمي، فهرس مخطوطات مكتبة جامع ابن عباس، كاملة، في عملٍ علمي مجانيٍ، يندرج ضمن إيمانه العجيب بالتراث، إذ يراهُ السبيل لاختراقٍ حضاري، وينظرُ إلى اللغة، بوصفها وسيلةً، لتذليل العقبات بين البشر، وكما مرّ زهوّه بأستاذه عساكر، فهو هنا، يجيّر هذا الزهو لاستجلاء فكرةٍ مُرَكَبَةٍ، كتبها صبيحة انفصال جنوب السودان عن شماله، فقال عن فرصةٍ يراها ضاعت: “ما يهمنا هنا ما قام به الدكتور خليل عساكر، وهو من تلامذة بروكلمان وبرجشترسر وكراوس، حيث وضع أسلوباً لكتابة لغتهم - يعني قبائل جنوب السودان (الدينكا والنوير)- بحروف عربية، كما قام بطباعة بعض المناهج، وفق أسلوب الكتابة التي استفاد فيها من المستشرقين الألمان، وبدأت البعثة التعليمية المصرية بتدريسها في تلك المناطق، ثم دخلت السياسة في ذلك، فكان الوأدُ مصير المشروع”. ويذهب لفكرة خارج الصندوق إذ يقول:”أتخيلُ... ماذا لو نجح المشروع؟ وارتبطت أكبر قبيلتين في جنوب السودان وهما الدينكا والنوير بالحروف العربية، مدخلا إلى الثقافة العربية، ولم تكن أصولهما الزنجية عائقاً في انصهارهما ضمن النسيج العربي في السودان، ليصبح تعدد الأعراق والثقافات واللغات، عامل ثراء وغنى للمجتمع السوداني، بدل أن يكون عامل فرقة وصراع وقتال دموي شرس، كالذي يجري (آنذاك) في جنوب السودان وفي دارفور”. ومع أنك قد تختلفُ مع نتائج الفكرة، إلا أنّ الإيمان بقيمة اللغة القصوى، وقدرتها على إحداث الاختراق الثقافي، لدرجة صناعة حالة تآلف، بدلاً من حالات الاختلاف والتصارع، وجعل اللغة في منزلة تستطيع هزيمة الجغرافيا، وإخضاع السياسية للغة، هو مربط الفرس، وبيت القصيد. إن عشقَ عثمان الصيني لتخصصه، حدّ الهيام، جعَلهُ يبحرُ فيه، ويبتكر نظريات تبدو لغير المختصين مثلنا على الأقل أفكاراً خارج الصندوق. هذه المحبة، للمهنة والاختصاص، والتي كانت أحد ما وَرَثَهُ الجدُ لأسرته، كما مرّ معنا، هو أحد أسباب صناعة مجتمعات علميةٍ، عمليةٍ، منتجةٍ، خلاّقةٍ، توَظّف تخصصاتها الإنسانية، لخدمة الإنسان، والمجتمع، والمؤسسات، والأوطان.في صغره شغف عثمان بالقصص المصورة مثل: سوبرمان، الوطواط، لولو، بونانزا. الجَدُّ الجاد المحافظ، لم تعجبه هذه القصص، فطلب من الحفيد قراءة ما يفيد. خصَصَ الفتى الذكي موقعاً تحت سرير خشبي ليكون لقراءاته التي يعترض عليها جَدّهُ. قرأ تحت السرير، ألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة.

في عز صدامات الحداثة مع التقليدين في الثمانينات في السعودية، كان عثمان أحد عرابي الحداثة، ومنَظّريها، فكتب المقالات وسطّر الأبحاث التي ملأ بها الصحف. يصف صديقه تلك الكتابات، بأنها تفتحُ أفقاً جديداً. يقول الدكتور أحمد التيهاني: “عثمان الصيني هو الرمز الحقيقي لمعركة الحداثة في المملكة العربية السعودية، ولكنه الرمز الذي لم يقل ها أنذا، هو أحد رموز حداثة الثمانينات، الذين ظُلموا كثيراً، ولم يُرفع الظُلم عنهم حينما عاد التاريخ إلى رشده”. وقد صَدقَ التيهاني تماماً، لكنه يتألمُ، وحُقَ له، على أمرٍ يعرف التيهاني، أن الصيني لا يُعيرهُ اهتماماً! فتواضع عثمان، يجعله يلغي فكرة الفرد، من أجل فكرة المشروع والجماعة!

الصحافة ودهاليزها وجنونها

يحكي الصيني عن الاتصال الذي حوّل حياته، وكان من الأستاذ قينان الغامدي: “قال لي سنؤسس جريدة (يقصد جريدة الوطن)! بالنسبة لي كانت نقلة كبيرة، نقلة وظيفية ونقلة مكانية، ربما كان نوعاً من الجنون، كان ثمة تحدٍ كبير، كان هناك كثير من المراهنين على فشلها... حتى أنا حينما جئت إلى الصحيفة، كثير من الناس كان يقول كنت في الجامعة وجاي لجريدة!”. كانت كتابات الدكتور عثمان، عن الحداثة النافذة الأوسع لفهم معنى الصحافة، لذا دخلها وهو مؤمن برسالتها، وظلّ يراعي ذلك ويعيشه، في كل السنوات منذ أن كان أمين سر نادي الطائف الأدبي، إلى اليوم. في عام 2000 ذهب عثمان، مع أربعة من الصحافيين إلى أبها، كانت الخطة إكمال تأسيس جريدة (الوطن)، انتقل من عمله أستاذا جامعياً، إلى العمل في مطبخ التحرير... من وظيفة تستغرق سبع ساعات أسبوعياً إلى سبعين ساعة... من العمل الرتيب، إلى جنون الصحافة وحماستها. لا ينسى الصيني موقفاً رهيباً، وصلت إلى الجريدة مجموعة من الصور لمستشفى شهار بالطائف، صور تقشعر منها الأبدان، المستشفى المتخصص بعلاج الأمراض النفسية والعقلية. يُجمع في الصور المرضى عراةً، ويقوم الموظفون بتحميمهم بخرطوم الماء الذي يدفق عليهم المياه، كما لو كانوا حريقاً يسعى عامل إطفاء لإخماده! حمل عثمان الصور، وكون فريقاً لإجراء تحقيق صحافي استقصائي. بعد شهر ونصف من البحث، أرسل عثمان صحافياً للمستشفى متظاهراً بالمرض العقلي، بعد أسابيع ثبتت الممارسة الهمجية الواردة في الصور بما لا يدع مجالاً للشك. نُشر التحقيق في (الوطن)، ضجّت المؤسسات المعنية، شَكل الملك عبدالله، رحمه الله، وكان ولياً للعهد حينها، لجنة من ثلاثة وزراء، فعدّلت ممارسات وغيّرت أنظمة، وأعفت أعداداً من المسؤولين!

الجهات المسؤولة، بعد ضجة نشر التحقيق، حققت مع عثمان الصيني فبين لهم آلية العمل الصحافي الاستقصائي، وسلامة منهجيته بالأدلة، وصحة ما توصل إليه من نتائج. يقول الدكتور التيهاني: “النسبة العليا في توزيع صحيفة الوطن لم تكن سنة التأسيس، بل كانت في سنوات تولي الدكتور عثمان الصيني لرئاسة التحرير، فارتفع السقف إلى أعلاه، صارت الوطن وطناً، فضلاً عن أن الرأي في الوطن، وهو الذي جعل الوطن وطناً، هو صناعة هذا الرجل، الذي بدأ عمله في الوطن مشرفاً على التحرير”.

يؤمن الصيني، أن الصحافة الورقية منذ أواخر التسعينات، لا يمكن أن تراهن وسط منافسة القنوات الفضائية الإخبارية، على الأنماط الصحافية التقليدية، مثل الخبر والتحقيق ونحوه، وليس لها لتنجح وتتميز، مثل أن توسِع رقعة الاهتمام بالرأي، والمقالات، ورفع سقف الحرية لكتابها.

عمل الصيني نائباً لرئيس التحرير في (الوطن)، ما بين (1999-2005)، ثم صار رئيس التحرير المكلف في الفترة (2005-2007). وفي ساعة غموض، وجدنا الصيني يحزم حقائبه، ويتجه نحو محطةٍ أخرى، مستشاراً ورئيساً لتحرير المجلة العربية، الصادرة عن وزارة الإعلام، مطلع 2008، فحَول المجلة إلى مجلة تجمع بين تشويق الصحافة، ووقار المواد العلمية التي تقدم بقالب قشيب للقارئ العادي. وخلال سبع سنوات، أصدر الصيني عبر المجلة ٤٠٠ كتاب، يصعب أن تجد بينها كتاباً متوسط القيمة. كانت كُتباً عميقة الطرح، مشوقة في موضوعاته، حديثة في اهتماماتها.

اجتمع ثُلَةٌ من أعيان مكة، لتعويض رحيل جريدة (الندوة) المكية، التي تعثرت، فاندثرت في التسعينات، بينهم وزير الإعلام -حينها-، الدكتور عبدالعزيز خوجة، ورجل الأعمال الشيخ صالح كامل، وأسسوا جريدة جديدة اسمها (مكة)، وأوكلوا مهمة إطلاقها للصيني. في ثمانية أشهر من العمل، اختار الصيني فريقه وانتقى الشعار، ومنحها سلافة الفكر، وخلاصة المهنية، واضعًا بصمته الفنيّة والتحريرية. طوّر الانفوجرافيك، أو الرسوم المعلوماتية، حتى صارت أيقونة لمكة بني كل الصحف، وطوّر سياسة ASF أو صحافة البيانات. بعد كل هذا العمل، شعر الصيني بأنّ دوره انتهى، وأن دور غيره متابعة العمل في جريدة (مكة). مارس أبا حازم عادته الأثيرة، انسحب بهدوء ودون جلبة، وعاد إلى المجلة العربية، رئيسا لتحريرها مائة يوم تقريبًا، إلا أن خوجة وصالح كامل، أصرا عليه أن يتولى رئاسة تحرير (مكة)، فاستجاب الرجل الحيي، لرغبة وجيهين مكيين خلوقين، لدرجة تجعل رد طلبهما سلوك لا يمارسه رجل مثل عثمان الصيني. تولى رئاسة التحرير قبل صدور الجريدة بعشرين يوماً، واستمرّ فيها تسعة أشهر، هزّه الشوق لممارسة عادته الأثيرة في الانسحاب الهادئ، فكتب. في 19 نوفمبر 2014، رسالة الوداع، بعنوان: “تلويحة لمكة الصحيفة”، تخيلته كتب العنوان: “تلويحة لمكة” فاقشعر بدن الرجل المكيّ، وفزع لإضافة الصحيفة بعد مكة، إكراماً لأقدس البلدان، وغادر لرئاسة تحرير (الوطن)، وكأنه يردد: كم منزلٍ في الأرض يعشقه الفتى وحنينهُ دوماً لأول منزلِ.

قِيَم عثمان المهنية

سقف حرية التعبير، يزيد بالوعي حيثُ يكون الصيني مسؤولاً عن مطبوعة ما: (الوطن، مكة، المجلة العربية).

والرجل لا يُحسن تقديم عملٍ غير متقنٍ... حتى تظنه لا يجيد غيره. يمكنك أن تعمل مع الصيني لسنوات، بين أوراق الصحف، تلاحق الأخبار والعناوين، وتصنع الرأي، دون أن تضطره إلى استفراغ مخزونه الأدبي، لذا ستقف فاغراً فاك، وأنت تسمعه يحاضر عن الأدب والثقافة. كثيرٌ من الصحافيين الشباب الذين عملوا مع الصيني في الوطن، لم يعرفوا سيرته الثرية أكاديمياً وثقافياً. إنه تواضع الرجلُ، الذي يفيض منه بلا تكلف، فيوقع أناساً اقتربوا منه سنوات في حيرة، لأنهم لم يسمعوه يستعرض ثقافته يوماً!

لأبي حازم وجهة نظر، يقول فيها: “الأديب حينما يعمل في الصحافة عليه أن يخلع قبعة الأديب ويلبس قبعة الصحفي، عثمان عندما عمل في الوطن خلع قبعة الأكاديمي، وحذف حتى الدال، لأنني جئت هنا لأعمل صحافة، وليس لأعمل أكاديمياً”. الأستاذ محمد الأسمري، عضو لجنة التراث واللهجات بجامعة الملك سعود، دعى الصيني إلى عضويّة اللجنة، فتواضع عثمان وردّ عليه قائلاً: “ترى هي كلمتين... ما تنفعكم كثير، ولا أريد أن أكون ممن ينطبق عليهم قول (المتنبي): بهَا نَبَطيٌّ مِنَ أهْلِ السّوَادِ يُدَرِّسُ أنْسَابَ أهْلِ الفَلا».

في رحلةٍ خارجية شرفت فيها بمرافقة الملك سلمان يوم كان ولياً للعهد، وصلنا فيها إلى الصين، فتفاجأنا بأن الدكتور عثمان، يتحدث الصينية بطلاقة. ولعل في هذا باب كبير للتأمّل، فسيرة بلادنا في الحقيقة، تكتبها مجموع السِّير المتميزة، التي تتعانق لترسم بهاء الصورة.

هذا الصيني الذي ظلّ محتفظاً بلغاته كلها، وصلته بالصينية لم تنقطع، لم يشعر ولو للحظة أنّه غريب عن ثقافة السعودية؛ لا بمكة والطائف وحدها، بل في كل الجزيرة العربية، التي تحوّل إلى خبيرٍ فيها؛ ودليل لها، يفك طلاسمها، ويشرح معالمها. بل إنه لأَعلمُ بقبائلها من أبناء القبيلة أنفسهم، يعرف أرومتها ويحفظ جرثومتها، يعيّن مواطنها ومراعيها ورقصاتها. حكي لي قينان الغامدي؛ أنه اتصل يوماً على عثمان الصيني، يسأله عن فرع في قبيلة غامد، فأخبره بالعدد والأسماء، وسأله لماذا تسأل عنها، فقال له: تراهنتُ أنا والشاعر الدكتور سعد عطية الغامدي، ولن نطمئن لمرجع مثلك!

قال لي صديق، لو أنّ مثل الدكتور عثمان الصيني، بلغ نجاحه هذا؛ في بلدٍ آخر، لصار مصدراً للاحتفاء، ودليلاً على التنوّع والتسامح وقبول الآخر، وجعل بطلاً لرواية وقصةً لفيلم وسرديّة لرؤى. أخبرته أننا تعوّدنا أن لا نسوّق خصالنا الطيبة، لأننا نشأنا على أنّ غير هذا القبول والتعايش هو “المنقود”. وأن الدكتور عثمان الصيني، هو واحد من آلاف في المجتمع السعودي، يأخذون دورهم في صناعة الرأي، وتشكيل الوعي، ويأخذ الدنيا غلاباً، وما هو فيه الآن، هو كسبه وحظه من الاجتهاد. بيد أنّي لما تأملت، سيرة الدكتور الصيني، ومعها سيرة مئات، انمحت أصولهم وأعراقهم أمام عظمة ما قدموه، تعززت لديّ الثقة بهذا الوطن، الذي ما كان المختلف فيه منبوذًا لاختلافه، أو غربته، أو هجرته! بل، كم من المئات في هذا البلد العظيم، احتضنهم مشروع الملك المؤسس العظيم عبدالعزيز، رحمه الله؟ مؤرخين ومثقفين ومفكرين ورجال دولة، ساهموا في رحلة البناء الأولى.

بمجرّد المرور على الأسماء أدركت أننا لم نوثق للسعودية بما فيه الكفاية، ففي ثنايا هذه القصص والحكايات، رواية لوطن يسع كل الاختلافات، اختار مُؤسسه مُبكراً، أنّ يجعله مرجعًا للإنسانية جمعاء، موئلاً للعرب، تهوي إليه أفئدة المسلمين، يعجن خلاصة ثقافتهم وإدراكهم بطين الجزيرة هذا، ويقدمه في إنسانها للناس، دون ضوضاء أو ادعاء، فيبقى ويمكث في الأرض، فهذه البلاد تختص بما ينفع الناس. فهل سنعيد توثيق سيرة بلادنا، بوعي جديد، يتناسب مع عبقريتها، وقدرتها على الإدهاش؟! وأنت أيها السعودي الكبير؟ تلك رحلة عثمان الرحبة، رحلة الألم والرضا، التي لا يزال العطاء يسوقنا إلى بحرها الممتد، وأفقها الرحب، لرجلٍ أوفى النذر لجَّدِه، فلم يترك على طريق الحياة والصحافة، صحافياً، إلا وأقله راكباً بعد أن كان ماشياً، وفي مركبته تلاميذ يعدون بالمئات. إيه أبا حازم: هل ستأخذ بأيدينا وتكمل ملفات المشاريع المفتوحة؛ أطالس اللهجات، وحكايات القبائل، والتأريخ للموروث بما يرضيك ويرضي التاريخ؟

00:52 | 16-01-2020

رضا لاري.. الصحافي الساخر بوعي.. من كل شيء!

رضا محمد لاري، مُثَقَفٌ عِصَامِيٌّ، مُتَعَدِدُ المَوَاهِبٍ... مُتَفَرِدُ الشخصِيَّةِ، حتى لا تُقَارَنُ شَخصِّيَتُهُ بغيرها، ويَصعُبُ أن تَجِدَ مَثِيلاً لَهُ في سُرعِةِ البَدِيهَةِ، والتعليقاتِ الساخرةِ الوَاعِيةِ الفَورِيَةِ، حتى أنَهُ احتَفَظَ لِنَفسِهِ بنوتَةٍ، يُسَجِّلُ فيها أسماءَ الغافِلِينَ، المنضمين للقائِمَةِ السوداءِ عندهُ. وكُلَمَا غضبِ من زَمِيْلٍ، أو صديقٍ، بادرهُ، متسائلاً: «هل سجَلتَ اسمكَ في النوتة؟!».

ولا ندري إن كانت النوتَةُ حقيقية أم نسج خيالٍ، فكثيراً ما يختلطُ الجَدُ بالهزلِ، عند رضا لاري، لكنه في كل الأحوال، أضاف بُعداً جمالياً، على المغضوبِ عليهم، فنظمهم في نوتة موسيقية، بدلاً من تسميتها قائمة العارِ، مثلاً!

وأيّاً تكن حقيقة وجود النوتة، من عدمها، إلا أن ذِكرها، يُعَبِّرُ عن الكاريزما، التي كانت تُحِيطُ بهذه الشخصيةِ النادِرَةِ، شخصيةُ رضا محمد لاري الذي رحلَ عن الدنيا دون أن يتأكد من حولَهُ، هل هناك نوتة موسيقية تعزف بأسماء المشاغبين؟ أم أن العزفَ، وإن كان نابعاً من عتبٍ، لا يُجاوزُ خيال صاحبنا الخصب، إبداعاً، وسخريةٍ، وعطاءً، رحمه الله.

لاري، كان بحقٍ، «ابن بلد»، قريباً من الناسِ، يحملُ قلبَ طفلٍ، وروحاً شفافةً، يَألَمُ لآلامِ الناسِ، ويفرحُ لأفراحِهِم، مكتسباً تلكَ الشفافيةَ، من طبائِعِ أُسْرَتِهِ العريقةِ، في حارة الشام، بجدة، حيثُ وُلِدَ صاحبنا في 1938.

عَمُّ رِضا، أحمد، ووالِدُهُ محمد، كانا من أَعيَانِ جدّة، ودَارُهُما مفتوحةً للقاصِدِينَ، والمُحِبينَ، مَزَارَاً للتُجَّارِ، والديبلوماسِيين.

في هذه الأجواءِ... بينَ الناسَ، حيثُ الدُورِ المتلاصقة ببعضها البعض حدّ العناقِ، تَرَبى الأستاذُ رِضَا لارِي، وَكَبُرَ مع أَقرَانِهِ مِن أَبنَاءِ بُيُوتَاتِ جدّة، حيث كانت البساطَةُ سيدةُ الموقفِ، والناسُ في تكاتُفٍ، يجعلُ المُوسِرَ، يكون في حاجةِ المعسرِ، قبلَ أن يشكو الأخيرُ حالَهُ، وما كانتِ الشكوىَ هَيِّنَةً، فنفوسُ القومِ كبيرةٌ، لا يُصغِرُونَهَا بِغِيرِ التَعَفُفِ!

بَدأت عِصَامِيتُهُ، حينَ التحقَ موظفاً في وزارة التجارةِ بالرياض، بمكتبِ مُقَاطَعَةِ إسرائيلَ، وإشراف الأستاذ عبدالله أحرار خوجة، مدير المكتب. وهناكَ اصطدمَ صاحِبُنَا، ببيروقراطِيةِ المَلَفَاتِ، والإضبَاراتِ، والسِجِّلاتِ، التي أخذ منها التَجرُبَةُ الأُولَى، فِي حَيَاتِهِ العِمَلِيَةِ، حتَّى غَادَرَهَا على عجلٍ، وفي حالةِ قَلَقٍ، وكأنه يتمثل بأبي الطيب:

على قَلَقٍ كأنَّ الرِّيحَ تَحْتِي أُوَجَّهُها جَنُوباً أوْ شَمَالاً

ثم صارَ طالباً في كليةِ الحقوقِ بجامعةِ القاهرةِ، وكانت من أبرزِ محطاتِ حَيَاتِهِ كُلِّهَا.

في رحاب باحات ومدرجات الجامعة التأم شملُه مع كَوكَبَةٍ مِن زُملائِهِ السعوديينَ البارِزِينَ، الذين تسنموا -فيما بعد- سُدّةَ المناصبِ الديبلوماسيةِ السعوديةِ، مثل: الدكتور نزار عبيد مدني، عبداللطيف ميمني، حامد يحيى، وجعفر غازي، وغيرهم، رحم الله الأموات، وحفظ الأحياء. لم تجمعهم مدرجات الجامعة، فحسب، بل جمعتهم اللقاءات في مساكنهم، حيثُ لا يَفْتُرُونَ عن النقاش، وتبادل الآراء، وأحياناً تصارع الآراءِ، في المسائل كلها، والقضايا جلها، عبرَ حِوَارَاتٍ جَّادَّةٍ، موضوعها ما يدور في محيط المجتمع المصريِّ خصوصاً، والعربِيِّ عموماً.

كان المناخ العام بمصر، أوائل الستينات الميلادية، يموج بالأفكارِ المتلاطمةِ، ويعِجُ بالقضايا المتباينةِ، ويمتلئُ بالصراعاتِ الفكرية، وتياراتٍ تبدأُ بأقصى اليمينِ، ولا تنتهي بأقصى اليسارِ، مما انعكس على المجتمعِ، ومكوناتهِ، كلها.

عاش الأستاذُ رضا لاري، وزملاؤهُ تِلكَ الفَترَةَ بِقَضِها وقَضَيِضِها، بواقعها كله، بإِيجابِياتِهِ وسلبياتِهِ، وهي مرحلةٌ أنجبت مِنهُم مُفَكِرِينَ، وأصحابَ رأيٍّ، ومَلأتهُم وَعياً، فلا غروَ أن تكونَ تلكَ الفترةُ، أخصبَ محطاتِ حياة رضا كلها، فهي مرحلةُ التشكلِ، وفورةُ الأفكارِ، وحماسةُ الشبابِ وفتوتهِ!

كانت شخصيةُ رِضا الكاريزماتيةِ، تشكلت آنذاك، بهَالَتِهَا الجَاذِبَةِ، وتَمَيُزِهَا بحس الدُعَابَةِ العَمِيقَةِ، وبَدَهِيَةِ التَعلِيقَاتِ العَفَوِيَةِ السَرِيعَةِ، التي لا تَمُرُ، على مِثلِهِ، مُرورَ الكِرَامِ.

احتفظ رضا، وهو طالبُ الحقوقِ، بالحُضورِ الآسرِ ذاته، بين زملائه وأقرانِهِ، مُستخدماً أساليبَ السخريةِ ذاتها في التعبير عن آرائِهِ، وخَلَفَ كُلِّ ساخِرٍ نظرياتٌ من أَلَمٍ، وأَفكارٍ كالأَموَاجِ تتَسَتَرُ بالنُكتَةِ.

لم يكن آنذاك، بعيداً عن مُعلِمِيهِ وزُمَلائِهِ، فأُعجِبَ بأطروحاتِ الدكتور حامد ربيع، وبُطرس غالي، وغيرهما، واطَلَعَ على ما يكتب من دراساتٍ، فترة الرئيس جمال عبدالناصر في قضايا السياسةِ والحقوق، وهو ما ظهرَ أَثَرُهُ، في فتراتٍ لاحقةٍ من حياتهِ الديبلوماسيةِ والصحافية، مُشَكِلاً آراءَ رضا لاري، في اتفاق «كامب ديفيد»، وغيرها من قضايا الصراع العربي- الإسرائيلي.

التحق عقب التخرجِ، معَ ثُلَةِ من الزملاءِ، بوزارة الخارجية، فعُيِّنَ في الإدارةِ العربيةِ فترةً، ثم عُيِّنَ في عدد من السفاراتِ السعودية، أَوَلُها بإسبانيا، فالسنغال، وتردد على موريتانيا، وغيرها، حتى عاد أدراجه إلى الخارجيةِ بجدة، بعد أن ملَّ التسيارَ، من بلدٍ إلى بلدٍ، جامعاً ثروةً من التجارب الديبلوماسيةِ، والسياسيةِ.

حينَ أقنَعَهُ صَدِيقُهُ المرحوم علي حسين شبكشي بالعملِ رئيساً لتحرير «عكاظ»، عام 1975، يوم كان مقرها بشارع الميناء بجدة، انتقل لاري إلى مرحلةٍ جديدةٍ، من الديبلوماسيةِ إلى الإعلام. بدأت مَكامِنُ التَمَيُّزِ، وآثِارُ التجاربِ السابقةِ، والقدراتِ السالِفَةِ، تَظهَرُ على حياةِ، رضا لاري، منعكسةً على أدائهِ الصحافِي.

تميزت «عكاظ»، فترةَ رئاسَتِهِ من الناحية السياسيةِ والمجتمعيةِ، والعجيبُ أنهُ دفعَ للتميزِ ثمناً باهظاً أدى إلى توقيفهِ عن الكتابةِ مراتٍ عديدة، وصلت إلى نحو 37 مرةً!

تارةً لأسبابٍ متعلقةٍ بكتاباتِه النارية السياسيةِ، مثل موقِفِهِ الحادِ من الرئيس السادات إثر «كامب ديفيد»، أو انتقاداته الاجتماعية التي لم تكن ترضي كثيرين، فيكُونُ الإيقافُ مَصيرَهُ، وهو القائل: «أوقفت ٣٧ مرةً، وفي المرة التي تليها مَسَكتُ البابَ!». ومسكتُ الباب، تعبيرٌ عاميٌ سعودي. يعني الطرد من العمل.

والحَقُ أن الأستاذ الراحل كان يُعبر عن رأيهِ بحِدةٍ، ما يكونُ الإيقاف معها طبيعياً، ولأن الرقيبَ اعتادَ وقفَهُ، كان يُوقِفُهُ أحياناً على ما لا يستدعِي الإيقاف، فاسمُهُ بات مرتبطاً بالوقفِ ولو لم يكن الموضوعُ كذلك!

نُقل لاري بعدها إلى صحيفة (سعودي جازيت) 1985، بعد أن أنهكه مرض السكر، ومع ذلك واصل العمل إلى 1998، وشغل كذلك منصب المدير العام المكلف لمؤسسة «عكاظ» للصحافة والنشر حتى عام 1995، وبعد مغادرتِهِ الصحافة، ظلت شخصيتهُ اللاذعةُ المُحَبَبَةِ ملازمةً له، فاستأنست به المجالسُ الخاصةُ والعامة.

بقي رضا لاري حتى وفاته، رحمهُ الله، محبوباً، نبيلاً، وصادقاً مع نفسه، مؤمناً برسالةٍ، لم يَحِد عنها طيلةَ حياته، رغم اختلاف الناس عليها، وبالتالي اختلافهم عليه!

بدايات ذلك الزمان

بعيداً عن الديبلوماسية، وقبل الحديث عن رحلته الصحافية العريضة حتى قبل ساعةٍ من إصابتهِ الأخيرةِ التي نقل منها للمستشفى قبل أن يغادر إلى رحمة ربهِ، كان الأستاذ رضا لاري وفياً لحارة الشام، لبداياتِ الطفلِ الصغِيرِ فيه. المثقفُ الديبلوماسي الصحافي الذي أتقن اللغة الفرنسية، وتميّزَت لغتهُ الإنجليزية، وكتبَ بعلوِ كَعبٍ باللغةِ العربيةِ، كانت بداياتُهُ مَحفُورَةً في ذاكرةِ الطفلِ المشاغبِ النبيهِ، فهو لم يتخرج من مدارس الفلاح، كما جرت العادة حين تكتبُ سيرةُ وجهاءِ الحِجازِ وشبابه، لكنه يذكُرُ جيداً أيام الكُتّابِ الأولى، فالشيخُ علي هلال -رحمه الله- الذي يدين له بكل ما حفظه من القرآن الكريم، كان حاضراً على الدوام في ذاكرة صاحبنا، فقد أرسله والده صغيراً لينهل من علم الشيخِ الذي كان يُدَرِّسُ مع القرآنِ الكريمِ قواعد اللغةِ العربيةِ، وأساسيات الحساب. زامل الأستاذ رضا، يوسف ناغي، وعدنان سمان، وآخرين.

لم يكن الشيخ علي هلال مُعلِماً فقط، بل كان مُرَبِيَاً، فهو لم يكن يقبل من طلابهِ، حين يقابلونه في السوقِ، أو في دروب جدة الضيقة، وقتها، إلا تقبيل يَدِ مُعَلِمُهم القرآن، فحتى بعد أن ابتعثَ والد الأستاذ رضا لاري ابنه إلى كلية فيكتوريا العريقة، وعاد الابن موظفاً مرموقاً في الخارجيةِ، حدث أن قابل الشيخ علي هلال في السوق، فما كان من الشيخ إلا أن مدَ يده وسط السوق ليقبلها التلميذُ، فقبلها مباشرة الأستاذ رضا لاري، وحين وصل إلى بيتِ العائلةِ الكبيرِ، وجد الشيخ علي هلال جالساً في صدر المجلس بجوار والده، فأمره الوالد بتقبيل يد شيخهِ، وقال له الجملةَ، التي بقيَ الابنُ يحفَظُهَا عن أبيهِ: «إذا أردتَ رِضايَ حياً وميتاً يا رضا فعليكَ بتقبيلِ يدِ شيخِكَ ما حيِيِتَ».

من لا يُتقِن ممارسةَ الأخلاقِ، سُلُوكَاً، فلن يَسمُو بِهِ عِلمٌ، ولن ترفَعُهُ وَظيفَةٌ، ولا تزِيدُهُ المَراتِبُ عُلُوّاً!

عاش الشيخ علي هلال عشراً من السنين، بعد وفاة والدِ الأستاذ رضا لاري، وبقيَ رضا وفياً لعادتِهِ القديمةِ، فكلما رجع الديبلوماسي، أو الصحافي الكبير إلى جدة، وقابل شيخَهُ قَبّلَ بِكُل مَحَبّةٍ يدَ الشيخِ المُرَبِى، حتى رحلَ الثلاثةُ كُلُهُم، رحمةُ اللهِ عليهم.

من حارة الشام إلى «الكلية الاستعمارية»

«الفرق بين العمل الديبلوماسي والعمل الصحافي، رغم كل التقاطعات البينة هي اللغة المستعملة في الجهتين»، ففي الصحافة تستطيع أن تستعمل المجاز، وتستطرد، وتصف، ما دمتَ تبحثُ عن الحقيقة، لكن الديبلوماسية -على الورق- لا تقبلُ بغير الوضوح، كما يؤمنُ، رضا لاري، ويؤكد دائماً. ويبدو أن طيفَ الشيخ علي هلال، لم يفارق الفتى الحجازي، الذي يقول عن «فيكتوريا كوليدج» بالإسكندرية، تلك التي واصل دراسته فيها حتى الصف الأول ثانوي: «كانت كليةً استعماريةً، لم تكن تبشيريةً مثل كمبوني في السودان، لكن الأسر والممرات والصفوف كانت تسمى بأسماء ضباط إنجليز حكموا مصر»، ومن إنصاف الأستاذ أن اعتباره كلية فيكتوريا «استعمارية»، لم يمنعه من مدح طريقة التدريس فيها، القائمة على التفكير والنقد.

يقول لاري للأستاذ الزميل محمد رضا نصرالله، في لقاء تلفزيوني ممتع: إن التاريخ الذي كان يُدَرّس في فيكتوريا كان تاريخاً استعمارياً -أي من وجهة النظر الإنجليزية- لكننا كنا نذهب للبحث، ونقرأ أكثر، بعد كل حصة تاريخ، لكي نكتب الحقيقة، على ورقة الإجابة في الاختبار النهائي، ولم يكن يمنعهم ذلك من منحنا الدرجات الوافية، ما دمنا نناقشُ لحظةً تاريخيةً تختلف فيها وجهات النظر.

ليس ذلك فحسب، بل لأن رضا لاري، لم يكن السعودي الوحيد في تلك الكلية، فقد كان من زملائه: محمد شرفي، والشربتلي، وعبدالله وسالم الخريجي، وزاملهم من ليبيا رئيس وزرائها لاحقا الشلحي، والملك حسين ملك الأردن الراحل، فقد ضغطوا على المدرسة حتى أصبحت صلاة الجمعة تقام في الكلية، ومن ثم تكفل آباء الطلاب المسلمين، بمعلمِ دينٍ إسلاميٍ، يأتي نهار الأحدِ؛ ليُعَلِمَ الطلبةَ الثقافةَ الإسلاميةَ في كلية فيكتوريا العريقة.

لحكايةُ تقبيل يد الشيخِ، وصلاةُ الجمعةِ، ودرسُ الدين الإسلاميِ كل أحدٍ، أثرٌ واضحٌ، لمن يتتبع شخصية رضا لاري، كما سيأتي.

الرجل الذي يتعلم ليلاً

عاد الفتى، الذي لا يجاملُ كثيراً في الحقِ، كما عُرفَ عنهُ، من مصرَ، بشهادة الأول ثانوي، وفَضَّلَ العملَ، بوزارة التجارة على العودة لمصر، لكن طُمُوحَهُ لن يتوقفَ عند هذا الحدِ... كانَ عصامياً يحاسب نفسه جيداً في كل مرحلة؛ لذا تمكن من إكمال المرحلة الثانوية، وحصل على التوجيهية ليلاً، مستفيداً من المدرسة الليلية المجاورة، ومن ثم عادت به الأسفار إلى مصر ثانية ليلتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، مقصد أبناء ذلك الجيل، لتنتهي فترة الستينات وقد تحصل الفتى على ما يريد. الأهم من ذلك كله أن ابنة عمه المرحومة سميرة لاري أهدته آنذاك كل الكتب المقررة على طلبة البكالوريوس والماجستير بكلية الإعلام في جامعة القاهرة ليتفرغ تسعة أشهر يغوص ساهراً ليله في الكتب، متعلماً الصحافة -بنفسه- بعد أن ينهي فروض طالب الاقتصاد والعلوم السياسية المنتظم، الأكثر دهشة من ذلك أن رضا لاري كان يأخذ كل سنة -إجازة من غير راتب- فيقضي السنة الدراسية كلها في جامعة القاهرة ثم يباشر عمله صيفاً في جدة، مناوباً بين مدينتين ومتنقلاً دائماً بين تخصصين حتى بدأ مشواره الوظيفي في سلك الخارجية.

قنصل وقائم بالأعمال

«لم أصل إلى رتبة سفير في الخارجية، بل كنت قنصلاً وقائماً بالأعمال، وأنا سعيد جداً لأني تركتها فلم تكن بالمجدية مادياً، والأهم من ذلك أن الذي تعلمته في الحياة كلها في كفة والذي تعلمته من، وفي، الصحافة في كفة أخرى». رضا لاري الذي عمل قنصلاً عاماً في مدريد ومن ثم انتقل إلى داكار عاصمة السنغال ليكون القائم بالأعمال يختصر تجربته الدبلوماسية بأنها علمته ألاّ مستحيل، فهي فن الممكن وما لا تستطيع أن تنجزه اليوم تطوله غداً لو أعدت النظر واستعملت أوراقك التي لا تنتهي. يقول بصراحته الواضحة: الدبلوماسية تجتمع مع الصحافة أيضاً في أنها فن الجاسوسية النبيل، فالدولة التي تقيم فيها إن أتقنت لغة أهلها وقرأت أخبارها جيداً ستساعدك في كل ما تحتاجه لتطور علاقة بلدك بذلك البلد. احتفظ صاحبنا بثقته الدائمة في نفسه حين قابل سنغور -الشاعر ورئيس السنغال الشهير- فقد كان من عادة سنغور أن يخصص خمس دقائق لكل دبلوماسي حين يقابله، وعندما سلم على رضا لاري قال مستشار سنغور للرئيس: هذا سفير البلد الذي يستنزف مواردنا المالية برفع أسعار النفط، فنظر إليه الرئيس السنغالي وقال لرضا: لماذا لا تخفضون سعر البرميل؟، فابتسم صاحبنا الداهية وبسرعة بديهة يحسد عليها قال: سعر برميل زيت الفول السوداني أغلى من سعر برميل النفط سيادة الرئيس، نتمنى عليكم أن تخفضوا سعر زيتكم لننظر في سعر برميلنا.

وأشيع مرة أن رضا لاري طلب ميزانية ضخمة لسفارة المملكة في إسبانيا كي يواجه نفوذ السفير الإسرائيلي هناك، لكن دارس العلوم السياسية رضا لاري يقول إن جزءاً من المعلومة غير صحيح، فإسرائيل وقفت أمام انضمام إسبانيا للأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ولكني طلبت شيئاً من هذا القبيل في داكار، إذ كان البند السري لمصروفات السفير الإسرائيلي يصل إلى خمسة ملايين دولار، مما أتاح له دعم وإنشاء ما كان يسمى حينها (جمعية السنغاليين المثقفين في العالم العربي)؛ ليوسع نفوذ دولته في بلد 98% من سكانه مسلمون، ولم أكن لأقف عند دبلوماسية الحج والعمرة فقط وأنا أرى إسرائيل تتوغل بعيداً في أفريقيا.

إلى بلاط صاحبة الجلالة

أنهى رضا لاري علاقته بالدبلوماسية ليتفرغ للترجمة بحكم إجادته للفرنسية والإنجليزية والإسبانية، كان رئيس تحرير «عكاظ» وقتها الراحل عبدالله الجفري رحمه الله، وبقدرة قادر رشح رضا لاري لرئاسة تحرير عكاظ، علق لاري قائلاً بخفة دمه المعتادة: «وتحول هذا الترشيح غير المتوقع إلى حقيقة واقعة بقدرة قادر»!

وكما كتب أحمد عزوز في الشرق الأوسط (26/‏‏‏‏‏‏‏‏‏2/‏‏‏‏‏‏‏‏‏2017): «كان لاري يمثل لـ«عكاظ» قاموساً متعدد اللغات، بحكم إجادته لعدة لغات حية، إضافة لامتلاكه حصيلة سياسية واقتصادية جمة ناتجة عن دراسته الجامعية، مما أهله عن جدارة للترشح لرئاسة تحرير «عكاظ» التي كان التنافس حاداً بينها وبين صحيفتي الرياض والجزيرة»، ليس رضا لاري من يأتي أو يرحل دون أثر، فقد نقل «عكاظ» بالأرقام من عشرين ألف نسخة إلى ستين ألف نسخة على مستوى التوزيع، بل ويقول بالحرف الواحد: «نقلت «عكاظ» من شبه جريدة أدبية إلى صحيفة خبرية سياسية»، ورغم اعترافه بأن توقيعه كان يسمى التوقيع الذهبي لأنه لا يرد أبداً فإنه يعيد الفضل لروح الفريق التي آمن بها في العمل الصحفي، فلاري هو صاحب فكرة «رئيس التحرير اليومي» بمعنى أن الصحفي الذي ينشر أفضل مادة صحفية يكون رئيس الجريدة يومها، وله الفضل في تعيين أول رئيسة تحرير للقسم النسائي حين أسند المهمة للأستاذة سارة القثامي وهو القائل: «اسألوا هاشم عبده هاشم لماذا أنهى تلك المرحلة؟!».

السادات وكامب ديفيد

في ثلاث صفحات من «عكاظ» كتب رضا لاري مقاله الشهير «فرص السلام في الشرق الأوسط»، وطلب من وزير الإعلام حينها الدكتور محمد عبده يماني الذهاب لإسرائيل من أجل تغطية الحدث التاريخي، أخبره الدكتور يماني بأن هذا ممنوع، لكن رضا يقول بأنه تأثر جدّاً بخطاب السادات الذي ألقاه في الكنيست، ورأى في ذلك الخطاب فرصة لإقامة دولة فلسطينية ولو بعد حين لذا تحمس جدّاً وكتب خطابه المفتوح الشهير الذي يساند فيه السادات بوصفه مواطناً عربياً.. يردف قائلاً بعد أن مرت السنوات أنه سمع السادات يقول بعظمة لسانه: «زهقت وعشان كذا وقعت اتفاقية كامب ديفيد»، فاستشاط غضباً وكتب مقاله الذي أعرب فيه عن إحباطه بعد تفاؤله، ولأنه لم يسمح له بالسفر إلى إسرائيل فقد سافر إلى الإسماعيلية لحضور المؤتمر الصحفي المتعلق بكامب ديفيد، لكنه لم يجد وفداً فلسطينياً ولا وفداً سورياً رغم قناعته بأنه كان يمكن للعرب الحصول على مكتسبات أكثر من خلال التفاوض، وفي طريق العودة من الإسماعيلية اعتقل رضا لاري، وهو يقول إن ذلك «بوشاية من زكريا نبيل كاتب صحيفة الأهرام، واتهموني بأني لست عربياً ولا أمثل العرب، وأخذت للتحقيق ثم أفرج عني في اليوم التالي وعدت إلى جدة»!

زواج القطط وغضب الملك

الطرائف لا تنتهي في سيرة خفيف الدم حاضر البديهة الأستاذ رضا لاري، لكن ألطفها على الإطلاق ما حصل معه مرتين، مرة مع الملك خالد ومرة مع الملك فهد رحمهما الله؛ الأولى وهي الأشهر أن لاري كان مسافراً إلى جنيف لحضور عرس حجازي كبير أقيم في جنيف، وقبلها كان في الطائف مع الملك خالد لافتتاح مشروع لتحلية المياه، ويذكر جيداً أنه حاور جلالة الملك وتحدثا حتى في مواضيع جانبية من باب الملاطفة الملكية، لكنه فوجئ باتصال الدكتور محمد عبده يماني يخبره بأن جلالته غاضب جدا من قصة زواج القطط التي نشرت في الجريدة التي يشرف عليهاّ يقول لاري :«الموضوع كله كان من تحت رأس محمد الفايدي الذي رشى جرسوناً في حفلة خاصة كبيرة أقيمت في جده ليأتيه بالسبق الصحفي، والقصة حقيقية لكن الفايدي أضاف لها الكثير من الفلفل والكمون حتى أنه نشر سبب الحفلة بعد لقاء مع أحد الحاضرين: «إن العري (ذكر القط) الخاص بنا تزوج من بسة (أنثى القط) صديقنا»، نشرت القصة في الثاني والعشرين من شعبان. يقول لاري «أدخلت للمحاكمة في مجلس الملك خالد في نهار الثالث من رمضان وكان جلالته في أشد الغضب، أدخلني الشيخ أحمد زكي يماني (وزير البترول حينها) إلى مكتب النويصر (رئيس الديوان الملكي حينها) حتى يهدأ غضب جلالة الملك، ولا أنسى نظرة النويصر حين قال لي: «أنت لم تجد شيئاً تزعجنا به هذه الأيام غير البساس؟!»، وفي الطريق قابلت الدكتور رشاد فرعون الذي كان خارجاً للتو من مجلس جلالته فقال لي: «إذا خرجت فمر علي في مكتبي»، فأيقنت أني ربما لا أخرج حياً، والأدهى والأمر أن الأمير فهد -رحمه الله- اعتذر عن التوسط لي لشدة غضب الملك، فأيقنت بالهلاك، دخلت للمحاكمة فسألني الملك عن كل شيء: من كتب الخبر؟ ولماذا تم نشره؟ ومن ثم قال لي: هذا الخبر يسيء لكل الشعب السعودي، فقمت وقبلت رأسه، وقلت له: أنا بين يديك يا سيدي ويكفينا ملك يغار على شعبه كغيرتك ويغضب هذا الغضب لأجلنا، فأمرني بكتابة تعهد وقلت: أتعهد شفويا يا جلالة الملك أمام مجلسكم هذا بألا يتكرر ذلك وأنت تعلم يا جلالة الملك بأن كل حاضر في هذا المجلس يخطئ إلا أننا حين نخطئ -معشر الصحفيين- ففضيحتنا بجلاجل، فأمرني بتناول القهوة ووجدت لي متسعاً للجلوس بين الدكتور فايز بدر والدكتور علوي كيال.

لم أرَ لأخيكم مقالاً اليوم

عدد المرات التي أقيل فيها رضا لاري لا تُحصى، فقد كان يتجاوز الخط كثيراً ويتنبأ ويحلل مواضيعَ سياسيةً ساخنةً، وقد أخبره الدكتور عبدالعزيز خوجة وزير الإعلام السابق ذات لقاء بأن استقالته -أي استقالة رضا- في درجه، ولم يكن للطاولة التي جلس عليها الوزير درج ففهم لاري الرسالة وعاد إلى بيته مباشرة، ورغم أنه نصح محرريه الأجانب في سعودي جازيت بأربع نصائح لو التزمها أي صحفي لسلم: الأولى عدم التطاول على الأديان السماوية، وعدم المساس بشرعية الحكم، والابتعاد عن الخلافات الإقليمية عالية الحساسية، ورابعاً الامتناع عن الحديث عن الجنس.

لكن شجاعة أبي أحمد هي التي جعلته يقابل الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري والرئيس المصري الراحل أنور السادات وشاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي، وحين قابل الأخير خرج بعناوين عريضة أذكر منها «إيران ترفض تواجد أي قوة أجنبية في الخليج، نحن لا ننتمي للعالم الثالث، وكل خلاف سني شيعي لديه طابع سياسي».

كثرة إيقاف رضا لاري -رحمه الله- جعلت والدته تصر على أن تقرأ مقال ابنها كل يوم فإن لم تجد له مقالاً اتصلت بإخوته، وقالت لهم: لم أقرأ لأخيكم مقالاً اليوم فطمنوني عليه!

ولأنه كثيراً ما انتقد السياسات الأمريكية أو ما وصفه بـ «الألاعيب الأمريكية» فقد كان أول صحافي سعودي توجّه في حقه السفارة الأمريكية مذكرة احتجاج لتنديده المستمر بسياسة واشنطن. ولم يكن يتحمل دمعة الضعيف ولا رؤية المحتاج، وكان يسعى عند ذوي الجاه لقضاء حاجات الضعفاء، يكره الظلم والظلمة.

في عام 1981 أقيل رضا لاري من إدارة «عكاظ»، فقرر خوض غمار التجارة وفتح مكتباً للتخليص الجمركي، وحين علم التجار بإقالته خافوا على مصالحهم وتوقفوا عن التعامل مع مكتب رضا لاري، لكن حيل لاري وطرافته لا تنقضي ولا تنتهي، و كانت علاقته بالملك فهد -رحمه الله- وثيقة، وأخبر الملك فهد بأن مصالحه تضررت من الإقالة وأن لا أحد يريد التعامل مع رضا لاري، وطلب من الملك أن يبتسم له أمام الكاميرات كي تصل الرسالة، كان للملك فهد موقف آخر يخالف موقفه من التوسط عند الملك خالد في خبر زواج القطط، فقد أشار عليه الملك بأن يركب رضا لاري السيارة ويكون إلى جانب رأس البلاد، وفعلاً حدث ذلك ولم يتوقف هاتف مكتب رضا لاري للتخليص الجمركي من اتصالات التجار الباحثين عنه.

رحم الله أبا أحمد الذي أخلص لبلده في كل مكان وضع فيه، وغفر له بحجم دماثة خلقه وسعة روحه التي وقفت مع كل فقير مر ببابه، ولن تموت أبداً سيرة صاحب الأسماء في النوتة.
00:43 | 9-01-2020

رحيلُ النجيب.. بَذَرَ إِيجَابِيَّةً.. فَحَصَدَ حُبًّا!

قد نتحدثُ عنِ المَحَبَةِ كثيراً، ورُبما سَكَبنَا المَحابِرَ شَرحاً لصُنُوفِها، ودَبّجنا الجُمَلَ في سَبرِ المحبةِ وتقسيِمِها، وزَوَّقنا العباراتِ، وَنَمَّقنا الكلماتِ، في ذكر محاسن الحُبِّ، لكنَّ ذلكَ كُلَّهُ، قد لا يجعل المحبة تعدو الحناجرَ، أو تتجاوزُ المحابرَ، أو تتعدى السطورَ، ولا ضمانةَ حقيقية، تجعلُ هذه المحبة صادرةً من النبع، أو منهمرةً من الشلالِ العذبِ، الهادرِ بلا سكون.

أما صاحِبنا الذي تَخطّفَهُ الموتُ من بيننا فجأة، قبل أيام، فقد عاش بالمحبّة، وعندما كان يسكب في إناء كل مستيقظٍ صباحاً، من صببٍ، حتى أنه كتب تحت تعريف اسمه في موقع التواصل الاجتماعي (تويتر): «يا حبي لكم»، مخاطباً متابعيهِ، ومن يقرأُ له لماماً، ومن يزور حسابه، خلسةً، أو على حين غِرّة.

إنه الأستاذُ نجيب بن عبدالرحمن الزامل، الذي انتقل إلى رحمة الله، صباح الأحد، في خبر فجع متابعيه، ومحبيه، كما أهله وذويه!

عندما تتأمل سلوك نجيب، كل صباح، فستراه كبائع الحليب الذي يجوب البيوت، ليسكب لهذا السائل، وذاك الطالب، وسيعرض من تلقاء نفسهِ، على من لا يطلبون، وسيمازح فئة رابعة، بغية أن يشملهم البياض. بياض الحبِ الصادقِ، وترياق المحبةِ، الذين لا تزييف فيهما.

من عَرَفَ نجيب الزامل، منذ ربع قرن، مثل العبد الفقير إلى ربه، سيجزِمُ بأن تعامُلَهُ المُتَوَاضِعَ، وتَبَسُّطَهُ دونَ تَكَلُّفٍ، مع الصغيرِ والكبيرِ، هو طَبعٌ، يَغْلبُ التَطَبُّعَ، وخُلُقٌ مجبولٌ على مُعْظَمِهِ، وعَزَزَهُ بالوعيِّ، والاكتسابِ.

لم يكن نجيب الزامل، غفر الله، البقاء، دون مبادرات إيجابية، ولو كانت بسيطة، فقد كانت قاعدته، رحمه الله، كما في الأثر: «لا تحقِرَنَ من المعرُوفِ شيئاً، ولو أن تَلقَى أخاكَ بِوَجهٍ طَلِقٍ»، وأشهد بالله، أني لم أرَهُ إلا مبتسماً، هاشاً، باشاً، مشيعاً روح البهجة حيث كان، ناثراً صُنُوفَ الفرحِ أينما حَلَّ.

يسكبُ لكل من يقابلُ، ذاك الصباح، وكل صباح، شرابُ الحُبِّ، وترياقَ المحَبَةِ، كأنما ينحدر من صببٍ، وعلى هذه المكارم، وَدّعَ الراحِلُ الدنيا. لقد اختار أن يبعث في آخر يوم من السنة الماضية للعشرات، وربما المئات، من مختلف التوجهات، شكراً لهم، لأنهم أثروا حياته في الماضي، وسيبقون كذلك.

نجيب الزامل، الإنسانُ، العالمُ، العاملُ، ترعرعَ منذ نعومة أظافره، بين رفوق المكتبات، وغبار المجلدات، فاكتشف المعارف، والنظريات، وكتب الزاويةَ الرشيقةَ، المؤثرة. وهو من الكتاب القلائل، ربما في العالم العربي، كله، الذين فَعّلُوا نظام التواصل الثنائي الأطراف، بين الكاتب والقراء، ويندر أن يكتب مقالتين أو ثلاثاً، دون أن يستعرض رسالة، من قارئ، فيدمجها بعقل، ودون ابتسار ضمن حديثه المجمل!

كان ثنائي اللغة، مجيداً للعربية والإنجليزية بإتقان، ما أثرى مخزونه اللغوي، وأضاف له عبارة مباشرة شيقة رشيقة.

أخذ على عاتقهِ، نشرَ المعرفةِ، بما لا يُحطم المبادئ والقيم. نشأتُهُ التي شابها بعض الحدة ضد مفاهيم اجتماعية، تحت تأثير تأويلات فلسفية، غير أنه رسم منهجه الروحاني الخاص، فبات يطمئن بالصلاة، ويتوهج بالمعرفة، وينعشه القلم عندما يسيلُ حبراً، ومن متعه الأثيرة مطاردةُ الفكرةِ، حتى تكون في مرمى سهامه، وقد أينعت وحان قطافها، فيحولها سطوراً مكتوبةً.

ولئن كان لكلٍّ من اسمه نصيب، فقد كان من الرجل النجيبُ، غفر الله له، مُلهما لمئات الشباب والشابات السعوديين والعرب، في فنون المعرفة، وعشق القراءة، وأساليب الكتابة.

وفي كل اتصالٍ معه يمرُ على الحديثِ من قراءاتهِ، دون أن ينبزك بقصدٍ أو دون قصدٍ، بعدم المعرفةِ، بل ترى معلوماتِهِ تَغشَاكَ كَنِسمَةٍ مُنعِشَةٍ.

نجيب الزامل، رحمه الله، غزيرٌ الاطلاعِ، عاكفٌ على القراءةِ، عاشقٌ للروايةِ، ولكِّنَهُ يتحدث بتواضُعٍ جَمٍ. يُبْهِرُكَ بِشَغَفِهِ، المُحَرِّضِ على المَعرفَةِ، ويُشْعِرُكَ في الحديثِ، بأنكَ تملِكُ ناصِيَةَ العِلمِ والبيانِ، مع أَنكَ لم تَقرَأْ مِعْشَارَ قِرَاءَتِهِ، فيحضرني تعريفٌ، يعتبرُ العظيم من يُحَسِسُكَ بِعَظَمَتِكَ عِندَهُ، وهكذا كانَ نَجِيب رَفَعَ اللهُ دَرَجَتَهُ.

يُحَرِّضُ القارئَ على الكتابةِ والقراءةِ، فيقول: «إن أوسكار وايلد، هو من قال إنه ليس هناك كتاب رديء، مهما كان موضوعه، بل هناك كتابٌ كُتِبَ بأسلوب رديء. ربما توافقون على هذا وربما لا، ولكن نرى كتباً بمواضيع منافية ويتمتع الناس بقراءتها للقدرة الأسلوبية للكاتب، وأوسكار لم يكن يكتب الكلمة بل كان يرسمها بريشة مغطوطة بمحبرة الخيال، وينقشها بإزميل النحت التصويري الخالب للذهن والبصر. كان رجلاً سيئاً أخلاقياً، وهذا له، ولكنه تمتع بسطوة حكمة قوية جعلت ملايين متكلمي الإنجليزية يرددون جمله».

حين قابلتُ نجيب الزامل، رحمه الله، في 10 مارس 2013، ببرنامج «إضاءات»، تحدث عن قيمةِ المَعرِفَةِ، وجَمَالِ ارتِبَاطِها بالروحِ، ما يُشَكِّلُ مادةً مقنعةً ومُشبِعَةً للإنسانِ، دون إغراقٍ في التطرف.

استخدم مثالاً؛ النظرية الاقتصادية، التي تقول: «حين تأكل البرتقالة الأولى تنعشك، والثانية تنعشك قليلاً، لكن الثالثة ستزعجك، ولا تريد مشاهدة البرتقالة الرابعة»، وينسحب المثال على المسائل كلها، فالمزيد من الجيد قد يُحيلُهُ رديئاً.

تجربة نجيب، في الانتقالِ من الشكِ إلى اليقينِ، يحَدِثُكَ عنها باستِمتَاعٍ، ولم يندم على تجربتهِ الروحيةِ، التي أوصلَتهُ إلى اليقينِ، فهي مثل رحلات الكبار في تاريخنا الفكري.

أحرقتِ الأسئلةُ، وِجدَانَ الإمامِ الغزاليٍّ، فكتب: «تهافتُ الفلاسفة»، ووثق رحلتَهُ المُعتِمَةَ الشّاقَةَ في كتابِهِ الجليل: «المُنقِذُ مِنَ الضَلَالِ». كما شَكَّلَ القَلَقُ، سِمَةً لكثيرٍ من مُفَكِرِي الإِسلام، كما رصدهم الفيلسوف المصري، الدكتور عبدالرحمن بدوي، في كتابه: «شخصياتٌ قلقةٌ في الإسلام».

كان الراحِلُ النجيبُ، من أبرزِ المُحَرِضِينَ على الدَأَبِ والإِصرَارِ، بُغيَةَ بُلُوغِ المَنَالِ، وتَحقِيقِ الآَمَالِ، إذ يقول: «ومن مطالعة تاريخ الإنجاز البشري، أفراداً وجماعات؛ نجد دوماً أن هناك حقيقة تتكرر، في كل عصر، في كل ظرف، وعند كل جنس، وهو أن أولئك الذين يرفضون قبول الأقل، إصراراً للوصول إلى الأفضل... دوماً يصلون إليه، يصلون للأفضل. في مكاننا الحاضر شباك ومصائد للإخفاق خلقها النجاح بالفشل. ذاك الفشل الذي يعوق انعتاق الأمة وصعودها للمراتب الأرقى. النجاح في الفساد، النجاح في الجدل المسمم لأوردة المجتمع، النجاح في التواكل والكسل والتذمر والشكوى، كلها نجاحات أنموذجية للإخفاق والقعود في وحل التأخر ونذر طرق الظلام».

حضور نجيب الزامل في تويتر، كان بلافتة واحدة، رفض رفع غيرها... هي لافتة المحبة.

ومن زرع بذوراً من حُبٍّ، حَصَدَ أطناناً من ثمار المحبة الشهية الطيبة. طاف اسم النجيبِ، بين المتابعين العرب، بفعلِ إنسانيةٍ تتدفقُ من دونِ تَكَلُّفٍ، ولسانٍ كِسوَتُهُ التَعَفُفَ، يُحِّبُ الطَيِّبَ من الأقوالِ، والأعمالِ، والأفعالِ... وُيُبغِضُ الشَرَ، فتؤرِقُهُ الكراهية! ويقرِرُ: «الكارهون الحاقدون هم من أشر النفوس... ولا يفوقهم شرّاً سوى الذي يستمتع بالاستماع لهم».

لمع اسمه بالعمل التطوعي، بوصفه الرمز السعودي الأبرز، وهو يؤكِدُ دوماً، أن الشباب السعودي، إذا أتيحت لهم فرصة، أظهروا وجوهاً بيضاء، وأفعالاً تُسعِدُ القريب والبعيد.

رحل الأستاذ الكبير، وضَعَ شِعَارَاً لمتابعيه، ينطفُ حِكمَةً. وفيه: «اقفل أصواتَ الناقدينَ بِحِرصِكَ أن تَستَمِعَ لِنَاقِدٍ وَاحِدٍ... هو أنت!».

turkialdakhil@
00:53 | 7-01-2020

فهد العرابي: قائد تجربتَي سقف الحرية الأعلى صحافياً

لو حِرتَ في يومٍ، وأنتَ تُحَدّثُ الناسَ، عن التعدّدِ، والتَنَوُّعِ، والإبداعِ، في المجتمع السعودي، وطلبكَ أحَدُهُم المثال؛ فبإمكانكَ أن تقول للناسِ: إنّ لنا ألفَ وجهٍ مشرقٍ، ولذلك يستعصي وضعُ مُبدعينا في قوالب التصنيف والنمطية.

وليس يمنحك برهان التفرّد السعودي هذا، شاهدٌ حيّ، مثل أنموذج الدكتور فهد العرابي الحارثي؛ فهو متعدد المواهب والملكات، واسع المعرفة والتجربة، أكاديمي جاد، ومثقفٌ شامل، وإداري ناجح، وقائد مركز أبحاث ناجح، وصاحب مؤتمر دولي سنوي بات يُشار له بالبنان، خلال بضعة أعوام.

لا يمكن أن تذكر التجربة الصحافية الحديثة في السعودية، دون أن يرد اسم الدكتور فهد العرابي، ضمن أهم أسماء الرواد.

ساهم صاحبنا في إدارة تجربتين رئيسيتين، ربما كانتا، الأهم في رفع سقف الحرية، في الصحافة السعودية، صحيفة (الوطن)، المشروع الأثير للأمير خالد الفيصل (أمير منطقة عسير آنذاك)، مستشار خادم الحرمين الشريفين، وأمير منطقة مكة المكرمة، والتي ظهرت فكرةً، ثم صحيفةً ألقت جبلاً، لا صخرةً، في مياه الصحافة السعودية، بنيت على دراساتٍ، أوكل إعدادها وتهيئتها للظهور إلى الدكتور فهد العرابي الحارثي، الذي قاد فريقاً من المختصين، في مركز أسبار للدراسات، الذي يملكه ويديره الدكتور فهد، عمل سنوات لتقديم دراسات للصحيفة الجريئة، حتى صدورها، وتولى العرابي الحارثي، لسنواتً، منصب رئيس مجلس إدارة مؤسسة عسير للصحافة، التي تُصدر (الوطن)، خلال الفترة (١٩٩٧-٢٠٠٣)، وأشرف على تحرير الجريدة عام ٢٠٠٢، بالإضافة إلى رئاسته مجلس الإدارة.

يعتبر الدكتور العرابي مرحلة عمله في تأسيس (الوطن)، منذ أن كانت فكرة، فدراسة، فمشروعاً في المخاض، فمولودةً بكراً، حتى أصبحت فتاةً جميلةً، شَبَّت عن الطوق، هي أهم مراحل حياته المهنية، كما في موقعه الإلكتروني.

يعزو الدكتور فهد، تربع تلك المرحلة، على أهمية مراحل حياته المتعددة، إلى كون (الوطن)، هي أول صحيفة سعودية جديدة، تظهر في السوق (صدرت العام ٢٠٠٠)، بعد أربعين سنة منذ صدور آخر صحيفة بالمملكة، وهو ما جعل منافسة صحفٍ أصغرها عمراً، يبلغ أربعة عقودٍ، مخاطرةً مهنيةً وتجاريةً، في آنٍ؛ لكن العرابي يعتقدُ أنها مخاطرةٌ تستحقُ ما بُذل من أجلها.

كما أن الدكتور فهد العرابي الحارثي، قاد تجربة صحافية، شبابية، فيها من المهنية، والجمال، والجرأة، والاختلاف، وبعضاً من العقل، وشيئاً من الجنون اللذيذ، لما كان رئيساً لتحرير مجلة (اليمامة)، خلال الفترة ١٩٨٠-١٩٩٢، وهي مرحلةٌ، كانت (اليمامة) فيها مجلةً، وَلّادةً، للأفكارِ، والموضوعاتِ، والصحافيينَ المُبدِعين. خلاصة تجربة الدكتور فهد العرابي آنذاك، أن منح زملاءه كل واحدٍ من الصحافيين الشباب، في (اليمامة)، رئةً ثالثةً!

وحيدُ الشيخين!

كان للكاتب الكبير، عباس محمود العقاد، في عَبقَرِيَاتِهِ، منهجاً لسبر أغوارِ الشخصياتِ التي يترجم لها؛ فيمخرُ عُبَابَها، على سفينةٍ هذا المنهج، الذي يُطلِقُ عليه؛ «مفتاح الشخصية»، ويُعَرِّفُهُ بأنه: «الأداةُ الصغيرةُ، التي تَفتَحُ لنا أَبوابَها، وتَنفُذُ بِنا وَراءَ أَسوَارِها وَجُدرَانِها».

ويرى العبدُ الفقيرُ إلى الله، أن لشخصِياتِنا السعوديةِ مفاتِح عِدّة؛ مُبَعثَرَةً في مراحِلِ العُمُرِ، وأولُ هذهِ المفاتِحُ نَصِيحَةُ أُمٍ، أو تَوجِيهُ أَبٍ. ولطالما وجدنا مفتاح شخصية الكثير من أبطالنا، في ذكرياتِ طُفُولَتِهِم، وتَكوِينِهِم الأُسَرِيِّ، أو الجَمَعِيِّ. فمن أين نبدأ رحلتنا مع فهد العرابي الحارثي؟!

وُلد فهد، لأبٍ بلغ الستين من عمره قبل ولادة فتاة، ولأُمٍّ في بداية عقدها الخامس؛ فكان الابن المُدَلَلَ لَهُمَا، وانصَّبَ تركيزُ والديهِ عليهِ بالكُلِيَّةِ، يَحُفّانِهِ بالعنايَةِ، ويُطَوِقانِهِ بالاهتمام. ولَكَ، أَيُها القارئُ الكريم، أن تتخيل، حظوة أبوين في سن الشيخوخة بوليدهما الوحيد، إذ تَخَطّفَ الموتُ جميع إخوته، وكان له أختٌ، فلم تسلم من الموتِ، هي الأُخرى، فكان فهد، هو سلوَتَهُمَا.

في العالم ١٩٤٥، وُلد صاحبنا، بوادي المُرَيفِق، جنوب شرق الطائف، والذي ظلّ «الأرومة والجذوة الأصيلة في هويّته الوطنية»، ولا يزال يُعبِّر عن الوادي بقوله: «مسافة لا محدودة بيني وبين الكون كله». ظلّ يسكنه الحنين إليه في كل مراحله... يقول: «كنت في باريس، لكن قلبي وعقلي، تركته في بلدي ووطني، وخصوصاً في المريفق». انتقل في صباه من المريفق، إلى الطائف، ولكنه ظلّ يزور المريفق دائماً، ولسان حاله:

كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل

في منزلته الأولى، ومَدرسته الأُسريّة، تعلّم فهد من والده ما يُسمِيهِ: «أُصول الرجولة»؛ مثل أدب الحوار والحديث إلى من يكبُرهُ سناً، أو من يصغُرهُ أيضاً. أما والدتُهُ، فقد حفَّزَت فيه حُبّ التَعَلُمِ. لازمه هذا التشجيع، حتى جعل منه، مثقّفاً يُشار إليه بالبنان، وأَولد في نفسه امتناناً لوالدته؛ ظهرَ في مواضعَ، بينها ما سَطَرَهُ عام ١٩٩٥ في كتابهِ: «قال ابن عباس.. حدّثتنا عائشة»، إهداءً: «إلى المرأةِ التي حاصرت وحيدها بالحب، والدفء، والدعاء المبارك».

استحقاق أكاديمي.. وتميّز صحافي

درس فهد، مراحله التعليمية، بدار التوحيد بالطائف، وحصل منها على الشهادة الثانوية، بتفوّقٍ في ١٩٦٥. ثم التحق بكلية الشريعة والدراسات الإِسلامية بمكة المكرمة، وحصل منها على البكالوريوس بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى في تخصص الآداب عام ١٩٦٦، وعُيِّنَ أوّل تخرجه مُعِيدًا بجامعة الملك سعود.

شَغَفُ الدكتور فهد العرابي الحارثي بالصحافة، جَعَلَهُ مُحَرِّراً ثقافياً، بصحيفة (الرياض)؛ يوم كان مقرُّها بحي المرقب. وبعد فترة قصيرة صار رئيساً للقسم الثقافي.

ولما سنَحَت فُرصةُ المعيدِ بالجامعة، للابتعاث، نَصَحَهُ الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الفَدّا، عميد كلية التربية آنذاك، أن يُيَمِمَ وجهته نحو باريس تحديدًا، بدلاً من أمريكا التي كانت قبلةَ المبتعثين السعوديين آنذاك!

كان الفدّا، بنى اقتراحَهُ في العام ١٩٧٣، لأنه يعتبر باريس عاصمة الثقافة والأدب، ويرى في فهد العرابي، رئيس القسم الثقافي بصحيفة (الرياض)؛ محبةَ الأدب والقصة والنقد، ما سُيكسِبُ فهداً، بالتجربة الفرنسية، حضوراً ثقافياً وأدبياً، نافعاً له شخصياً، ولبلاده بالضرورة.

امتلأتْ نفسُ المعيد المتوقِّد، بالفكرة الجديدة، وهيّأ نفسه لها، وكادت أنفاسه تتقطّع، لما فَجَعَهُ وكيل الجامعة، آنذاك، الدكتور عبدالعزيز الخويطر؛ إذ وقف عند عنصر في لائحة الابتعاث، يشترط أن يجيد المُبتَعَثُ لغة الدولة التي سيقصدها. ولم يكن فهد يجيد الفرنسية بعد، وكاد هذا الشرط، يحرمه حلم بلوغ باريس، ودخول السوربون؛ خاصةً وأن الخويطر، عُرِف بالصرامة في تنفيذ اللوائح، ولا أحد عنده «فوق اللائحة».

لم يرفع صاحبنا الراية البيضاء؛ فهو يؤمنُ بأن هِمّةَ المرءِ، لو تعلّقَت بالثريا لنالها، كما في الأثر. وصار يبحث عن قبولٍ خاصٍ، يتكفّلُ هو بنفقته، وعزم على زيادة تعامله مع الصحف، ليوفر نفقاتِ ذهابهِ بدايةً، حتى هبطَت يوماً، زخّةُ حظٍ سعيدٍ على صاحبنا، فالتقى بالوجيه عبدالمجيد شبشكي، الذي توسّط له عند القنصل الفرنسي بجدة؛ فحصل العرابي، على منحة من الجمهورية الفرنسية، سنةً لتَعَلُّمِ اللغة الفرنسية. فاجتازها بتفوّقٍ، وانضم إلى البعثة السعودية، فإتقانهُ اللغة الفرنسية، جعله فوق اللائحة!

بدويٌ في السوربون

لطالما تخيّلتُ رحلة فهد العرابي الحارثي الأولى إلى باريس؛ أراه ينظر إلى جناح الطائرة فيتذكّر معطف والده، وشيلة (غطاء الرأس) والدته، ويمتد بصرهُ إلى المدى الذي تأفُلُ فيه الشمس بكسلٍ، وتستحيلُ أشِعّتُها الصفراء لوناً أحمر قانياً؛ فيتذكر لون رمال الصحراء وفيافيها. تحت الجناحِ، سحابةٌ كثيفةٌ مثلَ رغوةِ البحرِ، تحجب عنه الأرض البعيدة. وكالقطن الأبيض، الذي يراكمه الحاصدون تتكاثر الغيوم؛ فيتذكر شتاء الطائف، وزخات مطرها. وفي السماء فوق الجناح؛ تداعبه نجمةٌ، يرى فيها اسمَهُ فريداً، سابراً أغوار الكون؛ ملتحماً بالطبيعة، معتصماً بالاستقلال!

كان عقله المتّقد، ورُوحُهُ المَرِحَةَ، متأهبتين للتجربة الباريسية، وكأنما رحلته إلى الهدا، لا إلى عاصمة الأنوار!

هبطت الطائرة في مطار شارل ديغول؛ وفي حقيبة الشاب السعودي، كتبٌ قليلةٌ، وفي رأسهِ طموحاتٍ لا سَقفَ لها، فالسماء كانت على قريبة من الطائف!

توجّه إلى السوربون ليدرس النقد، واختار لبحثه موضوعاً فريدًا عنوانهُ: «الروابط بين الشعر العربي كشكلٍ قولي وخطابي منفرد عند العرب، وبين الإسلام في بداياته». أشرف عليه المستشرق البروفيسور شارل بيللا، وأكمل الإشراف عليه أستاذ الفكر المعاصر بالجامعة آنذاك المفكر المعروف البروفيسور محمد أركون، رحمه الله.

وبذا يكون فهد العرابي الحارثي، صاحبَ سندٍ عالٍ في الحداثة العربية والغربية، ما أهله لنيل الدكتوراه بتقدير مشرف جداً في ١٩٨٠، قبل الحصول على الدكتوراه، لم يتوقف صاحبنا، عن العمل مديرا لمكتب جريدة (الرياض) بباريس، خلال فترة دراسته بفرنسا كلها.

يقول فهد: «عند العودة من الابتعاث؛ كان الانضمام لعضوية هيئة التدريس بكلية الآداب بجامعة الملك سعود، وتَوَلّيتُ، في الوقت نفسه، رئاسة تحرير مجلة (اليمامة) الأسبوعية».

يمامةُ الحداثة والجُرأة والتنوير

لم تكن (اليمامة)، قبل فهد الحارثي، مجلة الثقافة السعودية الأولى، فحسب، ولا مجرّد تجربة صحافية تعكس اهتمامات السعوديين فقط، بل حَوَت المشروع الثقافي، الذي يصهر الجزيرة العربية، في مشروع الدولة السعودية، تحت قيادة المؤسس؛ فقدّمت القوائم الأساسية التي تقف عليها تطلّعات جيل التأسيس من السعوديين. لذلك لم يكن تسنم الدكتور فهد العرابي الحارثي لرئاسة تحريرها أمراً يمر عليه السارد لسيرته دون تأملٍ وتفكير.

إذ تقف عند (اليمامة)، تقف عند فكرتها أولاً، تقف عند شيخ المؤرّخين، وعلّامة الجزيرة العربية، تقف عند حمد الجاسر، رحمه الله، ولعمري إنّ الجاسر؛ هو أطلال العرب، وأخبار الجزيرة وآدابها، ولا تلمني إن أوقفتك عنده طويلاً، فحالي عند هذا الرجل؛ كحال الموصوف عند المتنبي:

بَليتُ بِلى الأَطلالِ إِن لَم أَقِف بِها وُقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التَربِ خاتَمُه

يستحضر فهد العرابي الحارثي، ذكريات مجلة (اليمامة)، بزهوٍ وفخر واعتداد؛ لريادتها وعراقتها، ولأنها كما يقول: «ابنة حمد الجاسر»، الذي «ماتَ وهو يُحِسُ بأنَ اليمامةَ يَمَامَتُهُ».

اختطّ العرابي في مسيرته خطاً نقدياً واضحاً، وعمل ضمن كوكبة من المبدعين الذين لا يمكن أن يضمّهم سوى العمل الحر؛ فقد أجادوا جميعا خلق هامش واسع، تحوّل إلى متنٍ للحرية، ووسِع مجرى تنسُّم الناس لها، وحفر بيد من حديد؛ لإقناع المجتمع والدولة معًا: أنّ الشخصية الثقافية القوية، وحدها ما يدعم خطط قادة البلاد، للانتقال بها من مجتمع هشّ ومهدّد، إلى دولةٍ قوية.

يقول الدكتور فهد، حكاية عن أيام (اليمامة): «المسؤولون عدُّوا أن هدفنا هو التشكيك في مشروع التنمية الذي كان على أشُدِّه، والمحافظون، من جهتهم، اعتقدوا بأن غايتنا هي الإجهاز على ثقافة العرب وعلى تراثهم!.. وكان حل مشكلتنا مع المسؤولين أسهل بكثير منه مع الآخرين».

من صفات الدكتور العرابي، التي لك أن تُصَنِّفَها كيفما شئت، أنّه عنيدٌ وحادٌ وذكيٌ، ولا يمكن أن يخاف بسهولة، وبوصفه رئيساً فهو مُتعِبٌ لفريقه، فلا يرضيه العملُ التقليدي، فما بالك بنصف العملِ، أو ربعه؟!

كان خصمًا قوياً، صبورًا، لا ينزوي عن واجبه، أو يتراجع عن قناعاته، ما دامت لا تصادم المجتمع أو الدولة. يصف فهد العرابي، هوجة التيارات والمعارك، التي لم يكن منها بعيداً، بعبارته الأنيقة، فيقول: «فأُخرِجَ يومها من المِلّة من أُخرِجَ، وفُسِّقَّ من فُسِّقَ، ولم يكن هناك، في هذا الضجيج المُحتدِم، من صوتٍ عاقلٍ واحدٍ، يدعو إلى شيءٍ من الهدوء، ومن العلمية، ومن الالتقاء حول مفاهيمٍ، أكثر وضوحاً، تنشلنا من هذا التيه العجيب»!

معركتنا مع التخلّف يا أصدقاء

اتخيل فهد العرابي الحارثي، في كل اجتماع تحرير مع خيرة شباب الصحافة السعودية آنذاك، يذكرهم كل مرة: «معركتنا مع التخلّف يا أصدقاء».

وإذا أردت أن تتخيّل سقف الحرية، ومدى الرؤية التي كانت توفرها (اليمامة)، فليس عليك سوى أن تتأمّل معي، كوكبة الأسماء التي عملت مع فهد العرابي، وأبدأ بمدير التحرير الأستاذ داود الشريان، الذي أطلق عليه الصحافي الجميل الراحل صالح العزاز: «الثاخب جداً، والصحافي جداً، الزميل داود الشريان، الذي قرر أن يكون مندوب الضعفاء والمستضعفين، ضد الوزراء والبيروقراطيين».

ولنستمع إلى قائد أوركسترا (اليمامة) الدكتور فهد العرابي، وهو يروي عن تيك الأيام الخوالي، ويتذكّر بحنين نجومها، فيذكر: «إدريس الدريس؛ مدير التحرير، ثم نائب رئيس التحرير، لم يكن قبل سنوات سوى متعاون في صفحات الرياضة. وعبدالله الصيخان (يتولى الآن الإشراف على اليمامة في محاولة صادقة لانتشالها مجدداً)؛ الشاعر الذي هبط علينا من تبوك، فلم يلبث أن أصبح هو الآخر مديراً للتحرير. وفهد العبدالكريم؛ سكرتير التحرير التنفيذي، دخل علينا محرراً صغيراً لـ(رحاب الإيمان). وعبدالعزيز السويد؛ سكرتير التحرير أيضاً، اكتشَفَته اليمامة، قبل أعوام قليلة، كاتباً في أول الطريق في صفحات قلم وحبر. ومثله جاسر الجاسر؛ كان رئيس القسم الثقافي، والناقد المعروف»، وبعد ذكر كوكبة من الأسماء يضيف إليهم «علي العميم؛ محرِّر المحلّيات المبتدئ، الذي أمسى الآن من أبرز كُتّاب الجيل الأخير من الشباب».

يقول صالح العزاز، عن يمامة فهد العرابي: «هنا في الرياض، مع بداية عهد جديد، وأحلام جديدة، وتجربة مختلفة: مجلة اليمامة؛ غابة الوعول والخيول والأحصنة، وشمس ومدفأة».

يضيف العزاز: «إنها اليمامة؛ فيها شارع الخبيب في بريدة، والشانزليزيه في باريس؛ فيها جبة وأمستردام؛ فيها تعرّفتُ على ظاهرة سعد الدوسري؛ هذا الأبيض الذي قرّر أن يكون مندوب أطفال العالم وكأنه منهم، والأستاذ الفاضل فهد العريفي، المدير العام الذي يقول لك إنه أبوك، أردتَ أم لم تُرِد».

نجح فهد في شهور، وحقّق الصيت، وتلقّى الهجمات تلو الهجمات، على شخصه ومجلّته، ردًا على ما يقوله في ندوات أو يكتبه في مقالات. وما أجمل الراحل العزيز، الدكتور غازي القصيبي، الذي كتب إلى الدكتور فهد العرابي، يواسيه، برسالة رقيقة مؤرّخة في ٢٧ يناير (كانون الثاني) ١٩٨٢، بعد شهور من تولّي فهد، رئاسة تحرير (اليمامة)، قائلاً: «عزيزي الدكتور فهد، أحسستُ وأنا أقرأ مقالك أنك تشعر بشيء من المرارة، إثر تعليقات الندوة. أؤكد لك أن هذه التعليقات ليس لها أي علاقة بما قلته أو لم تقله. الموضوع هو فهد، ونجاح فهد الكبير في هذه الفترة القصيرة. وهذه هي القضية باختصار، صدق أو لا تصدق»!!

ويضيف «لازلت بعض الأحيان أتألّم، لأني أرى إنساناً يتعذّب لنجاح الآخرين، ولكن هذه هي الحقيقة المُرة، في كل زمان ومكان للأسف».

تقدّم الدكتور فهد باستقالته، في العام ١٩٩١، بعد 12 عاماً، وجاءته رسالة لطيفة من الملك سلمان حينها، فهم البعض أنها محاولة لإثنائه عن الاستقالة، ولكن الدكتور فهد العرابي الحارثي، قال: «أعتبرها فخراً واعتزازاً لي شخصيًا، وقد كان (حفظه الله) يوليني الكثير من الرعاية والاهتمام، طوال فترة رئاستي لتحرير مجلة (اليمامة)، وهو الذي رشّحني لرئاسة تحريرها، وبالتالي؛ فعندما خرجتُ من المجلة أنعم عليَّ بهذا الخطاب».

3 دورات شورية

في العام ١٩٩٢، وبأمر من الملك فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله، اختير الدكتور فهد العرابي الحارثي واحداً من 60 عضواً في مجلس الشورى، الذي أعيد تشكيله في هيئته الجديدة، بعد عقود من توقفه، وكان نظام مجلس الشورى، آنذاك، ضمن مجموعة أنظمة حديثة، صدرت في السعودية، ضمنها النظام الأساسي للحكم، الذي يمكن اعتباره، بمثابة دستور للبلاد.

عضوية مجلس الشورى في كل دورة 4 سنوات، لكن الدكتور فهد استمرّ عضواً في مجلس الشورى ثلاث دورات متعاقبة، (مجموع سنواتها ١٢عاماً)، عمل فيها نائباً لرئيس لجنة التعليم، والثقافة والإعلام، ورئيسًا للجنة ذاتها في مجلس الشورى.

وانحنى القلب مرتين!

ارتبطَت الوطن بالأمير خالد الفيصل، وهو المثقّف صاحب الرؤية الجادة والمستقبلية، فكأنه أراد لمنطقة عسير، التي كان الفيصل أميراً لها، أن تدخل المنافسة من بوابة الإعلام... أن تتقدّم بالثقافة والأدب.

وقع اختيار الأمير خالد على الدكتور فهد العرابي الحارثي، ليقود فريق دراسات التحضير لصدور (الوطن)، صحيفة عسير، ذات المطمح العسير، وعاصمتها الأبهى، أبها. ودخل العرابي ضمن مجلس إدارة مؤسسة عسير للصحافة، ناشر الصحيفة الوليدة آنذاك.

العرابي، انتُخب أوّل رئيـس لمجلـس إدارة مؤسـسة عسـير للصحافة والنشـر، قبل الصدور بثلاثة أعوام في 1997، وجدد انتخابه في 2002.

فهد، صاحب الرؤية التحديثية التي يُمكِنها وضع دراسة تَعبُر بالتجربة إلى درب النجاح. يقول إنه نصح الأمير، في المجلس الأول، بأن تَصدُر المطبوعة مجلةً أسبوعية، بل شهرية، تختص بالسياحة في عسير، ولكنّ الأمير خالد الفيصل قطع بأنّه يريدها صحيفة يومية، وأن صدورها من أبها لا يعني أن يقتصر اهتمامها بمنطقة عسير، بل يشمل السعودية كلها، ويهتم بالعالم العربي في الوقت نفسه!

لكل.. «الوطن»

يحكي الدكتور فهد، أن اللجنة التأسيسية ذهبت للسلام على الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ولي العهد آنذاك، رحمه الله، لشكره على التفضّل بدعم مرحلة الترخيص، فقال للجنة التأسيسية: أنا لا أريد أن تكون الجريدة التي ستصدر من عسير هي جريدة لعسير، لا أريدها أن تكون إقليمية، لأننا نحن لا نريد أن نكرس الإقليميات في المملكة العربية السعودية؛ نحن وطن واحد. فأخبروه بأن الجريدة ستعنى بشؤون المملكة العربية السعودية كلها وشؤون الوطن. فقال الأمير عبدالله: حسنًا نسميها «الوطن».

دعم العرابي، فكرة تدريب صحافيي (الوطن)، وابتعثت بعضهم لصحف عالمية لاكتساب الخبرة، بغية نقلها للصحيفة الحديثة.

صدرت (الوطن) في سبتمبر ٢٠٠٠، فكانت صحيفة مختلفة، وكأن القائمين عليها يراهنون على إثارتها النقع، كما راهن أجدادهم الأوائل على خيلهم:

عدمنا خيلنا إن لم تروها تُثيرُ النقعَ موعدها كداءُ

ظلّت الظروف المتباينة تدفع العرابي للاستقالة مرة بعد أخرى، وظل هو يدفع بالعمل إلى الأمام، إلى أن قدم استقالته من مؤسسة عسير للصحافة والنشر، ورئاسة مجلس الإدارة، فردّ عليه الأمير خالد الفيصل بلطفه المعهود، حافظاً له فضل التأسيس، ودراسة الجدوى، والإدارة الحسنة. وكتب الأستاذ قينان الغامدي، رئيس التحرير حينها، في الثاني من أبريل (نيسان) ٢٠٠٤، مقاله الشهير: «استقالة فهد الحارثي.. الذبح قليل فيك»، ذكر فيه أنه لما قرأ استقالة الحارثي، قال: «انحنى القلب بحثاً عما فقد»، وأردف: «فهد الحارثي لم يترك وردة بيضاء على مكتبه؛ بل ترك تاريخًا أبيض، بناه بإخلاص، وشيّده بدعم خالد الفيصل».

النخبة اليوم هي كل الناس

فهد العرابي الحارثي، الرجل الذي نظَر يومًا إلى عصر الإنترنت وصحافة الجميع، والتحوّلات الجوهرية التي تجتاح التفكير، وهي تغيّرات أصابت الجميع بالصدمة؛ إذ سرعان ما تحوّل القارئ الذي لا يتفاعل مع المادة المطبوعة إلا بالقراءة إلى مرسِلٍ قد يكون أكثر تأثيرا من الكاتب الأوّل، دعا بداية العام 2019 إلى الاندماج الكامل بين وسائل الإعلام المختلفة، فلا تكون هناك فروق أو فواصل نظرية أو عملية بين الصحافة والإذاعة والتلفزيون، بل تكامل بينها، وهو ما يتطلب إعداد صحافيين وإعلاميين بمواصفات جديدة، ومهارات مختلفة، لإنتاج محتوى يعتمد على الوسائط المتعددة، وعلى البرامج والتطبيقات الحديثة.

نتاجٌ ثري

أصدر فهد العرابي الحارثي، في العام ١٩٩١ كتاباً عن غزو صدام للكويت، عنونه بـ«وقت للعار»؛ عَبّر فيه عن الألم العربي، إثر الغزو، الذي أحدث شرخاً أخوياً، وجرحاً غائراً، وفي ١٩٩٥ أصدر كتاب: «قال ابن عباس.. حدثتنا عائشة»، حاول فيه إثبات تآخي الشرعي والأدبي، بمنهج لطيف، لا يخلو من اتصالٍ بصراع الحداثة آنذاك. ولاحقاً أصدر كتابه المثير للجدل «أمريكا التي تعلمنا الديمقراطية»، وانتقد فيه مشروع الشرق الأوسط الكبير.

أما كتابه: «هؤلاء.. وأنا» (٢٠١٣)، فسرد فيه حكايات شخصية مع قادة وأمراء ومثقفين؛ فالأسماء التي تعبر الذاكرة كثيرة، وهو حاول إعادة الاتصال، بما علق بالذاكرة من تلك الأسماء، مجدداً الحوار معها، محاولاً استفزازها، لأنها تستفزه، بدورها للتفكير والكتابة، واكتشاف هواجس الناس.

يقول الدكتور فهد: «نحن معرضون للتعلم، ممن نتفق معهم في الأفكار، وفي المزاج، كما نتعلم في الوقت ذاته، من الذين نختلف معهم».

كما أصدر كتباً:

- «وجوهٌ وأمكنة» (٢٠١٤).

- «أنتِ قبيحةٌ هذا الصباح» (٢٠١٣).

- «المعرفة قوة والحرية أيضاً» (٢٠١٠).

- «المملكة العربية السعودية ماضياً وحاضراً (الأرض، الإنسان، الحضارة)»، مشاركة مع آخرين (٢٠١٣).

- «اتجاهات الكتاب السعوديين والمطبوعات السعودية نحو الحرب على العراق»، مشاركة مع آخرين (٢٠٠٤).

حيث لا مكان للسكون!

في العام ٢٠١٦ أسس الدكتور فهد العرابي الحارثي «منتدى أسبار الدولي» ليعمل على نقل المجتمع إلى مجتمع المعرفة، ودعم فرص التحول الرقمي والاقتصادات الجديدة، وكان الدكتور فهد أسس في العام ٢٠١٥ ملتقى أسبار، ليكون ملتقى فكرياً يناقش قضايا المجتمع السعودي والوطن العربي، ويصدر من الملتقى كل شهر تقرير يلخص نقاشات نحو 70 باحثاً، من مختلف التوجهات، في الموضوعات كافة، والتي يتم اختيارها، من قبل الباحثين، في أوقات متقدمة.

منتدى أسبار، وملتقى أسبار، هما من أفكار ومشاريع مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام، الذي أسسه مالكه ورئيسه الدكتور فهد في العام ٢٠١٤، أي بعد عامين من انتهاء عضويته في مجلس الشورى. والمركز، بحسب تعريف رئيسه، أُنشئ «دعماً لصانع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهو كما قدم دراسات لإصدار صحف (الوطن)، وصحيفة (البلاد)، و(الشرق)، أصدر موسوعات مهمة، منها: -

- موسوعة أسبار للعلماء والمتخصصين في الشريعة الإسلامية في السعودية.

- معجم أسبار للنساء السعوديات.

- موسوعة الدبلوماسيين السعوديين.

حراك الدكتور فهد العرابي الحارثي، الثقافي، والمعرفي، في المجتمع، لا يُنكره إلا جاحد، أو مُكابر، وهو حراكٌ إيجابي، يستثمر عقولاً أكاديمية ومتخصصة، في الدراسات والمنتجات التي تقدمها (أسبار)، بمختلف مناشطها، خلافاً لنتاجه النشط في التأليف.

الثقافة الباريسية الفرانكفونية، وشهادة الدكتوراه بتفوق من جامعة السوربون العريقة، والنجاحات الصحافية التي أثارت النقع، والمعارك الفكرية الشرسة، و١٢ عاماً تحت قبة الشورى، ونشاطات أسبار التي لا تعرف معنى السكون... كل ذلك لم تغير ابن المريفق، أو تمنعه لحظة من الفخر بمسقط رأسه... لذلك يقول: «أشعر بأن قامتي تطول، كلما صرت في المُريفق».

لذلك، وغيره، فهد العرابي الحارثي، قامة فارعة، حيثما كان!
00:50 | 2-01-2020

قينان الغامدي: يخلق صُحُفاً رائعة من العدم.. ويدمن الرحيل!

قيمته المضاعفة، مهنياً، بدأت منذُ ولادته، عبر اسمه، فاسمهُ المفرد يحمل معنى الضِعْف، لأنه مثنى!

إن قلت: قينان، لم تعن سواه، فإذا وقفت عند النون، أكمل المتلقي قبلك: قينان الغامدي!

وقد قرأت ذات فضول أن اسم قينان يعني الرجل الذي يكتشف الأشياء ثم يصلحها ويتعرف عليها من جديد، والاكتشاف محتاج أبد الدهر لشجاعة تلازم صاحبها والإصلاح كذلك محتاج للمواجهة، والتعرف من جديد دلالة استمرار الحياة.

قينان الغامدي - في نظري - هو الصحافي السعودي الشُجاع، الذي لا يتخوف إشعال الحرائق دوماً، والمنقذ حين تعي الحيل الرجال، الصادقُ، صاحبُ طبقة القرار، المحترمة في صوته، وهو يقول دون مواربة: «نعم أُقلت، وإذا أردت أن تقول: إني استقلت، فلا فرق مادام المؤدى النهائي توقفي عن العمل».

تُعرف الصحفُ بِهِ، فيكون انتقاله إليها، إيذاناً بمرحلة جديدة، عنوانها الانتشار والتجديد، وصناعة صحافة تغري القارئ لمتابعتها.

تابع ما فعل قينان في (البلاد)، وقينان (عكاظ)، وقينان (الوطن)، وكذاك قينان (الشرق)...

لكل مرحلة قينان، ولكن قينان كثيرُ المطالب، عالِي الصوت، صريحُ المواجهة.

قبل عقدين، كان يصرخ، صحافياً. مطالباً بحق المرأة في القيادة، ويخرج على الشاشة بعد يوم طويل ليناقش وزير التعليم، ويقول دون تردد؛ بأن الصحافة لا تحتاج لكليات إعلام، لكنها محتاجة لمعهد تدريب عملي ينتظم فيه أصحاب التخصصات المختلفة، ليتعلموا الإعلام عملياً. كثيراً ما ينقذه صدقه من حبل المشنقة، وفوق صدقه هو صاحبُ أدبٍ جمٍ، أنيقٌ كأنك تحدث مدير مدرسة ابنك، وصارمٌ مثل تاجرٍ في دُكانه، يريد أن يبيع، وأن يكسب، ويعشق مهنته، لكنه لا يحب أن يَظلِم أو يُظلَم.

ٌرجل من أهل الجنوب، واضحُ الخصومة، لا يتختل لخصمه. يُفضل الخسارة، على أن يأتي خصمه من الخلف! يُطلِق النارَ في السماءِ لمقدَمِك، وَفِيٌ لأصحابه، يذهب للعمرة كي يسأل الرحمن أن ينجز، ويبدأ مشعل السديري في كتابة مذكراته.

قينان... حكايةٌ وأي حكايةٍ، فتعالوا لنشهد سيرة، صحافي شجاعٍ، في زمنٍ يعتبر البعض الشجاعة فيه تهوراً!

ابن القرية المدلل.. كثير الأمهات

قينان، مدلل الجميع في طفولته وصباه.. وربما إلى الآن. هو الذي يأمن العقوبة الشديدة، ولا يُسيء الأدب، أنّى تطاولت مشاكساته، تشعر بأنّه محظيّ، ومهما احتدّت عباراته، ترى في بياض نيته ما يشفع له. ولذلك جذورٌ في تاريخه الشخصي، فقد حَفَّتهُ منذ طفولته عناية ضافية لأسباب؛ إذ تربى يتيم الأم، فصارت له في قريته (الطويلة)، بمنطقة الباحة، عشرات الأمهات، يقول: «لدي أمهات عدة من نساء القرية، وعشرات الأخوات والإخوة، بحكم أنني يتيم الأم، فصرت أجد الحب والعطف والخدمة في بيوت كثيرة».

عاش قينان، المولود في 1957، طفولته في تلك القرية الوادعة، ثم رحل إلى مدينة الطائف، في تحوّل مألوف لأبناء تلك الباحات الجميلة.

دخل الطائف في الثانية عشرة من عمره، ولما وصلها فتحت المدينة عينيه على آفاق جديدة. لم تُضِف الطائفُ إلى الصبيِّ المحظوظِ، «الفول والتميس والمطبّق»، فحسب، بل أخذت بيده إلى العالم الأكبر؛ إلى حيث «الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يقليك، والرفيق الذي لا يَمَلُّك، والجار الذي لا يستبطئك»، هذا الذي وَجَدَه في مكتبة «السيد» في البلد، ومكتبة «الثقافة» في باب الريع، اللتين تَعَوَّدَ ارتيادهما في تلك السن المبكرة، بفضل التشجيع على القراءة الذي كان يلقاه طلاب المعهد العلمي بالطائف، حسبما يتذكر.

أبوعبدالله، وهي كنية قينان الأثيرة، يتذكّر أيام دراسته؛ سواء في ابتدائية بني سعد، التي تخرَّج فيها 1969، أو في المعهد العلمي بالطائف، الذي تخرَّج فيه بتقديرٍ ممتاز عام 1975، يستعيدُ بإجلالٍ أسماء المعلمين مقرونةً بما نقشوه في ذاكرته من معارف، يتذكر في المعهد العلمي، حسن الحازمي، من معهد الباحة، قائلاً: «هو أول من دفعني إلى مكتبة المعهد، وصالح العليان، وإبراهيم الفوزان، والشيخ أحمد الغامدي، وعبدالله الشبانة، وعلي سلطان الحكمي، والسُوري حسين قاسم، ويحيى معافى، وكل هؤلاء درسوني وشجعوني في معهد الطائف العلمي». وتذَكُّره لا يقف عند أساتذة الصبا الذين تبقى علومهم نقشاً في حجر، بل يُمُرّ بدورة المعلمين بمكة، تلك التي أهّلته، وكلية المعلمين بالطائف التي كمّلته، وأساتذة كلية اللغة العربية بجامعة الإمام بالرياض، وحتى أولئك الذين علّموه قبل سنوات قليلة، اللغة الإنجليزية في بلاد الإنجليز، حين هاجر مبتعثاً، أو مُعتكفاً، إلى جامعة كارديف ببريطانيا، بعد أزمة (الوطن) الشهيرة، التي استغلّها لغة القوم، ليأمن مكر صاحبة الجلالة!

كانت حياة الطائف التي جاءها من الطويلة فصلاً جديداً، ملأه الغامدي بالدروس والدورات والتأهيل، وأيضاً بالعمل والكسب، ودروب صقل الشخصية المنتجة، فبعد أن صادق الكِتاب والدورات المهنية والأنشطة، تعلّم استغلال وقته باحترافيةٍ قد لا تجدها إلا في سيرة نجوم الصحافة والسياسة في دولٍ مثل بريطانيا وأمريكا، وهي على أُلفتها لكثيرين من أبناء جيله تبدو غريبةً على ناشئة الأجيال التالية له، خصوصاً تلك التي تكوّنت عقب الطفرة النفطية، ومجتمع الرخاء، إذ عمل قينان خلال إجازات المعهد بين العامين (1971، 1972) عاملاً بمخرطة الطبش بالطائف، كما عمل في السنتين التاليتين، عاملاً بالمنجرة الأهلية بالمدينة ذاتها، وبعدها عمِل كاتباً للعرائض.

التكوين المهني.. إلى التعليم دُر

عُرف قينان في المحيط الدراسي الأكاديمي، بالنشاط والمثابرة، فتولى رئاسة النشاط الثقافي العام -اللا صفِّي- بالمعهد العلمي بالطائف، عامين متواليين (1974، 1975)، وهذا الضرب من النشاط، يُكسِب صاحبه دُربةً لا تتوافر لدى المنكفئين على الكتب دون ممارسة معارفها، والمعتكفين في المختبرات دون إصدار نتائجها، إذ تُنَمّي الأنشطة اللا صفية، التفاعل الإيجابي مع المعارف، وتقدح في نفس الطلاب الرغبة في تداول المعرفة، وعشق المعلومة، وتخلق الشخصية القيادية، التي يحتاجها صنّاع الرأي العام.

واصل أبوعبدالله على هذه الوتيرة من النشاط الإيجابي، والقراءة والاطلاع، دون أن تؤثّر هذه الأنشطة على أدائه التعليمي، إلى أن نال شهادته الثانوية من المعهد العلمي، في (1975). فقدّم أوراقه للكلية الجوية بالرياض، وقُبل فيها، إلا أنّ والده كان له رأي حازم آخر؛ إذ اقترح على أكبر أبنائه الذكور طريقاً آخر. فيمّم صوب مكة، للالتحاق بدورة المعلمين هناك، وتخرّج فيها بتقدير ممتاز في 1976، وقفل إلى الطائف، ليصبح معلماً فيها، ويواصل مشوار التأهيل، فنال دبلوم كلية إعداد المعلمين بالطائف، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، متخصصاً في اللغة العربية والاجتماعيات، عام (1980)، وفي الوقت نفسه، كان منتسباً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ومنها حصل على بكالوريوس اللغة العربية في (1982). استمرّ قينان في سلك التعليم، معلّماً، ثم مدير مدرسة ابتدائية بالطائف وجدة، في رحلة استمرت من 1976 إلى 1989.

حكم رياضي درجة أولى!

كانت أحلام الفتى تتمدّد في المراحل كلها، وهو يتزوّد للمستقبل برعاية كل المهارات التي يأنس في روحه أصلاً لها، فدخل عام 1977 دورةً في الإعداد والإخراج المسرحي بالطائف، أردفها بدورة في الكتابة المسرحية، في مسيرة أجزم بأن لها ثمرة، تحتاج من يجلو عنها الغبار، أو لعلها تبرز يوماً. وليتأهل لإدارة المدرسة الابتدائية، التي يُعلِّم فيها، انتظم في دورة في القيادة التربوية بالطائف في (1979).

انخرط قينان، أثناء عمله في التعليم، بدورة في تحكيم كرة القدم، قَدَّمها الحكم الدولي مثيب الجعيد، ونجح في الجزء النظري بتفوق، ونجح، بعد فشل أول، في اختبار كوبر Cooper، وهو اختبار اللياقة البدنية، وعَمِلَ حَكماً؛ ثم تدرّج إلى أن وصل إلى حكم للدرجة الأولى، في العام 1986.

إلى الصحافة.. عبر الرابطة والمنحنى

النّقلة الكبرى في حياة قينان التي قادته إلى بلاط صاحبة الجلالة، كانت في السنة الثانية من كلية المعلمين بالطائف، في العام 1980، حين أصبح رئيس الرابطة الطلابية، إذ جعله المنصب، تلقائياً، رئيساً لتحرير صحيفة الرابطة الطلابية، التي يُحرِّرها جمع من زملائه، المتعاونين مع الصحف اليومية، وأبرزها «عكاظ».

يروي قينان بداياته غير الرسمية، قائلاً: «في منتصف الثمانينات، كنت مثل غيري من (المخربشين)، أراسل بعض الصحف والمجلات من الطائف، وكانت مجلة (اقرأ) في ألقها؛ وفجأة وفي أحد الأسابيع، وجدتُ إحدى (خربشاتي) منشورة في زاوية أثيرة في مجلة (اقرأ)، اسمها (منحنى الوداع) على ما أظن. قد يكون من نشرها عمر يحيى، أو محمد الفايدي، أو عبدالله باهيثم، لا أدري، لكن الصورة التي في أذهان المتابعين، على الأقل في تلك الأيام، أن رئيس التحرير هو من يُجيز ويمنع». يضيف: «كنت أقرأ للدكتور عبدالله منّاع في مجلة (اقرأ)، وكنت أتابع بعض أحاديثه في الإذاعة، وعندما انتقلتُ إلى مدينة جدة، كنت حريصاً على أن ألتقي به، وفعلاً التقيت به لقاءات عدة متباعدة، لكنه كان شامخاً؛ جِسماً وفكراً، وكنت ما زلت أحبو في بلاط صاحبة الجلالة. ظلت هذه المحاولات مستمرة من جانبي، وربما هو لا يعلم عنها، إلا بعد أن تعرّفنا على بعضنا بصورة جيّدة، إلى أن قدر الله وانتقلت إلى صحيفة (البلاد)، فتعمّقت العلاقة وتطوّرت».

خبر عالمي يرفع أسهم قينان

لم يكن المتعاون مع جريدة «عكاظ» ليعلم أن تغطيته لاجتماع عادي، ستُحوِّل نظرة رئيس تحرير «عكاظ»، الدكتور هاشم عبده هاشم له. وهذا الخبر، إذ يحكي قينان قصته، ويستدل على ضرورة تأهيل الصحافي المبتدئ، يجمع فيه الطرافة والأهمية في آن، إذ يقول: «ثاني أو ثالث شهر لي وأنا في «عكاظ»، حين كنت مراسلاً لها من الطائف، كان هناك اجتماع في مكتب وزير البترول، يضم وزير البترول أحمد زكي يماني، ووزير الصناعة الدكتور غازي القصيبي، وأمناء ثلاث مدن، الرياض وجدة ومكة. كان الاجتماع في رمضان، فذهبتُ إلى مدير مكتب وزير البترول، فقيل لي انتظر إلى أن ينتهوا من الاجتماع». يقول قينان إنه انتظر من صلاة التراويح حتى الساعة الثالثة فجراً، وبعد انتهاء الاجتماع، انتظر الوزير زكي يماني حتى فرغ من حديثه مع غازي القصيبي، وتقدّم إليه حاملاً أداة التسجيل، وطارحاً «السؤال الذي أعرفه منذ دخلت الصحافة إلى اليوم: ماذا تم في الاجتماع؟» أجابه الوزير بلطف: «هذا الاجتماع لا يهم الصحافة»، ولما ألحّ قينان على الوزير، سأله يماني: «من أين أنت؟» فأخبره أنه من «عكاظ»، فقال الوزير، فيما ظنها قينان مجاملة: «سأعطيك خبراً أفضل من خبر الاجتماع»، ومضى يصرّح بالخبر: «سنجتمع في جنيف، نحن وزراء البترول في أوبك، بعد كذا، وسنرفع سقف الإنتاج إلى كذا، والمملكة ستتحمل فارق الإنتاج».

يقول قينان: «لم أكن أدرك قيمة المعلومة التي أعطانيها الدكتور زكي يماني، وظللت أحاول أن يخبرني عن الاجتماع»، ولما يئس قينان أخذ الخبر إلى البيت، وانتظر ظهر اليوم التالي، ليفرّغ السطرين ويرسلهما كأيّ خبرٍ عادي، ولكنه تفاجأ إذ انقلبت الدنيا في الجريدة، وهاتفه الدكتور هاشم سائلاً: «هل هذا الكلام في التصريح مسجل؟!»، يقول قينان «وكانت أوّل مرة يكلمني فيها رئيس التحرير»، وإمعاناً في الدقة، طلب هاشم أن يسمع التسجيل، و«في اليوم الثاني نُشر الخبر في عنوان على ثمانية أعمدة في الجريدة»، وظهر اسم قينان، في أول سبقٍ صحافي له.

التفرّغ للصحافة.. البداية من «عكاظ»

حكى قينان أنه في العام 1987 تقريباً، انتقل إلى جدة، ليعمل سكرتيراً لتحرير صحيفة «عكاظ»، ثم عمل سنتين قبل أن يستقيل من التعليم ويتفرّغ للصحافة، مديراً لتحرير «عكاظ». يصف قينان هذا القرار بأنه أصعب قرار في حياته، متحدّثاً لصحيفة (المدينة)، قائلاً: «كان موقفاً عصيباً، وقراراً صعباً، ومغامرة لم أندم عليها فيما بعد».

كثيرون نصحوا قينان ألاّ يتفرّغ للصحافة؛ لأنها مهنة غير مأمونة، وغَدّارة، ولكنه استجاب لإغواء نفسه، واستقال من التعليم، حين تحتّم عليه الاختيار. ذلك أنّ وزارة المعارف لم تكن لتقبل، حسب روايته، أن يظهر اسم مُعلّمها ضمن المسؤولين عن التحرير، بما يدل على عمله متفرّغاً في مهنتين. حين سألتُه عن المزيد: شرح لي أنه تعب من الدوام الطويل، إذ كان مضطراً أن يخرج من منزله عند السادسة صباحاً، للتعليم، ثم يذهب للجريدة بعد العصر، ولا يعود إلا عند منتصف الليل!

إذاً عمل قينان مراسلاً، ثم محرراً، ثم مديراً لمكتب «عكاظ» بالطائف، قبل أن يأتي إلى جدة ويصبح سكرتير تحريرها؛ لذا كان عارفاً بالكُتّاب وأسرار الصنعة، وكوّن كوكبة من الصحافيين الذين يعتزّ بصداقتهم. ترقّى إلى أن وصل مديراً للتحرير، ثم نائباً لرئيس التحرير، في رحلةٍ امتدت من يوليو 1982 إلى سبتمبر 1996، واظب فيها على كتابة مقاله الأسبوعي.

«عكاظ» مدرسة.. وهاشم جامعة

يقول قينان: «عكاظ» مدرستي الأولى في الصحافة، بل جامعتي الكبرى»، دخلها من بوابة مجلة الرابطة التي ترأس تحريرها، رفقة صحافيين يعملون في «عكاظ». ومع إرشاد سعد الثوعي وآخرين، بدأ تعاونه مع الجريدة العريقة، وكان للأساتذة فيها الفضل في تقديمه للأمام، وتسليحه بالجرأة، ودعمه بالنصح والإرشاد، فهي مدرسته الكبرى. بيد أني لاحظتُ أنه يذكر أساتذته، في هذه الصنعة بإجلال كبير، ويخصّ منهم الدكتور هاشم عبده هاشم، بكثيرٍ من التقدير، وهو تقدير مستحق لا يعرفه إلا أهل الفضل.

بحثت أتقصى عن المواقف الخاصة، التي تجعل الأثر الباقي هو المسيطر على عقل قينان، فوقفت على موقفين للدكتور هاشم مع قينان، أدركت معهما كثيراً من المعاني الجميلة، أنقل أولهما، وأحتفظ بالآخر لحاجة في نفسي.

ذكر الدكتور هاشم في كتابه «الطريق إلى الجحيم»: «ومن تلك القصص.. ما تلَقَّيته في يوم من الأيام.. من وزارة الإعلام بإقصاء الزميلين أيمن محمد حبيب وقينان الغامدي عن العمل بالجريدة، لإجازتهما مادة صحفية.. ما كان يجب أن تنشر من وجهة نظر الوزارة. وما فعلته في هذا الصدد هو استخدامي لكل أرصدتي من العلاقة بكبار المسؤولين بالدولة، إضافة إلى معالي الوزير الشيخ علي الشاعر «يرحمه الله».. لاستصدار موافقته التالية بإعادتهما إلى العمل، وذلك يعكس حالة الشد والجذب التي كانت تنتهي بصورة إيجابية وإن أبقت على حالة الشعور بعدم الاستقرار الوظيفي لدى الجميع.. وكنت حريصاً على عدم إطلاع زملائي على تفاصيل ما يحدث إبعاداً لهم عن حالة الخوف والتوتر».

البلاد.. من الإنعاش إلى الحياة!

حين لمع اسم قينان في سماء الصحافة السعودية، اختير لمهمة كبرى؛ فغادر «عكاظ»، واستثمر معارفه وخبراته القديمة لتُعينه في التحدي المقبل. حين اتُّهم قينان أنه أخذ المتميزين معه من «عكاظ» إلى البلاد، قال: «لم يَحدُث شرخ بيني وبين «عكاظ»، فهي مدرستي الأولى، والعاملون فيها كلهم أصدقاء وزملاء، أما نقل عدد من العاملين فيها إلى (البلاد) فهذا موضوع لم تثبت صحّته حتى يومك هذا».

سُئل الدكتور عبدالله مناع، عن عملية إنقاذ البلاد، فقال: «أنا من قاد عملية الإنقاذ لمؤسسة البلاد حينذاك، إذ طلبتُ من الدكتور ساعد العرابي الحارثي، باعتباره مستشار وزير الداخلية، بضرورة إنقاذ البلاد، ووجدتُ منه تجاوباً كبيراً، فبعد أن خاطبتُ الدكتور ساعد الحارثي، جاءت الموافقة بإعادة تشكيل مجلس إدارة المؤسسة، وتمّ بموجبه اختيار الدكتور عبدالله صادق دحلان رئيساً لمجلس الإدارة، وقينان الغامدي رئيساً لتحرير صحيفة البلاد، ومحمد صادق دياب، رئيساً لتحرير مجلة اقرأ، وأصدقك القول، بأنني من رشح وأتى بكلٍّ من قينان ودياب للمؤسسة؛ ليقودا حركة الإنقاذ فيها، وبالفعل أحدث كل واحد منهما نقلة كبيرة ونوعية للمؤسسة، فالصحيفة كانت لا توزع سوى 1500 نسخة، أصبحت توزع 25000 نسخة، والمجلة التي كانت أعدادها كلها رجيع، أصبحت توزع 10 آلاف نسخة. بعد ذلك، شهدَت المؤسسة انتعاشاً كبيراً نافسَت به وصيفاتها من الصحف الأخرى.

يختصر قينان تجربته بـ«البلاد» فيقول عنها: «انطلاقتي الحرة، وتحَمُّل المسؤولية الكاملة عن النهوض بصحيفة عريقة كانت في الإنعاش، فانتعشَت خلال بضعة أشهر».

وفي عز ذروة النجاح، جاء عرضٌ لقينان الغامدي، من الأمير خالد الفيصل - أمير منطقة عسير آنذاك - بترشيحه لرئاسة تحرير صحيفة الوطن، التي كانت قيد التأسيس والإنشاء، وجاء عرضٌ آخر فيما بعد لمحمد صادق دياب من الشركة السعودية للأبحاث والنشر؛ ليتولى رئاسة تحرير مجلة الجديدة.

الوطن.. ذروة سنام المجد

هي العلامة الفارقة في الصحافة السعودية، والمشروع الكبير الذي دشّن رؤية الأمير خالد الفيصل، أمير عسير آنذاك، وانطلق به لا لمنافسة الرياض والجزيرة و«عكاظ»، بل لوضع الصحافة المحليّة السعودية، في مصاف المنافسة العربية. كانت الدراسات الطويلة التي مهّدت للوطن، كفيلة بحفز الناس على ترقُّب ميلاد ابن النور، ونوّارة أبها وعسير التي لن ترضى بقامة أقل من تمثيل الوطن كله.

أسّس قينان الوطن، وصنع نجوميتها، قضى فيها سنتين قبل التأسيس، ومثلهما بعد التأسيس، تلك أربع سنوات كاملة، يشهد له الخصوم والأصدقاء بسهمٍ رابح في زيادة هامش الحرية، ورفع سقف النقاشات، والتعالي على المناطقية، واحتراف الصحافة في ساعات عملٍ محددة، وجملة من الفضائل التي يتصف بها النبلاء.

يقرع باب قيادة المرأة للسيارة، في وقت كان الاقتراب فيه من الموضوع يثير غضب الفئة التي تدّعي أنها تُمثِّل كل المجتمع، وإذا زاد الهجوم عليه، يُشرِع مبضعه ويقول بأننا نحتاج إلى الإصلاح الفكري قبل أيّ إصلاح، يهاجم السرورية، يقول ما يقول ولا يبالي، ما دام يلتزم الموضوعية، ويتحدّث من مُنطلق وطنيّ معروف، وينطلق من ثوابت الوطن الكبير.

إقالة قينان خبر يتكرر في كل المواسم، بعدها يستمتع بمطالعة رحلتك وأنت تُفكِّر في الأسباب؛ لكثرتها لا لقِلّتها؛ أهو مقال فلان، أم ذاك الخبر؟!

الرحلة إلى الشرق

في 7 أكتوبر 2009، وافق وزير الإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة، على تعيين الأستاذ قينان الغامدي رئيساً لتحرير صحيفة الشرق اليومية، عن مؤسسة الشرقية للطباعة والصحافة والإعلام..

بعد عام من الدراسة، خرجت الشرق قويّة ومميّزة بتبويبها، واستفاد قينان من علاقاته بالكتاب المميزين، فحشد لها أبرز الكُتّاب في المنطقة، واستطاع أن يُثبِتَ أنه رجل لا يواطن القوالب الجامدة، بل يتجدد، فلقينان قدرة هائلة على خلق لُحمة ودفء ومحبة، بين فريق العمل الذي يقوده.

يقول عبدالله القرني عن إحدى تجارب قينان في الشرق: «ومن معجزات البلدوزر حدث ذات يومٍ قريب من صدور الشرق حريق مهول، أكل مكاتب الصحيفة ومعداتها، وأصرّ أن تَصدُر اليوم التالي، وبإصرار فريق عمله، ليجعل من الحريق قصة صحيفة اليوم التالي».

ولخلاف غامض، ولأسباب لا يمكن التقاطها، كعادته خرج قينان من الشرق، ولا يزال يحمل مَحبّة أهلها.

أمنيتي أن أقرأ مذكراته!

لا يزال قلمه يرفرف، ينتقل من مشروعٍ إلى آخر، ومن صحيفة لأختها. وأمنيتي أن يصل قلمه إلى تدوين كتاب فيه مذكراته؛ فأي متعة تلك التي سنتعرف عليها، ونحن نقرأ لرجل يتكلم بالحقيقة، عارية عن أي تجميل، ويضع الوقائع في سياقها المنطقي، ويُدرك رسالته؛ أن يقول ويكتب.

فلئن دعا قينان في الحرم أن يكتب الأستاذ مشعل السديري مذكراته، وقال ذات لقاء إنه على أهبة الاستعداد لإخراج مذكرات السديري، ولو على طريقة الأمالي، فإنني أحفز قينان أن يبدأ بكتابة مذكراته هو، وله من الجميع ألف عون، وعون، ولو على طريقة الأمالي، وهذا والله من أعز الأماني.

وإذا ما كان ذلك، في تلك المذكرات؛ سنرى بطولة أم عبدالله، صالحة، التي يذكرها قينان بحبٍّ وإكبار وإجلال كبيرين، وأميراته اللائي يحكي عنهن بفخر، وأبناءه الذين يقول إنه يود قضاء الأيام معهم، وتعويضهم، بجودة الوقت، عمّا مضى. كما سنرى معارك التنوير، واتصالات النصيحة والاعتذار، وصراعات الكبار، التي تنتهي به منتقلاً من صحيفة لأختها، فهو كما يقول عمنا المتنبي:

إِذا تَرَحَّلتَ عَن قَومٍ وَقَد قَدَروا

أَن لا تُفارِقَهُم فَالراحِلونَ هُمُ!

لمن تقرأ يا قينان؟

يقرأ قينان كثيراً، ولعلي أزعم أنه لا يصادق إلا أصدقاء الكتب، فيندر أن يخلو مجلسه من حديث عن كتاب قرأه، هو أو صديقه الأستاذ مشعل السديري، أو فلان أو علان، وإذا أراد مدح أحد يقول عنه أنه قارئ جيد، وعن نفسه يقول: «أنا أقرأ في المجال الأدبي، بحكم التخصص؛ الروايات، ودواوين الشعر، والقصص».

مع مواهبه الكثيرة، قينان شاعر مُقِلّ، وكل شاعرٍ شاعرٌ مُقِلّ وإن كثُر شعره. تعَرّف القرّاء على شعره، يوم ردّ على قصيدةٍ للدكتور عائض القرني، أراد بالرد عليه أن ينفي عنه الشاعرية، في سجالٍ شهير.

قينان الغامدي، هذا العصامي المشرق، أستاذ الجيل، وصاحب الفضل على الجميع، ورفيق الأدباء والمعلمين، سيرته الغنية تصلح لمشروع فيلمٍ سينمائي شيّق، وأدنى الأمل أن تكون كتاباً، نصادقه، وينفع الأجيال، فهل يفعلها أبوعبدالله؟

turkialdakhil@
00:54 | 26-12-2019

الصحافي البركان.. نصير البسطاء

كانت الثامنة مساءً، موعداً للأحباب بالسعودية، قبل ظهور التلفاز.

يكفي أن يقولَ أحَدُهُم: «موعدي الساعة... ثمان»، حتى يبتسم الحاضرون، ورُبَّ تبسم يغني عن طول حديث!

ومنذ تشكل الدولة في السعودية، كانت الصحافة، ولا تزال، مكاناً للشكوى، سواءً كان المشتكى عليه دائرة حكومية، أو طريقاً تأخر المقاول في تسليمه، أو حتى معلمة تطلب نقل عملها، لمدينة عائلتها، أو غير ذلك...

يحدث أن تكون المشكلة، مما عَمّ بها البلوى، وتكاثر منها المتضررون... فمن يستطيع أن يكون قناةً لصوت الشاكي؟! حتى تحفظ الحقوق، ويقوم المُكَلّفُ بأداءِ الواجِبِ، حتّى لا يَضِيْقَ الشاكي بشكواه، وكم من ضيقٍ وَلَّدَ انفِجَاراً!، لا أحد يستلذ بالشكوى!، لا الشاكي -بطبيعة الحال- ولا المسؤُول، الذي سيؤتى به على رؤوس الأشهاد.

صاحبنا، الذي نروي شيئاً من سِيرَتِهِ اليوم، استطاعَ باقتدار، احتكارَ ساعتين، من ساعاتِ الذُروة، ليحفِر بها اسمه، في ذاكرة المواطن، وخصوصاً أصحاب الحاجات، وكان أحد أهم قنوات نقل الشكوى، وتعبير المواطنِ، عن احتجاجه، على سوء خدمة هنا، أو عدم القيام بِواجِبِهِ هناك.

إنه الصحافي السعودي، الوحيد، الذي مارسَ أنواعَ العمل الإِعلامِي كلها، من صحافةٍ يوميةٍ، إلى مجلاتٍ أسبوعيةٍ، مُروراً بالإذاعةِ، وصحافةِ الإنترنت، فالتلفزيون... والفارقُ، أنَّ صاحبنا اليوم، وهو الأستاذ، داود بن عبدالعزيز الشريان، يَتَفَوّقُ على غَيرِهِ من الصحافيين السعوديين، وربما العرب، بأنه مَرّ على هذه الوسائل، رَئِيساً، ومهنياً ممارساً، فَأدارَ العملَ الإعلامي في الصحف، والمجلات، ومواقع الإنترنت، وفي الإذاعة، والتلفزيون،... وَقَدّم البرامج التلفزيونية، والإذاعية، وكَتَب المقال اليومي، والأسبوعي، وأجرى اللقاء الصحافي، واستقصى عبر التحقيق المصور، والمكتوب، وجاء بالخبرِ، وحَرَّرَهُ، وكتبَ القِصَةَ الإخبارِيَةَ الصِحافية. فمن يقارع داودَ في كل ذلك؟!

لم أكن في السعودية حينها، لذلك لستُ من جمهور «الثانية مع داود»؛ البرنامج الإذاعي، الذي قَدّمَه الشَريانُ سنواتٍ، على أثير mbcFM، وكانَ الناس يستمعونَ إليه، وهم عائِدونَ مِن أعمالِهم، فيبقون متسمرين في سياراتِهم تحتَ لهيبِ الشمسِ، وقد وصلوا بيوتهم، لإكمال الإنصاتِ للبرنامج الشهير.

وليسَ داوُد الشريان، عندي هو داود الثامنة، البرنامج التليفزيوني، الذي أطبق الآفاق، فعرفته الجَدّاتُ، والحَفِيَداتُ... الآباءُ والأبناءُ، الصِغَارُ والكِبَارُ، الأغنياءُ ومُتَوسِطو الدَخل، ومحدودوه، وحَقَقَ عَبْرَ شاشة mbc نِسَبَ مشاهداتٍ تاريخية، لا سابق لها، في المنطقة!

لكنّ داوُد، بالنسبة لي، هو قائدُ الفريقِ الصحافي، الذيْ يغضبُ عليك، كبركانٍ متفجرٍ حِمَمَاً، إن تكاسَلتَ في عملك، لكنه يُكافِئُكَ إن تَمَيّزتَ وأبدعت. داود، الذي يشرعُ الأبوابَ للمُجتَهِدِينَ، ويُحَوِلُهُم نُجُوماً، فَرِحاً بِبُروزِهِم، لا وَجِلاً من مُنَافَسَتِهِم!

ليس داودُ، هو الفتى المتحدِرُ من أُسرَةٍ من أُسَرِ العقيلات، حيث كان جَدّه وأبوه يُتَاجِرانَ في بيعِ الجِمَالِ، بنقلها من أكبرِ سوقٍ للإبل في العالم، ببريدة، إلى الشام وفلسطين.

وليس داود، هو الفتى الذي عانى مرارة اليُتمِ صغيراً، فقَرَرَ أن يَكونَ صَوتاً، لِكُلِ من يُعانِي، وها هي سِيرَتُهُ للمُتَتَبِعِ، تَشْرَحُ صَوتَهُ الحاد،َ في إِنكارِ الظُلمِ، وانتِصَاره للمرأةِ، يومَ لم ينتَبِه لِحَاجَتِها أحد... رُبَما لأنَه، إذ فَقَدَ أَبَاهُ، اقتَرَبَ مِن جَدّتِهِ، حتى صارَ عُكَازَها الذي تَتَكِئُ عليه!

يعرفُ كل من زَامَلَ، الشريان، أو عمل تحت إدارته، أنه صاحب حضور قديم، ويَدٍ طُولَى، على كثيرين، وإن لم يمدَحهُ من الصحافيين، حين رُشِّحَ لإدارة جريدةِ (الحياة) بالسعودية، سوى الأستاذ تركي الناصر السديري، الصحافي الرياضي، والقاص المثقف، عندَ الأمير خالد بن سلطان، ناشرُ الجريدة، الذي كان يستطلعُ آراءَ أهل المهنة، في الرجلِ الذي سَيُولِيهِ مهمة تطوير الجريدة، وسيختاره عضواً في مجلس إدارتِها، لأكثر من عقدٍ من الزمان.

حِمَمٌ بُركَانِيَةٌ.. تحمي فريقها !

السَجَيّة التي عَرَفتُها، ولا زِلتُ أذكُرُها في الشريان، أَنَهُ من بينِ نَفَرٍ قليلٍ من الرؤساء، إذا ما أخطأ صِحَافيٌ تحت إدارَتِهِ، بتجاوزِ خطٍ أحمرٍ، أو تَسَبَبَ في غَضَبِ جِهَةٍ مسؤولةٍ، ضَرَبَ بَكَفِهِ على صَدْرِهِ، وقال: أنا المسؤولُ الوحيدُ عن الخطأ، لقد مَرّرَتُ المادَةَ المغضوبِ عليها، بوضع اسمِ هذا الصِحافيِّ عَلَيها، وإلا فلا يَتَحَمَلُ وِزرَها غَيرِي!

شَجَاعَةُ داود على الشَاشَةِ، هي شجَاعَتُهُ في الدفاع عن فَرِيقِهِ.

غَضَبُ دَاوُد صَبَاحاً، من مُحَرِرٍ لم يُؤَدِ مَهَمَتُه كما يَجِبُ، لدرجةٍ تجعلُ المحررَ، يَظُنُ أنّهُ في قائمةِ الشريان السوداءَ، لا تمنعُ داودَ من الاستبسالِ، في حمايةِ ذاتِ الصحافي، الذي اجتَهَدَ، فَوَلَغَ في المحذورِ، ولو كانَ ثَمنُ هذا الموقف الشَرَيَانِي... خسارَتُهُ مَنصِبَهُ!

ومن تابع برامج داود، يعرفُ كيفَ يكونُ الشريانُ خَصماً، أو مُحامياً، مُنافِحاً، عن أي قَضِيةٍ، مُدافِعاً عن أيِّ إنسانٍ... يتساوى في ذلكَ صوتُه، في الثانيةِ ظُهراً، وملامِحُهُ، ولِسانُهُ، وقَلبُهُ السعودي، الخالص، المخلص، في الثامنةِ مساءً، أو مع داود، أو في «ما حنا بساكتين»، وإن سكتنا... بعد فترةٍ بسيطة!

رُبَما كانَ الشوكُ، الذي يَحفُ طَريقَ الشريان الوَعِرِ، سبباً في صناعة صِراعِ الأُستاذِ، من أَجلِ الصعودِ والنجاحِ.

15 أغسطس (آب) 1954، كانَ موعِدَ قُدومِ موهبةٍ فريدةٍ، يومَ وُلِدَ داود الشريان، في مستشفى الشميسي بالرياض، لأبٍ جَمَّالٍ، يُساعِدُ والِدَهُ (جَدُّ داودَ)...

قد تُصيبُ الأقدارُ الجِمال بآفةٍ قاتلة، لكن الآفة أصابت الأسرة كلها، بوفاة الجدِّ، إذ شكلت كسراً للعائلةِ، ونُقطَةَ تَحَوُلٍ في تاريخها.

وإن تَعْجَب، فَعَجَبٌ أن العقيلاتَ، يَفتَخِرُونَ بِكسرَاتِهِم في التجارةِ (خسارةُ التاجر كل ما يَملِكُ، حتى الإفلاسَ، أو ما دونَهُ)، بل ويُؤرِّخُونَ بِهَا، فلا شَيء يصْنَعُ التَمَيُّزَ مِثلها، كما يقولون!

إثر وفاة الجَدّ، اضطُرَّ والِدُ داود أن ينتقل من بُريدةَ إلى الرياض، بَحَثاً عن وَظِيفة، فَعَمِلَ حارسَ مستودعٍ للبلدية، وتَجاوز أزمةَ العائلةِ بهذه الوظيفة، لكن الوالدَ فارقَ الحياة في طفولةِ داود المبكرة، وضُرِبِت الأسرةُ في مقتلٍ مُجَدَدًا.

وعلى عادة معظم العوائل النجدية، تزوج عمّه بوالدته، فعاش مع إخوانه، وأخواته، وأبناء عمه، ووالدته، وزوجَة عَمّهِ، تحت سقفِ بيتٍ مُتآلفٍ، يَقتاتُ على البساطَةِ، وينتعشُ طِيبَةً.

عَوّضَ داود غياب أبيهِ، بالتصاقِه بجَدّتِهِ، السيدة حصة المسفر، رحمها الله، وكانت سيدة ذات رأي مُحَتَرمٍ، ومَكَانةٍ مُقدَرةٍ، في مجتمعها، عند كل من يعرفها، لا في عائلتها فقط. صَنَعَ قُرْبُ الفَتى الصَغِير، من الجَدّةِ الحَكِيمةِ، قَوِيَة الشَخصِيَةِ، مَصدَرَ إلهامٍ، وتأَثُر،ٍ بِصِفَاتِها من جهةٍ، وسبَبَ سعادةٍ، وبَهجةٍ، تُعَوِّض ُشيئاً من مرارةِ اليُتْمِ.

يتحدَثُ الشريانُ، عن جَدّتِه كالعُشاقِ، شارِحاً كيف كان «يَمْرَخُ»، أيَ يَدهَنُ، ظَهرَهَا، بالقُرُنفُلِ المْطحُونِ، مُهدِئاً من آلامِها، علها تفوزُ بنومٍ هانئٍ، لا يُنَغِصُهُ وَخْزٌ.

هذا الجَو العائلي الحميمي، منحَ داود عاطفةً جيّاشةً، ومحبةَ عائِلتِهِ وأولادِهِ، فالحياةُ المُرهَقة، بأكلافِها الباهِظَة، تَجعلُ رُؤيَةَ الإنسانِ أَصفَى وأنقى، وأزعُمُ أن لدى داودَ، عاطفةً، وطيبةً، تَخْفَى على غَيْرِ المُتَبَصِرِ، وكثيرًا ما تجلت ببرامِجِهِ التليفزيونية، فمرةً يُقَبِّلُ رأسَ مواطنٍ، وتارةً يَجمَعُ أُماً بابنها الذي لم تَرَه، وثالثةً يُنَافِحُ عن العاطِلين. ولا يَغُرَنَك، ارتِفاع صَوْتِهِ في نقاشِ ضيفٍ ما، فدمعَتُهُ قريبةٌ، لا تَستأذِن أحداً لتهطلَ، تأثُراً بِموقِفٍ إنسانيٍ، أو رحمةً ورأفةً لضعيف!

تَخَرجَ داود من جامعة الملك سعود، قسم الصحافة، في 1977، ووافق موجَةَ ابتعاث الحكومة السعودية أبناءها للدراسة في الخارج، وبخاصة إلى الولايات المتحدة، فلم يَبْقَ من مجايليهِ، من لم يُبتعَث، فحصلَ على بِعثَةٍ، من إحدى المؤسساتِ العسكرية (المصانع الحربية بالخرج)، وربما لو أكملَ المشوار، عاد برتبةٍ عسكريةٍ، ولانصَرَفَ الضَبطُ من الشاشةِ إلى الميدان!

الدكتور عبدالله المدني، الذي أَرَّخَ لداود، ضمن كتاباتٍ ثَرِيّةٍ، لسيَرِ عَشرَاتِ النُّخَبِ الخليجيةِ، يقولُ عن هذه المرحلة: «سَافَرَ الشريان بالفعل إلى «أوكلاهوما سيتي» بعدما أقنع وَالِدَته المُعارِضَة لفِكرةِ تَغَرُبِهِ، بعيداً عن الأهل والوطن، لَكِنَ إقامَتَهُ هناك لم تَطُل، حيث أقنع المُشرِفَ على الطلبةِ السعوديينَ المُبتعثين: عبدالعزيز المنقور، بأَنَّهُ لا يَصْلُحُ للحياةِ العَسكَرِيّةِ، وأن طُموحَاتِهِ، هي دراسَةُ المَسْرَحِ، وأنَّ دافِعَهُ للقدومِ إلى أَمريكا هو الالتقاءُ بأصدقائِهِ في الثانويةِ فَحسب».

اختار صاحبنا، الاهتمامَ بـ«الآدابِ»، ولم يَكسِر رغبةَ والدَتهُ في البقاءِ بِجوارها، فعادَ إلى السعوديةِ، ولم يُكمِل مشروعَ الابتعاثِ، غيرَ أنّهُ بَعد قُرَابَةِ عِقدينِ، وفي مُنتَصفِ الثمانيناتِ، سافر إلى الولايات المتحدة، ودرسَ فيها اللغةَ الإنجليزية، والصِحافَةَ.

المسرح.. الذي يجلبه للصحافة!

منذ دراسته الجامعية، انفتحَ الشريانُ على مجالٍ رحبٍ، إذ دَخَلَ بِقَدمَيهِ إلى الآدابِ، والمسرحِ، والصِحَافةِ، فمنَحَهُ التشعُبُ سَعَة الأُفُقِ، والقُدرَةَ على التَمحِيصِ. وَجَدَ نفسه في المسرحِ، فتدرب على يدِ المسرحي المصري محمد رشدي سلام.

ولا أُبَالِغُ إذا قُلتُ: إنّ دَاودَ حَمَلَ المسرحَ معه حيث ذهبَ، فَمَوهِبَتهُ الفِطرِيَةُ، وهوايته المسرحية، جَعَلتا داود الثامنة مَحَطَ أنظارِ ملايين المشاهدين.

أمّا لهجَته، العاميةُ، المحببة، فيدافع عنها، قائلاً: «لا أحدَ يُنكِرُ على الشامِيِ لسانَهُ إذا ظَهَرَ على الشاشَةِ، ولا على المِصري؛ لكِنكُم تستَغرِبُون أن يَتَكَلَمَ سعوديٌ مع سعوديٍ، أو خليجيٌ مع خليجيٍ، بلسانِهِ، وهما يناقشانِ شأناً داخلياً، قد لا يَخُصُ غَيرَهُم.

ثوبه ذو ياقة وحيدةُ الزِرِ، عِقَالُهُ المائل عمداً، وَصَوتُهُ، الذي تُقسِمُ مرتين أنَكَ سَمِعْتَهُ في مَجْلِسِ بَيتِكُم، أو في حِوارِ مقهى بين شوطي مباراة الهلال والنصر... كل ذلك صَنَعَ كيمياءَ نجاحِ داود التلفزيوني، وشعبيته الجارفة.

يَعتَقِدُ البَعَضُ أنَ داود انفَجَرَ نجماً، ظُهرَ الثانِيِةِ، وبعدَ الثامِنةِ مساء، ويغفلُ هؤلاء أو يتغافلون أن داود مُشاغِبٌ قَديمٌ، وتَقدُمِيٌ عتيق.

ولا أَدَلَ على تقدميته من سُخرِيَتهِ الدائمة من مِقَصِ الرقيبِ وشَخصِهِ، بل إنَ طلَبَهُ الوحيدَ، حينَ استدعاهُ الأميرُ سلطان بن عبدالعزيز، رحمه الله، يختصرُ قَنَاعاتَ داود، إذ قال للأمير: «نرجوكَ يا سمو الأمير، أن تَرفَعوا الرقَابَةَ عن صحيفة (الحياة)، فجريدة (السياسية) الكويتية، التي يملكها زميلنا أحمد الجار الله، تُطبَعُ في السعودية، دون رقابة، فمن باب أولى أن تكون (الحياة) مثلها». في اليوم التالي، صدر أمر من الملك فهد، رحمه الله، بما تمناه الشريان على الأمير سلطان، ورُفعت الرقابة عن (الحياة).

لم يُفَكِر الشريان في بداياتِهِ، في العمل الصحافي، فقد شُغِفَ وشُغِلَ بالمسرح، وأضاف لهُ التمثيل. يقول داود، محاضراً في إثنينية عبدالمقصود خوجة: «في المرحلة المتوسطة تعرفتُ إلى الأستاذ محمد الطويع، وكانَ وقتها أستاذاً للتربيةِ الفنية، هاوياً للفنِ، وقبلَ أن يُسافِرَ إلى أمريكا أسندَ لي بطولةَ مسرحيةٍ كوميدية، نالتِ المركزَ الأولَ على مستوى المملكة، نسيتُ اسم المسرحيةِ، ولكني ولِعتُ بالمسرحِ، وبدأتُ أبحثُ عن تعويضٍ لفقدان العمل، فقلتُ إنَّ الكتابةَ عن الَفن ستُطفِئ الظَمَأ، وقررتُ أن أَخُوضَ تجربة الكِتابةِ عن الدراما. كُنتُ وَقتَها على أبوابِ الجامعةِ، وكانَ أولُ مقالٍ أكتُبُهُ، في (رسالة الجامعة)، عن مسلسلٍ تليفزيوني»، يضيف داود: «وفي الصحافة المحترفة، كانَ أول مقالٍ لي في جريدة (الجزيرة) بعنوان: «من هو البطل»، يُنَاقِشُ الفَرقَ بينَ الفِكرةِ والبَطَلِ، في العملِ الدِرَامِي. في الجامِعَةِ، وَجَدْتُ المَسْرَحَ مُجَدَدًا، فقرأتُ مسرحياتٍ عالميةٍ، وبخاصةٍ المسرح الرُوسِيّ، وأُعجِبْتُ بالتجرُبةِ الكويتية».

يواصل حديثه: «كنتُ أسافر يومين لحضور مسرحياتٍ في القاهرة والكويت. في الجامعة فتَح لي المسؤولُ، عن مسرح جامعة الملك سعود، أنا والراحِل، بكر الشِدي، وزُملاء مثلَ محمد الطاهر، ومحمد جَنّه، ومَعتوق العامودي، وصالح الزاير، وناصِر القصبي وآخرين، وصَنَعَ منا فرقةً مسرحيةً عظيمة. في القاهرة أتيح لي لعب دور بطولةِ مسرحية (سوق الحمير)، لتوفيق الحكيم، وعلى خشبة مسرح محمد فريد، شعرتُ تِلكَ الليلة بأنني على أبوابِ الاحترافِ، أقِفُ على عَتَبَةِ مسرحٍ وَقَفَ عليها عُظَمَاءُ المَسرح المِصري، فَتَحوّل الوَلَعُ إلى إصرارٍ على إكمالِ المَسِيْرة، لَكِن الأمَلَ تَبَدَدَ ساعةَ لاح. شَعَرتُ أَن الإصرارَ على المسرحِ في ذلك الوقت، سيجعلُ مِني شَهيداً، وأنا لا أحبُ الاستشهاد المَجَانِي. قَرَرَتُ أنَ أتنازَلَ عن رُتبَةٍ، وأَبْقَى في ثكَنَةِ الفَنّ؛ قَرَرَتُ أن أشْتَغِلَ في النَقْدِ المَسرَحِيّ، ودَخلتُ الصحَافَةَ من هذا البابِ، فَوَجْدتُ مُعْظَمَ نُجُوم الصِحَافةِ السُعودِيَة قادِمِيْنَ من المُدَرجَات، وأنا قادِم من خَشَبَةِ مَسْرَحِي»!.

لقاءٌ.. وطريقٌ للصحافة

بعد التخرج، كانت مرحلة من أخصب مراحل العمل المهني لداود في 1977 إذ التحق بمجلة (اليمامة)، التي كانت في تلك المرحلة تَعُجُ بطاقات شابة تمتلئ حماسة وإبداعاً، وتقدم عملاً صحافياً مميزاً. تدرج الشريان فعمل سكرتير تحرير، ثم مديراً للتحرير، وفي فترات كان يقوم بأدوار رئيس التحرير.

بينَ المسرحِ والصِحَافة، جِسْرُ عبُورٍ... داودُ المأخوذ بخَشَبَةِ المسرحِ، بالآداب والروايات، بالأبطالِ المَصنوعِينَ بِعنايةٍ، في نَص أديبٍ، لم يكن بذلك خارجَ الجَوِّ الصِحافِيّ، إذ بَقِيَ مَشغولاً بالمسرح، ولَجَ الصحافة بهدف التخصص، في النقد الفني، لكن الصحافة ببريق بلاط صاحبة الجلالة، يسرق المنتمين إليها دون أن يُحسوا.

كان هناك لقاء فاصل في حياته. يقولُ الأستاذ الشريان: «عام 1980، التقيتُ مُديرِ مَنطِقَةِ الشرق الأوسط في وكالة (أسوشييتد بريس)، في أحد مؤتمرات القمة، وطلب مني أن أعمل مُراسلاً للوكالة بالمملكة، فقلت له: إن المسألة تحتاج إلى رخصة رسمية. لاحقاً، ساعدني، الراحل الدكتور محمد عبده يماني، (وزير الإعلام حينها)، أبلغني بالموافقة، وقال لي، رحمه الله: أَنتَ أولُ صِحَافِي سعوديٍ يَعْمُل مُراسِلاً مُرَخَّصًاً، لوكالة أنباءٍ أجنبية».

من المسرح.. إلى مجلة الدعوة!

يتحدث الأستاذ داود، عبر برنامج (في الصميم)، مع الزميل عبدالله المديفر، مشيرًا إلى أن الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي، طلب لقاء الشريان، فزاره الأخير في مكتبه، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، سأل التركيُ الشريانَ عن ملاحظاته على (مجلة الدعوة)؟ فرد داود: «يا شيخ المجلة تريد لها أحد ينفضها، صِحَافي، لا يقبل شهادته الشافعي»! سمع التركي نصيحة داود، وسَكَت، ولم يعلم الشريان إلا وقد اختير ليكون رئيساً لتحرير مجلة (الدعوة)، ومديرًا عامًا للمؤسسة.

أجواء جديدة في الصحافة الدعوية، يقول: «أول ما عُيِّنتُ وزعتُ في المبنى (طفايات)»، أي منافض سجائر، قالها مبتسماً، بقصد المزاح، ليبين الفارق بين الصحافة العادية، والمجلات التي يقع على عاتقها ممارسة وقارٍ، لا يليق بالصحافة!

من الفنون والآداب والمسرح، من شارع محمد علي، وأجواء العوالم، إلى رئاسة تحرير مجلةٍ إسلامية، هي مجلة (الدعوة)، التي يشرف عليها المشايخ في السعودية. (الدعوة) جاءها الشريان، وهي لم تنشر في تاريخها، الذي يقارب عمر رئيس تحريرها، صورةً قط، وخرج منها وقد أحدث فيها خضة صحافية، فأنطق الجماد، وملأ المجلة بالصحافة الحقيقية، لكن منهجه الثوري في التغيير لم يقنع كثيرين من ملاكها!

يعتبر داود ما حدث أمرًا شبيهًا بالمسرح العبثي، أو الكوميديا السوداء. تجربة (الدعوة) استمرت بضعة أشهر، وانتهت بخلافٍ علني، بين الشريان، وملاك الأسهم في المؤسسة من علماء المؤسسة الدينية في السعودية.

كبريت الصحافة

في 10 أبريل 2004، أجرى الزميل الراحل عمر المضواحي، رحمه الله، حواراً مع الأستاذ داود الشريان في جريدة «الشرق الأوسط»، كتب في مقدمته، بحرفنة، لا يتقنها غير عمر: «يصفه المقربون بأنه كبريت الصحافة السعودية. يشتعل لحظة أن يتجرأ، أحد ما، على مس حدودها المقدسة. هو في أعين جيل المخضرمين «الابن الضال»، وعند الشباب كان الـ«شريان»، الذي يضخ بلازما الحياة في جسد الصحافة العليل. عندما خرج قطار هيئة الصحافيين السعوديين عن مساره الصحيح إثر تداعيات التأجيل الأول في يناير (كانون الثاني) الماضي، وبروز هيمنة «المحاربين القدماء» عليها، هاج وماج، وحمل أعواد الثقاب ليلقيها من دون أن يرف له طرف في عربات القطار، كان يبدو في أوج خيلائه وهو يردد غطاريف غضبته مبشرا بالانتصار. لم يجرؤ أحد على تقليده.. ومن يفعل كان يدرك أنه يسوق نفسه إلى عملية انتحارية. اليوم تغير الحال.. قرر الكبريت «داود الشريان» أن يتخلص من شهوة النار. خلع ملابس الحرب وتسربل فجأة بقلنسوة رجل المطافئ! بين النار والرماد.. كان ثمة مكان للسؤال والجواب. ليست محاكمة للمواقف، بل هي محاولة لفهم «تذكرة داود» عندما قرر أن يمس الهواء خليط الماء بالكبريت».

الشريان.. وهيئة الإذاعة والتلفزيون

في 2018 انتقل الشريان لهيئة الإذاعة والتلفزيون رئيساً تنفيذياً لها، وبعد أربعة أشهر من توليه منصبه أطلق قناة sbc، في تحدٍ مع الزمن، فمن المستحيل إطلاق قناة فضائية جديدة، خلال 120 يوماً، لكن الشريان كسب الرهان، وجعل من القناة الوليدة وجهة تلفزيونية منافسة لكبرى القنوات، ببرامجها ومسلسلاتها التي حققت للقناة نسب مشاهدات منافسة!

يقول أحد الذين عملوا مع داود في تلك الفترة: «لم يتوقف عمل الشريان على إطلاق قناة تلفزيونية فقط، بل رفع مداخيل القنوات التي يديرها، لتبلغ 150 مليون ريال في العام الواحد، بعد أن كانت قبل قدومه لا تتجاوز 500 ألف ريال»!

مرحلة داود في الهيئة، يختلف عليها الناس، فأنصاره يسوقون أدلة تميزه، وخصومه يقولون إنه دفع مبالغ هائلة لمسلسلات لا تستحق هذه الأثمان.

يقول أحد مناصريه: «واكبت رحلة الشريان في هيئة الإذاعة والتلفزيون رؤية المملكة 2030 في مجال تمكين المرأة السعودية، بإيصالها إلى المناصب القيادية، وإتاحة الفرصة أمام المبدعات والمثقفات والمميزات منهن للمشاركة في النهضة والبناء، فقد تولت السعوديات مناصب قيادية بالهيئة للمرة الأولى.: خذ مثلاً مساعدة الرئيس التنفيذي للمساندة، والمدير التنفيذي للشؤون التجارية، ومدير شراء البرامج، كلهن سيدات سعوديات. كما أن داود منح الشباب السعودي فرصة البروز في القنوات السعودية». يضيف: تحريرياً، أوقف الشريان الإسهاب في نشرة الأخبار، وألغى القنوات التي كانت تشكل خسائر للتلفزيون دون أن يكون لها مشاهدون، وخلق برنامجا للمواهب السعودية، على غرار البرامج العالمية، وحمى التلفزيون من تدخلات الجهات الحكومية، وفرض موادها دون اعتبار لرأي المشاهد، وانتزع حقوق الإعلان من الجهات الحكومية التي كانت تنشر إعلاناتها مجاناً، ليحصل التلفزيون قيمة الإعلانات نقداً».

عاد داود الشريان للبرامج، عبر شاسة sbc، ببرنامج «داود الشريان»، الذي أحدث ضجة كبيرة في أول حلقاته، وكان حديث الإعلام في الداخل والخارج، عقب إيقاف حلقاته عدة أيام.

إن استكثر البعض على الأستاذ داود هذا القبول الطاغي لدى المتلقي، ابتداء من العمود الصحفي مروراً بالمذياع، وصولاً الى ثامنته العجيبة، فبرنامجه في sbc، فمرد ذلك في تحليلي المتواضع أن داود ورث النصف الجميل من كل شيء، ثم أضاف أسلوبه الذي كان تذكرة العبور للملايين...

ورث ثقة رجال العقيلات، وصوت الجِمَالِ، الذي لا يُجامل حين يرى المظلوم أياً كان.

انحاز لمشاكل الناس اليومية، أرزاقهم. كان الأب الذي يحمل ملفاً أخضر، عن جموع العاطلين، والوالد الحنون، الذي يعطي الثقة لابنته، ويطلب من المتشددين أن يسمحوا لنصف المجتمع بأن يخرج بسيارته ليشتري الخبز والحليب.

حين يعتذر مسؤول خوفاً من بطشٍ شريانيٍ، هو في نظر داود -أضعف الإيمان- كان يترك مقعده فارغاً، إمعاناً في كمال الغياب والتغيب وثبوت تهمة التقصير.

الصحافي الذي دَرّسَ الصحافة، في جامعة الإمام، ومعهد الإدارة، يجيد الإجابات الدبلوماسية، فهو القائل: «لست معلماً ولا حلالاً للمشاكل»، رغم أنه حلال المشاكل القديم، الرجل الذي لسبع سنين لم يترك موظفاً في إدارته يواجه العتب أو الشكوى وحيداً، داود الذي تعرفونه أيها الناس، هو داود الذي نعرفه في الإعلام، رجل لا يحسن التخشب ولا التصنع، مسرحي بالفطرة، صحافي يهوى النبش، حتى يجد الحكاية، قدير يعرف قيمته جيداً، فهو الوحيد الذي كان يشرف على صحيفة مرموقة بينما يكتب في صحيفة منافسة، وحين سأله الأمير خالد بن سلطان عن ذلك، أجاب بلسان الواثق من بضاعته: «لم يطلبني أحد للكتابة في الحياة يا سمو الأمير، في هذه المهنة -الصحافة- يطلبني الآخرون ولا أفرض نفسي على أحد»، تلك هي ثقة حفيد الجَمّال. أغبط الثانية ظهرا، والثامنة مساءً، على اسم كالمغناطيس جذب الساعتين، بل احتكرهما، في ذهن المتلقي، حتى وإن توقف صاحبهما في استراحة محارب!

turkialdakhil@
00:44 | 19-12-2019

الأمن أم الحرية؟

طرح أحد الدعاة سؤالاً لمتابعيه يسألهم عن الأولوية: للأمن، أم للحرية؟،
طريقة السؤال وصياغته خاطئة، ذلك أن الحرية والأمن لا يأتيان على سبيل التخيير أو التناقض، لأن الأمن مفهوم يحمل في جوفه شكلا من أشكال الحرية. بالأمن يتمكن الإنسان من الحركة، والسعي في الأرض، والحديث، وإجراء النقاشات والتعبير عن الرأي.
هناك شغف للرجوع إلى سنوات الثورات العربية، حيث الغليان، والذهاب نحو الجنون من أجل التغيير السياسي، والخروج على الأنظمة، لكن الناس أصبحت أكثر وعياً، بدليل الردود التي ذيلت أدنى التغريدة، ومن ثم انصياع الداعية إلى صوت الناس الراغب بالأمن والاستقرار بعيداً عن أحلام التغيير الجنونية، التي تجر الكوارث على المجتمعات حتى الآن!
وتنزلاً عند صيغة السؤال، فإن الأمن أهم من الحرية، بالأمن تتحقق مقاصد الشريعة، حفظ النفس، والعقل، والمال، والدين، والنسل، بالحرية وحدها تنتهك الأعراض، وتستباح الحرمات، وتزهق الأرواح، وتسفك الدماء، وتعم الفوضى، كما يجري في دول عديدة بالمنطقة.
ثم إن مفهوم الحرية نفسه يتعدد من مزاج إلى آخر، قد يراه البعض مثل المغرد، في تحقق الخلافة، والآخر بالعودة إلى أسس تنظيم القاعدة، وثالث يرى الحرية في أبي بكر البغدادي.
الأمن أهم من الحرية... نعم، إن كان السؤال يريد جواباً مباشراً حاسماً.
21:16 | 2-10-2016