أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/1781.jpg&w=220&q=100&f=webp

عبد الرحمن الشقير

الخطة أن نبقى أحياء بين المؤسسين عبدالرحمن الداخل ومحمد بن سعود

يسلط المقال الضوء على مفهوم القيادة تحت الضغط القاتل، وكيفية تحويل الأزمات إلى فرص، بالمقارنة بين الأميرين المؤسسين عبدالرحمن الداخل ومحمد بن سعود، فالمقارنة بين شخصيات من أزمنة مختلفة وأماكن متباعدة تضيف بعدًا جديدًا لفهم التاريخ السياسي والاجتماعي.

شهدت الدولة الأموية في الشام تفككًا كبيرًا في آخر عهدها وكان الأمراء متوجّسين من هجوم العلويين، فجاءهم الهجوم المباغت من العباسيين، فقتلوا الموجود منهم، وطاردوا الشريد.

وكان من بين الفارين الأمير عبدالرحمن الداخل الملقب صقر قريش (113- 172هـ/‏‏ 731- 788م) ومعه خادمه، فقال خادمه بعد النجاة من المذابح: «قد سمعتك يا سيدي تقول لأهل بيتك: العزيمة الآن أن نبقى أحياء»، والعزيمة تعني الخطة.

والحقيقة أن هذه الكلمة الخالدة لم ترد في كتب التاريخ رغم بحثي الطويل عنها، ولكنها وردت في مسلسل «صقر قريش» (الحلقة 11) المأخوذ من رواية «النار والعنقاء» (ج 2 ص 8) لوليد سيف، وهي كلمة متخيلة، ولكنها تندرج ضمن الخيال الأدبي الفاخر، الذي لا يُلهم بها إلا من دخل في مخ الأحداث وتعمّق في نفسية عبدالرحمن الداخل في اللحظة التي امتلأ شعوره بها، فهي لسان حال جديرة أن يبنى عليها قصة.

وانتهت به عزيمته إلى تأسيس دولة أموية قوية في الأندلس التي دخلها أميرًا دون قتال، بسمعته وقوة شخصيته التي سبقته، فلقب بالداخل، وسرعان ما عقد تحالفات مع قبائل العرب والبربر، وجدد وهج قرطبة حتى ارتبط تاريخها الحديث بسيرته، واستمرت دولة الأندلس ثلاثة قرون (138- 422هـ/‏‏ 756- 1031م).

هذه القصة الموجزة استوقفت المؤرخين والمستشرقين وكتبوا عنها الكثير، واستوقفت المخرجين، فأنتجوا حولها مسلسلات وأفلاماً سينمائية، بينما استوقفت كلمة «الخطة أن نبقى أحياء» مدربي تطوير الذات، وأقاموا حولها الدورات، حتى أصبح تأسيس دولة الأمويين في الأندلس ثقافة عامة ومعلومات يعرفها الإنسان العادي ويستمتع بها ويستلهم تطوير شخصيته من أحداثها.

وسير القادة وتعاملهم مع تحويل الأزمات إلى فرص تتكرر عبر الزمان، ولكنه تكرار يحمل معه ثيمات أساسية كان لها تأثير في تغيير التاريخ، وليس محاكاة تفصيلية، وأجد هذه الثيمات تتشابه بين الأميرين عبدالرحمن الداخل ومحمد بن سعود (توفي عام 1179هـ/‏‏ 1765م).

داخل الدرعيةكنت أقرأ قصة تولي الإمام محمد بن سعود في التاريخ السعودي، ولكنها تمر مرور الكرام، ولا تكاد تتجاوز النص التالي: «فرجع الأمير محمد بن سعود ومن معه إلى الدرعية أميرًا عليها»، فكان لا بد من تفكيك هذا السطر وتحويله إلى قصة تنال مكانها الطبيعي من تاريخنا المحلي، بل تاريخ العرب الحديث باعتبار ما آلت إليه.

ما بين رجوع الأمير محمد بن سعود إلى الدرعية وتتويجه أميرًا عليها كانت خطته أن يبقى حيًّا فكان تتويجه بمثابة تتويج للخبرة والإيثار والوفاء والشجاعة؛ حيث اجتمع أعيان آل سعود ووجهاء الدرعية وجموع الأهالي لمبايعته بالإجماع ليكون أميرًا على الدرعية عام 1139هـ، وأحسن إدارة الدرعية؛ حيث كثف جهوده لاستقرارها وبناء مؤسساتها الدينية والاقتصادية والعسكرية، ونقل الصراع السياسي إلى خارجها.

النجاة فن القادة

من تفكيك قصة الأميرين عبدالرحمن الداخل ومحمد بن سعود من زاوية فن النجاة والقيادة في ظل الأزمات، يلحظ التالي:

- كلا القائدين ظهرا من بيئة سياسية مضطربة، وكان هروبهما من صراعات طائشة وقتل بالجملة بداية مرحلة إعادة بناء الذات في موقع آمن.

- كلا القائدين واجها تهديدًا حقيقيًا لحياتهما، فالبقاء لا يعني تفادي الموت، فكثير ممن حضر الأحداث تفادى الموت، لكن شخص واحد فقط في كل حادثة كانت عينه على تحويل لحظة النجاة إلى تأسيس نقطة انطلاق جديدة.

- كلا القائدين أحسن الاستثمار في الفراغ السياسي؛ حيث كانت الأندلس تعاني من الفوضى، كما كانت الدرعية تعاني من الفوضى، فكان المشروع التنموي السياسي الذي بدأ من نقطة الإمارة وتوسع إلى دولة عالمية.

- أسّس عبدالرحمن الداخل دولة أموية جديدة في الأندلس، غيّرت وجه أوروبا، بينما وضع محمد بن سعود الأساس للدولة السعودية الأولى التي غيّرت وجه الجزيرة العربية.

- قدرة القائدين على التركيز على مصالح الدولة العليا، وتجاوز التجارب الأليمة وعدم تشتيت الوقت والجهد في الانتقام رغم فداحة الغدر والقرب الزمني، فكانت سياسة القائدين بناء الداخل وتقويته والتوسع المنضبط.

- دخل عبدالرحمن الداخل الأندلس بسمعته التي سبقته، ودخل محمد بن سعود الدرعية بسمعته التي سبقته، والقادة قادرون على صنع الهالة حول شخصياتهم والاستثمار فيها مدى العمر، وليست مواقف عابرة ومتغيرة، مما يتطلب منهم انضباطًا نفسيًا وعاطفيًا كبيرين.

- خرج عبدالرحمن الداخل من الشام ومحمد بن سعود من العيينة وهما مثقلان بدروس قاسية عن فن النجاة.

- كلا القائدين أظهرا شجاعة استثنائية تحت الضغط المميت؛ حيث تحولت حياة كل منهما إلى قادة دول بعد النجاة.

- أعاد عبدالرحمن الداخل نهضة قرطبة، وبنى فيها الجامع الكبير، وشجع على استيطانها حتى اكتظت سكانيًا، ووسع محمد بن سعود حي الطريف، وجعله العاصمة السياسية، وبنى الجامع الكبير، وشجع على استقطاب السكان لها.

- آمن القائدان بفطرتهما القيادية بضرورة الاقتصاد كأداة للسيطرة، فنشطت الزراعة والتجارة في بلديهما، وكانت أساس بناء الدولة القوية.

فالبقاء على قيد الحياة باعتبارها غاية إنسانية تعتبر مسألة وجودية، خاصة إذا كان الموت أحد الخيارات المطروحة؛ حيث يكون الوجود له الأولوية، ثم تأتي بعد ذلك القرارات، ويظهر ذلك في فلسفة نيتشه الذي يرى فيها أن إرادة القوة هي الدافع للنجاة والنجاح.

تحويل المستحيل إلى ممكن: صناعة التحالفات

عرف عبدالرحمن الداخل أهمية التحالفات، فحشد القبائل العربية والبربرية في الأندلس لكسب الشرعية، وهذا اللغز يكمن في تحويل المستحيل إلى ممكن بالتحالفات، ولا يدرك عمقه إلا من مرَّ بظروف عبدالرحمن الداخل، ولكنها بقيت في نفس محمد بن سعود ثمانية عشر عامًا حتى حانت الفرصة وعزز حضور المؤسسة الدينية في المجتمع باعتبارها أحد العصبيات القادرة على إيجاد مجتمع متجانس ودولة قوية، بحسب نظرية ابن خلدون.

وأثبتت مرارة القصتين لكلا القائدين أن الشرعية لا تكتسب بالنسب إلى بيت إمارة فقط، بل لا بد من توحيد القبائل حول فكرة متماسكة ومصلحة مشتركة.

فالتحالف عند القائدين هو مشروع إعادة تشكيل الخارطة السياسية وفقًا لاحتياجات المرحلة، فكان تحالف محمد بن سعود الديني عبارة عن «عقد اجتماعي» جديد أعاد تعريف مفهوم العلاقة بين السلطة والمجتمع بشكل لم يألفه أفراد المجتمع من قبل.

والتحالف طويل المدى وسيلة للبقاء في عين القائد الذي مرّ بتجربة الاقتراب من الموت، وهو أداة قوة في عين القائد العادي. وقرأ الإمام محمد بن سعود القائد الصموت مخاوف القبائل والبلدان، ولم يستعجل الفرصة عندما لم يجدها، بل انتظر حتى نضجت الظروف المحلية، ورأى تقوية المؤسسة الدينية.

كان التحالف بين تجربة الأندلس وتجربة نجد يعبّر عن ثنائية العقل المتمثل في استراتيجية البقاء، والعاطفة المتمثلة في الثقة المتبادلة.

ختام

المقارنة بين قائدين لا يجمع بينهما زمان ولا مكان، يعطي نتائج قوية أكثر من المقارنات المتشابهة، وأجريت هذه المقارنة لاستنطاق روح القيادة التي تظهر تحت الضغط القاتل، فبرزت تشابهات القادة بوضوح، ولو لم يتعرض عبدالرحمن الداخل ومحمد بن سعود لمواقف شديدة، لما رأينا الإبداع في إرادة القوة.

وتحليل السير الذاتية لقادة آل سعود بفكر استراتيجي وفلسفي والنفاذ على أعماق النفس البشرية أثناء الأحداث وفهم ما يدور بداخل القائد من خيارات واسعة، وتفكيك خياراته الخاصة، سيضعها في سياق تاريخي سليم، بينما دراستها بأسلوب تقليدي يعتمد على حشد النصوص سيلحق الضرر المعنوي، ويقلل من متعة التاريخ، ويحجب الكثير من الحقائق دون قصد، ويفسد عظمة الوثائق.

وسبق لي كتابة مقالة مقارنة بين الإمام عبدالعزيز بن محمد وإيفان الرهيب «الجيوبوليتيك بين نجد وروسيا»، وأجد في الاستمرار في التجربة مجالًا لفتح آفاق بحثية وأدبية وفنية جديدة تأخرت كثيرًا.

ومن المقارنة التاريخية بين المؤسس وابنه، يتضح أن الدولة السعودية تجدد ذاتها بالقادة عبر ثلاثة قرون، ويجد قادتها الفرص في الأزمات، ويهدفون للمصالح العليا للدولة في المواقف السياسية.
00:21 | 22-02-2025

الشر الممنهج في السجون السورية

تعتبر السجون أداة إصلاح وعقوبة من خلال سلب الحرية المؤقتة، وهي مؤسسة ضبط اجتماعي محكومة بإنفاذ القانون.

ولكن الظروف السياسية في بعض الأنظمة الديكتاتورية أدّت إلى تحويل السجن إلى مصانع للقمع وصناعة جلادين حاقدين على المجتمع، وتحول مجتمع السجون فيها إلى عالم جريمة مظلم بغطاء مؤسسي.

وقد خطفت السجون السورية الأضواء العربية والعالمية رغم وقوع أحداث سياسية أكثر شراسة منها مثل سقوط دمشق وانهيار النظام، وأصبحت حديث الشارع العربي والعالمي، رغم أن أكثرهم لم يسمع بها من قبل.

أدب السجون السورية: لغة الألم

كان سجن الأدباء والسياسيين نافذة واقعية وتجربة عميقة لفهم المآسي الإنسانية في السجون، وتعتبر تجربة أثنوغرافية؛ لأنها كتبت بالملاحظة وخوض التجربة من الداخل، وهي الحالة النادرة التي لا يستطيع المعذبون شرحها، ولا يقدر السجانون على كتابتها.

بدأ أدب السجون السورية في الثلاثينيات مع كتاب يوميات محمد عزة دَرْوَزَة، بعدما سجنه الاستعمار «الانتداب» الفرنسي، وأتيحت له فرصة تفسير القرآن في السجن.

وفي حقبة الستينيات دخل أدب السجون مرحلة جديدة مع حزب البعث، عندما أسّس حافظ الأسد سجنين، أحدهما سجن المزة السياسي وملأه برفاق دربه في الثورة، والثاني سجن تدمر (1966)، وهو مخصص لخصومه، واشتهر بمجزرة يونيو 1980. والمرحلة الثالثة جاءت بعد تخصيص سجن صيدنايا لقمع الثورة وتحويله إلى «مسلخ بشري» بحسب تقرير «هيومن رايتس ووتش» و«منظمة العفو الدولية» تقرير عن سجن صيدنايا.

كشفت روايات السجناء في سوريا ومقابلات المفرج عنهم وبعض المسلسلات السورية القديمة عن واقع الرعب المؤسسي ومصانع الموت بوجود سجون سيئة السمعة، ولكن لم يتنبه العالم إلا بعد مشاهدة مقاطع مصورة من داخل السجن وسماع قصص السجناء. فتداول العالم أسماء سجون صيدنايا وتدمر وفرع فلسطين كنماذج لأسوأ السجون التي عكرت الصفو الشعبي العام، وعادت بالذاكرة لسجون أبو غريب وغوانتنامو.

وتدور مواضيع روايات أدب السجون السورية حول قضايا الظلم والتعذيب والموت واليأس والأمل والتضامن والخيانة.

فقد كتب الروائي السوري مصطفى خليفة رواية «القوقعة: يوميات متلصص» (2008) وثق فيها تجربته كسجين سياسي لمدة ثلاثة عشر عامًا، بسبب تقرير كتبه عنه أحد زملائه أثناء دراستهم في فرنسا، ولكن الكاتب جعل تهمة البطل في الرواية الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، رغم أنه مسيحي.

وعكس فرج بيرقدار تجربة السجن في كتاب «خيانات اللغة والصمت» (2011). وكتب ياسين الحاج صالح كتاب «بالخلاص يا شباب» (2012) وثق فيها تجربته وتأملاته النفسية في السجون السورية لمدة 16 عامًا.

وأُنتج فيلم «تدمر» الوثائقي عن المعتقلين اللبنانيين في سجن في تدمر، من إخراج مونيكا بورغمان ولقمان سليم. ويعرض فيلم «الصرخة المكبوتة» الوثائقي شهادات معتقلات سوريات تعرضن للتعذيب والاغتصاب في السجون السورية.

وجميع هذا الإنتاج الأدبي يصور مشاهد الرعب الحقيقية، للإسهام في أن تقنع القارئ بحقيقتها، وأنها ليست من خيال أدباء.

وصدر تقارير منظمات حقوقية من أبرزها تقرير «قيصر» الذي يوثق آلاف الصور لضحايا التعذيب في السجون السورية، التي سرّبها مصوّر سابق لدى الشرطة العسكرية السورية عرف بنفسه باسم «قيصر»، وصدر بسببها «قانون قيصر» حول العقوبات الأمريكية على النظام السوري، وبعد سقوط النظام أعلن عن شخصيته الحقيقية، واسمه «أسامة عثمان».

صنع آلات القمع من الجلادين

تعد عملية تحويل الإنسان الطيب إلى متوحش ورؤيته للمساجين كحشرات تستحق التعذيب والموت بلا رحمة، من أعقد العمليات التي تتطلب تأهيلًا نفسيًا ومعنويًا كبيرين وتلاعبا بالمخ والأعصاب لغسل الأدمغة.

ولا يمكن أن تتحقق هذه العمليات إلا بمنظومة إجراءات، من أبرزها تحويل السجين من كائن بشري إلى رقم بسلبه اسمه ومنحه لقب «سجين رقم كذا»، ولا يعرف إلا به حتى يكون هويته، مما يسهل احتقاره وعزل إنسانيته بين السجانين.

وتتم عمليات اختيار الجلادين ممن لديهم استعداد للعنف أو ممن يحملون أحقادًا طائفية ودينية وتاريخية ويدينون لله بالعنف ضد مخالفيهم، والولاء المطلق نحو النظام، والإيمان بامتلاكه حق استخدام العنف والقتل.

ويتم تصيد الذين لديهم استعداد نفسي من الفئات الحاقدة على المجتمع لأسباب التهميش والفقر والبطالة. كما أن إعطاء الجلادين معلومات عن السجناء أنهم خطر وأعداء للوطن وخونة يجعل السجانين يشعرون أنهم حماة للوطن ويقدمون مهمات وطنية لا يقدر عليها كل أحد.

يمر الجلادون بعمليات تدريب طويلة تبدأ بالتأهيل النفسي ثم مشاهدة وسائل التعذيب وممارسة استخداماتها، ثم رؤية التعذيب ثم المشاركة الجزئية فيه وهكذا حتى يكون التعذيب جزءًا من شخصيته، ويتمايز مع الطبقة العليا من الجلادين، ويتنافس على مناصب قيادية تعطي الأوامر بالتعذيب.

وتعتبر تجربة ستانفورد التي تحوّلت إلى نظرية في صناعة الشر النموذج العالمي الأكثر تداولًا، وهي تجربة محاكاة للسجون أجريت في جامعة ستانفورد عام 1971، بتمويل من البحرية الأمريكية بهدف فهم الصراعات داخل السجون؛ فقد اختار الفريق العلمي مجموعة من أبناء الطبقة الوسطى والناس العاديين المتجانسين، ووزعتهم عشوائيًا إلى فئتين هما: سجناء يعرفون بأرقامهم وليس بأسمائهم، واتفقوا معهم على بدء التجربة بعد أيام، ولكن قبل الموعد المحدد تم إلقاء القبض عليهم دون إخبارهم وإلصاق تهم ظالمة، فتوهموا أن هذه قضية مختلفة، مما جعلهم يتعاملون معها بمشاعر حقيقية.

والفئة الأخرى: سجانون لديهم زي موحد ببدل عسكرية وعصي ونظارات سوداء، لتجنّب التواصل البصري مع السجناء، ومنحتهم صلاحيات مطلقة في التعذيب.

انهارت التجربة بعد أيام عندما تحوّل السجانون إلى آلات قمع سادية، وأصيب كثير منهم باضطراب عاطفي، وصدر كتاب «تأثير الشيطان: كيف يتحول الأخيار إلى أشرار» (ترجم إلى العربية 2019) لرئيس الفريق العلمي زيمباردو، وأنتج بناء على التجربة ثلاثة أفلام تحمل عنوان «التجربة» (2001، 2010، 2015).

وفي عام 1967 تساءل علماء الاجتماع والنفس الأمريكيون: هل يمكن أن تعود النازية إلى العالم بعد القضاء عليها وإعلان أوروبا ديموقراطية؟ فأجريت تجارب في مدرسة ثانوية ألمانية، وأوقفت التجربة بعد انفلات الوضع وظهور طلاب لديهم نزعة نازية ورغبة في استخدام العنف والظلم إذا منح الصلاحيات الكاملة، وصدر حولها فيلم «الموجة» من إخراج دينيس غانسل.

وبذلك يمكن أن تتحول السجون إلى منظومة عمل مؤسسي، وينقل الجلادون ذوو الخبرة خبراتهم إلى الجلادين الجدد ويغذونهم بقصص تغرس روح العنف والكراهية ضد السجناء وطمس قيم التعاطف معهم، ثم يتحول الجلاد إلى آلة قمع.

الصدمة العالمية

شكّلت مقاطع الفيديو التي انتشرت عالميًا على منصات التواصل الاجتماعي بعد فتح السجون السورية صدمة دولية لفداحة واقعها، فكانت أول مواجهة مباشرة مع واقع السجون تؤكد شهادات الروايات الأدبية والتقارير، ما سبّب صدمة نفسية شعبية سيطول أمدها.

سوف تلهم القصص الأخيرة لصدور أدب جديد للسجون، وسينما جديدة لتوثيق ما حدث، وإنتاج أفلام بحشد روايات أخرى من شهود عيان؛ وذلك لأن الروايات تدور في سياق أدبي نخبوي، بينما هزت الصور الحية من كاميرات هواتف الناس العالم، وأظهرت تجارب لم تخطر على خيال الأدباء.

كان أعظم إنجاز للسجين أن يحتفظ بسلامة عقله من الجنون، ويتجاوز به حدود التعذيب النفسي والجسدي والظلم. وقد أظهر تصوير المقاطع عن سجناء أصيبوا بالجنون وفقدان الذاكرة والهلوسة، وسجناء لا يعرفون أن حافظ الأسد مات قبل ربع قرن، وسجينة لديها أبناء حملت بهم وولدتهم في السجن لا تعرف آباءهم، ويذكر لي صديق سوري قصة سجين عثر على مرآة، وفجع عندما رأى وجهه لأول مرة بعد 15 عامًا لم يشاهد نفسه، وهاله تغير ملامحه من أثر التعذيب.

ختام

كانت لحظة فتح السجون علامة فارقة في التاريخ، وتجاوزت أحداث الثورة بجميع مآسيها منذ عام 2011؛ لأن أعظم الانتصارات هي التي تعيد كرامة الإنسان، وهزيمة الظلم والقمع، وستكون امتحانًا صعبًا للسوريين يختبر قدرتهم على تجاوز الموقف وبناء مصالحة وطنية جديدة.

وأجدها فرصة لتأكيد الدعوات التي تطالب بتحويل سجن صيدنايا إلى متحف للتذكير بحقبة تاريخية غير مسبوقة ولمنع تكرار التجربة.

وفي ظل هذه اللحظات التاريخية لا يمكن إغفال رصد المزاج السوري العام الذي يعيش حالة امتنان عميق للشعب السعودي الذي فرح لفرحه وأعلن وقوفه الدائم إلى جانبه؛ معبّرًا عن وحدة إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية لتجسد أساسًا لعلاقات شعبية صلبة.

وهذا الانتصار بمثابة بداية رحلة جديدة وطويلة من البناء والإصلاح. يسهم فيها أبناء البلد الواحد في رسم سياسة بلادهم في المرحلة المقبلة، والعمل على عدم تكرار تلك المآسي في تاريخهم، من خلال بناء منظومة من الأنظمة والسياسات الكفيلة بالمحافظة على حقوق الإنسان، والعدالة الإنسانية، وإعادة السجن إلى كونه مكانًا للإصلاح وتعديل السلوك، دون تجاوز الحد في العقوبة والإيذاء.
01:05 | 25-12-2024

المستشار والاستشاري في الدراسات الاجتماعية..!

تتولى مراكز دراسات عالمية ومحلية إجراء الدراسات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والمسوحات التراثية والمشروعات التاريخية عن المجتمع السعودي باستمرار وبكثافة.

ويلحظ بالمقابل أن منهجية طرح تلك الدراسات التي تطلبها الجهات من المراكز العالمية والشركات الاستشارية تتسم بسمتين أساسيتين غالبًا، هما: طرح المشروعات العلمية الصغيرة والمتوسطة مع غياب المشروعات الضخمة، مثل الموسوعات وقواعد البيانات التراثية الضخمة وتأسيس مراكز دراسات قوية، والثاني استبعاد دور المستشار الذي يتولى مهام تحديد الأهداف ويفحص الخطط المنهجية ويوافق على استلام المشروعات.

ويتسبب هذا السلوك الثقافي في تسريع إنجاز الدراسات الكمية، إلا أن كثيرًا منها تبقى بلا عمق، ولا تحقق الاستدامة؛ مما يقلل من فرص الإفادة منها بشكل صحيح.

وما يؤكد على أهمية وجود المستشار أن الأسواق التنموية والثقافية أصبحت في السنوات الأخيرة معقدة قانونيًا وفنيًا وثقافيًا، مما يتطلب التعامل معها بمنهجيات يصعب على الشخص العادي، وكذلك المسؤول الإداري المجتهد أن يعرفها، بل ليس من واجباته أن يعرف كل شيء، بل عليه أن يعرف من يمكن التعامل معه، ويستشيره في من يحقق أهدافه وكيف ينفذ مشاريعه.

ونتج الشعور بضرورة التفريق بينهما من ملاحظات شخصية؛ وذلك لكثرة ما لاحظته من خسائر في المال والجهد والوقت لدى بعض المؤسسات التي اطلعت على نشاطها بسبب اعتقاد بعض المسؤولين فيها بأن الاستعانة بالاستشاري العالمي يؤدي مهام المستشار تلقائيًا. وهذا من الأوهام الإدارية.

في مرحلة سابقة، كلفت إحدى الوزارات شركة عالمية متخصصة في الدراسات بتشخيص الوضع العام لخدمات المراكز الصحية في الأحياء، فأنجزت الشركة دراسة شاملة، ولكنها كانت دراسة عامة ونتائج نظرية مع تقديم توصية دقيقة بدراسة مشكلة محددة. ولو عرضت الدراسة على مستشار متخصص لانتبه للمشكلة المحددة منذ البداية، ولكانت هي ميدان عمل الاستشاري؛ لأنها ظلت موجودة بعد انتهائه من عمله، وكأن دوره مجرد التأكيد على وجودها.

وقلت لأحد الباحثين ضمن فريق الاستشاري في الدراسة: لماذا لم تخبروا الوزارة بما ينبغي عليهم فعله قبل ترسية المشروع عليكم؟ فقال: لو أخبرناهم بكلمة خسرنا ملايين، وهذا عمل مستشارهم، وليس عملنا.

وفي عام 2017 اتصلت بي وزارة الاقتصاد مع مجموعة من علماء الاجتماع السعوديين لعقد اجتماع مطول مع شركة أمريكية متخصصة في الدراسات الاجتماعية والاقتصادية، ثم أعقبها بثلاثة أشهر انعقاد ورشة عمل كبرى، ولاحظنا انعكاس ما تحدثنا به عن ثقافة المجتمع السعودي على منهجية الدراسة وخطتها، فاقترحنا على الوزارة الاتفاق معنا كمستشارين للمشروع لضبط المنهجية وخفض التكاليف؛ ولأن ما قيل في الورشة لا يتجاوز ما ناقشناه في الاجتماع، فلم تقتنع الوزارة بالمقترح، ولا نعرف ماذا بعد.

وما حدث معنا يمثل ظاهرة تتكرر كثيرًا في الوزارات، وتعرض لها الدكتور محمد القنيبط مع وزارة المياه المتعاقدة مع الاستشاري شركة بوز آلن هاملتون؛ حيث أخذت تلك الشركة معلوماته وخبراته ومن معه مقابل كوب قهوة بمسمى ورشة عمل، وكتب عنها مقال «استشاريو الكابتشينو» («عكاظ» يناير 2017).

وغالبًا ما ينجز الاستشاري مخرجات أكثر مما تحتاجه المؤسسة، وقد ينفذ إلى البيانات الكاملة والسرية دون حاجة، وقد يقدّم دراسة استشارية تتضمن نتائج لا تعكس الأهداف ولا تتضمن حلولاً عملية أو توصيات ذات أثر على أرض الواقع. وهذا هدر صامت للكفاءات والأموال، ولكنه هدر لا يعاقب عليه القانون، ولا يعتبر مخالفة إدارية.

ومن ثم فالمستشار هنا: شركة أو شخص محترف في مجال معين ولديه القدرة على تحديد أهداف الدراسات والمشروعات الثقافية والاجتماعية الكبيرة، ويمكن أن يقدم النصح للجهة التي يعمل بها بما تحتاجه بدقة من أجل توفير الوقت والجهد والمال ورفع كفاءة العمل.

والاستشاري: شركة منفذة، وفي العلوم الاجتماعية غالبًا ما تكون شركة دراسات متخصصة، تعد الدراسات والموسوعات والمشروعات التراثية والثقافية.

وإذا أدرك الاستشاري العالمي خلو المؤسسات من مستشارين متمكنين من ضبط الأهداف ومراقبة منهجيات التنفيذ، فإنه غالبًا سينفذها بفريق محلي أو عربي مكلف لتقليل التكلفة.

وبالنظر إلى المؤسسات السعودية نجد ثلاثة أشكال من التعامل:

- جهات تعرف الفرق بين المفهومين، وتجعلهما جزءًا من ثقافة العمل وهوية الجهة؛ بحيث يتولى المستشار بالتنسيق مع جهته تحديد الهدف والمشكلة وإطارها الزماني والمكاني والبشري، ويستلم المخرجات.

- جهات تؤمن بالاستشاري العالمي الذي ينفذ الدراسات، باعتبار أنه سيتولى مهام تحديد الأهداف وما يتبعها؛ ولذلك لا تؤمن كثيرًا بالمستشار الذي يضبط منهجياتها، ويتأكد من صحة مخرجاتها، مما يوجد فجوة منهجية كبيرة بين الدراسة المعدة وما تحتاجه الجهة.

- جهات تعتمد على مستشارين في تنفيذ أعمال ومشروعات كبرى تحتاج إلى استشاري، ينفذ وفق معايير المنظمات الدولية.

وقد لاحظت تداخلًا كبيرًا بين مهام المفهومين، فكلما غاب هذا المفهوم يتحول المستشار إلى موظف يؤدي مهام اعتيادية، وتتعطل الإفادة من خبرات الجميع، ويكمن الإشكال في التالي:

- غياب ثقافة الاستعانة بالمستشار ومراكز الدراسات الاستشارية في فهم الواقع وتغيراته بمهنية عالية، مع شعور المسؤولين بضرورتها، وهذه مشكلة إدارية صامتة.

- غياب ثقافة الاستعانة بالمستشار ومراكز الدراسات مع فقدان الشعور بوجود المشكلة من أساسها، وهذه أهم أزمة إدارية وقيادية.

وكلا هذين المستويين لا يتلاءم مع بيئات العمل الجديدة التي توائم المعايير الدولية وتراعي المتغيرات المحلية.

وفي المقابل، اتسمت كثير من منجزات القادة بالنضج القيادي، لحسن مراعاتهم ثقافة المجتمع والتواصل الإنساني الفعال أثناء التخطيط، وبالتالي منح مزيد من الاهتمام للاستشارات الاجتماعية والنفسية والأنثروبولوجية لفهم روح المجتمع بعد عقود من التمركز حول التطبيق النصي للأنظمة.

وتوجد أهمية أدبية وثقافية في انعكاس خبرات القادة على كتابة سيرهم الذاتية، من حيث اكتشاف أرشيف تاريخ إداري كبير بعد إعادة تقييمه بمعايير جديدة، فكثير من القيادات السعودية تنجز المهام الكبيرة بالمستشارين والاستشاريين، ولكن لم يتنبه أحد في الغالب إلى أن هذا مصنف من السلوك القيادي العظيم، مما ضيّع على القادة فرصة تحليل الخبرات العميقة.

فالإنجاز العظيم قد يتحول إلى ممارسة اعتيادية لدى القادة؛ مما يفقدهم الشعور بأهميتها، ودور كاتب السير الذاتية والمؤرخ الإداري أن يتمتع بعين ناقدة وروح فاحصة وذائقة تلتقط الجمالي من بين الاعتيادي.

وكاتب السير الذاتية للقادة هو من يدرك ما لا ينتبه له، ويلتقط أجمل ما في القائد؛ لأن القائد بالفطرة لا يدرك مكامن إبداعه ويراها اعتيادية، ولا يوجد أجمل من إبراز القادة الذين يعون بأدوارهم ويحققون منجزات مسكوت عنها أو ضيعها انخفاض معايير التقييم، وتفويت فرص نقل الخبرات العميقة للأجيال.

وبما أن رؤية 2030 تتقاطع بشكل كبير مع معايير المنظمات الدولية المعنية بالتنمية والتراث المادي وغير المادي والبيئة الحية وغير الحية، فإن روح تقارير المنظمات تثمن كثيرًا الجهات التي تحقق منجزاتها بالاستعانة بمستشارين في العلوم الاجتماعية ومراكز دراسات محايدة، وكثيرًا ما يكون غياب مستشاري العلوم الاجتماعية محل ملاحظة المنظمات الدولية عند تقييم المشروعات.

من هنا، يحسن بالقائد والمسؤول أن يراعي الفرق بين المستشار والاستشاري، ويعطي كل واحد منهما المهمة الملائمة له، والتي تحقِّق أهداف جهته، وبذلك يضمن كفاءة الإنفاق وفعالية المخرجات.
01:35 | 28-11-2024