أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://www.okaz.com.sa/okaz/uploads/global_files/author-no-image.jpg?v=1

ريم بنت عبدالخالق

سن العوض..

عزيزي الرجل.. هل فكرت يوماً في الحكمة الربانية من كون المرأة تتوقف عن الإنجاب عند سن معين، بينما الرجل يمكنه الاستمرار في أداء دوره في هذه العملية حتى يشيخ؟!

إن في هذا الأمر من الحكمة ما لا يمكن لعقولنا البشرية إدراكه، ولكن.. في حدود معرفتنا الضيقة فإن الأنثى هي من تقوم بالدور الأهم والأصعب في عملية الإنجاب، فهي التي تحمل الجنين في أحشائها حتى يكتمل طفلاً بعد أن يمر بأطوار فيها من الإعجاز ما تذهل منه الألباب.

وبعيداً عن هذا الجانب العضوي فهناك جوانب أخرى نفسية تؤثر تأثيراً عميقاً على هذه الروح الأنثوية التي تجمع بين قمة الجبروت في الصبر والصلابة وقمة الرقة والحنو..

وأعود لسؤالي.. لماذا تتوقف المرأة عن الإنجاب في مرحلة عمرية معينة؟!

بالتأكيد إن لهذا الأمر التكويني الإلهي أسباباً لا متناهية بعضها يرجع إلى ضعف البنية الجسدية والعظام مع التقدم في العمر وما إلى ذلك من الأسباب، ولكن من وجهة نظري المتواضعة أن الله سبحانه جل شأنه لم يكن ليعجزه أن يمدها بالتركيبة الجسمانية التي تؤهلها للاستمرار بالإنجاب حتى عمر المائة لو أنه أراد لها ذلك.

في اعتقادي أن كل أنثى تصل روحياً لمرحلة تتنحى فيها عن دورها كمقاتلة في جميع جوانب حياتها سواء كزوجة وأم ومربية وراعية أو ربما تكون امرأة عاملة، فتصل إلى مرحلة تتوقف فيها عن كونها وعاء سواء بالمعنى الحرفي أو الضمني العميق لهذه الكلمة، فلا تعود قادرة ليس فقط على الحمل والولادة بل حتى على الرعاية والسهر والفطام والتربية والمتابعة الحثيثة، كما أنها لا يعود لديها المتسع نفسياً وروحياً لمزيد من الصبر ليس على الأبناء فقط بل حتى على شريك حياتها ونزواته وتقلباته وقسوته أو إهماله. فهي في هذا العمر بانتظار رد الدين..

دين العمر الذي استهلكته في البناء والتنشئة والمحافظة على زواجها وحياتها الأسرية.

دين السهر والتطبيب والتدريس والعناية بكل التفاصيل لمن حولها ممن يندرجون تحت مسؤوليتها..

دين الانكسار والخذلان والتغافل والصبر والثبات..

دين العطاءات اللامحدودة التي بذلتها بصمت كجزء لا يتجزأ من دورها الفطري التي خُلِقَت مؤهلة للقيام به، ودورها الاجتماعي سواء داخل أو خارج بيتها، وهي تحضّر مائدة الطعام وتنجز أعمال وظيفتها وتحتضن أطفالها وتصحّح كراسات تلميذاتها وتسرّح شعر ابنتها وتعقّم إصابة ابنها وتنسّق مظهرها، وكل هذا وغيره تفعله بذات اليد.. بذات الشغف.. بذات الحب.. وقد تشعر مع كل هذا أنها مقصرة!

وحتى الأمهات من غير العاملات، وحتى النساء اللاتي لم يتزوجن أو تزوجن ولم يقدّر لهن أن يعشن تجربة الأمومة.. فالمرأة أينما كانت مهماتها وأيّاً كان ما تقوم به فإن كونها خُلِقَت بهذا التكوين العجيب الذي يجمع جوانب متناقضة من منتهى الشدة إلى منتهى اللين.. تعيش حياتها وتؤدي مهامها وكأنها معزوفة على بيانو، تعزفها الحياة بأنامل التجارب على أزراره السوداء تارة والبيضاء تارة أخرى لتغدو ألحاناً متفردة في كل مرة وكل تجربة وكل مرحلة عمرية تعيشها.

إن المرأة في هذه الجزئية من حياتها وبعد كل ما قدمته لا تنتظر سوى القليل من السؤال.. القليل من الاهتمام والمداراة.. القليل من الشكر والاعتراف بالفضل.. القليل من المشاركة.. والكثير بل الكثير جداً من التقدير..

وإذا كان الله جل وعلا قد أعفاها في هذا العمر من المهمة الأصعب - وهي الإنجاب - بكل مشقاتها فمن الأولى لك عزيزي الرجل أن تعفيها من كل ما يستهلك طاقتها ويستنزف روحها من المهام والطلبات والمهاترات والتعب ولو كان سببه مجرد كلمة..

وأنا أعلم تمام العلم أن العديد من الرجال سيفرحون بكلمة (اعفيها) ويفسرونها كإقالة للزوجة عن دورها في حياتهم وأهميتها كزوجة، ويتخذون من كلماتي هذه ذريعة للبحث عن بديل في امرأة أخرى لم تصل بعد لهذا المنعطف العمري، ولكن يؤسفني أني سأستبق هذه الفرحة وأوضّح أن المقصود هو إعفاؤها من الاضطرار لمزيد من البذل والصبر والتحمل.

على كل رجل تصل زوجته إلى هذه المرحلة أن يستوعب أنه قد حان الوقت لرد الجميل..

حان الوقت ليستوعب الجميع بأنه ليس سن اليأس أبداً، ولا حتى سن الأمل فقط.. بل سن التكريم.. سن الدلال.. سن العوض.

حان الوقت الذي تُزاد فيه تكريماً بشرياً إنسانياً عدا عن تكريمه سبحانه لها كونها امرأة بكل ما حباها به من تميز وأولاه لها من مهام مقدسة.

وقد قالها الذي لا ينطق عن الهوى عليه أفضل الصلاة والسلام: ( وخياركم.. خياركم لنسائهم )، كما قال: (رفقاً بالقوارير).

ولا ننسى ما فعله صلى الله عليه وسلم عندما رأى صاحبات زوجته خديجة رضي الله عنها بعد وفاتها فخلع رداءه وفرشه لهن ليجلسن عليه، وقال لصحبه: (إنهن صويحبات خديجة)، هذا مع من ذكّرنه بها فقط وهي ميتة فكيف به معها وهي حية؟!

* وصية:

(واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً، ألا هل بلغت... اللهم فاشهد).

النبي محمد صلى الله عليه وسلم - من خطبة الوداع
00:22 | 3-03-2022

رسائل من أزمنة مختلفة..

خلال الأسبوع الماضي وصلتني رسالتان كلتاهما توقفت عندها كثيراً.. ولا أعلم هل هي مجرد صدفة أن تصلني هاتات الرسالتان في ذات الأسبوع؟!

أولى الرسالتين كانت من والدي - حفظه الله - تضمنت مقالاً باسم «الربع الأخير من العمر» لا أعلم من هو كاتب المقال حقيقة، والرسالة الثانية كانت من المعلم الذي يدرس ابني ذي الاثني عشر ربيعاً اللغة العربية وتضمنت الرسالة قصة قصيرة كتبها صغيري بعنوان «وفاة جدتي»..

لم يعلم أبي حبيبي ماذا فعل بقلب ابنته حين قرأت بين سطور المقال الذي أرسله: بماذا يفكر ؟ وكيف يشعر؟

لم يكن أبي شكاء قط، ولم يقصد برسالته أن يشكو لي ما يشعر به في هذه المرحلة من عمره، فأنا أعرف والدي أكثر من أي إنسان، و أجزم بأنه كان يريد مني أن أستفيق على حقائق ربما أعرفها كبديهيات ولكنها هنا تستحق الوقفة والتأمل..

حبيبي كان يريد مني أن أدرك أنا وأتدارك ما فاته هو..

يريدني أن أصل إلى الربع الأخير - وقد قاربته - دون أن أتذوق طعم الأوجاع الصامتة والحسرات الخفية التي يشعر بها..

يريد أن يطمئن بأني سأكون بصحة جيدة ولدي رفقة قديمة تدفئني وأعرف كيف أستمتع بالمسرات الصغيرة..

يريد أن يخبرني بطعم الرضا الذي يشعر به عن انتصاراته فيطمئن بأني سأحقق بعضاً منها لنفسي لأبتسم نفس ابتسامة الرضا عندما أصبح في مثل عمره..

وكنت قد كتبت في مقال سابق أني (أتمنى لو كنت في موضع عصاه تحت يده وبجوار أقدامه)، ولكن أبي لا يزال يبهرني بأني أنا التي أظل أتوكأ عليه.. على كلماته.. حنانه.. وخوفه علي..

أما عن صغيري فقد كانت قصته القصيرة تحفة أدبية فيها من صدق التعبير وبلاغة الوصف وبراعة استخدام اللغة ما أبهرني وجعلني أنظر إليه وكأني أتعرف للتو على تفكيره ومشاعره.

جعلتني قصته أكتشف أن هذا الطفل المدلل الرقيق الهادئ الذي تصورت أن أقسى ما يمكنه فعله هو أن يركل الكرة ليسددها في المرمى بقوة، استطاع أن يخبرني كيف يقسو على نفسه ويخفي حزنه على فراق جدته وكيف أمكنه أن يصور هذا الحزن حين (احتله)، وكيف كسرته دموع والده التي ترقرقت (كمعين ماء في قلب الصحراء) على حد تعبيره.

وما بين رسالة صغيري الذي أدرك رهبة الموت وقساوة الفراق مبكراً، ورسالة والدي الذي أدرك طعم الحياة وقيمة الصحة ونشوة الرضا التي تتركها الانتصارات الصغيرة متأخراً، أجدني أتمنى - فقط - لو كان لدي ما يكفي من الكلمات لأخبر كلاً منهما كم هو عظيم في عيني وكم أحبه!

وكيف كان قلب أحدهما هو المشكاة التي حملت مصباحاً أضاء لي حلكة ليالي العمر التي مضت بعطفه عليّ ووصاياه لي، وكيف أرى الآخر كيراعة النور التي تضيء لي كهوف القادم الغامض من عمري لأسير في رحلتي بلا خوف..

فلا آسى على ما فات ولا تسرقني فرحة الآتي فتضيع مني اللحظة التي أعيشها الآن..

* تنبيه:

«لا يمكنك أبداً التأكد مما إذا كنت في الربع الأخير أم لا..!

ليس لديك وعد بأنك سترى كل فصول حياتك... لذا.. عش اليوم وقل كل الأشياء التي تريد أن يتذكرها أحباؤك.. وآمل أن يقدروك ويحبوك على كل الأشياء التي فعلتها لهم في كل السنوات الماضية».

من مقال «الربع الأخير من العمر».
01:03 | 24-02-2022

جواري بلا قيود..

أصعب ما يمكن للحر أن يعانيه هو أن يحمل في جوفه قلبين، وأن يفصح عن مكامن أحدهما بلسانه بكلماتٍ معدوداتٍ محسوبات، وهو في آنٍ معاً تكاد عيناه من سيل البوح وزحمة اللغة الأخرى تصرخان بلا صوت..

وأسهل ما يمكن لبشرٍ فعله هو أن ينصِّب نفسه قاضياً ليرمي بالأحكام على تصرفات الآخرين وكلماتهم وطهارة مشاعرهم، أو يستصغر شغفهم ويسطِّح أموراً تمس قيعان أرواحهم..

أن يطلق أحكاماً على نزاهة أفكارهم لمجرد أنهم يحملون عقولاً خارجة عن المألوف لا تعرف حداً لخيالاتها ولا يتسع المدى لتصوراتها..

إن في جوفي كل ليلة حرباً ضروساً تدور ولا يُسمع منها إلا حسيس كنغمات سياط تجلد ظهر الصمت..

حرباً تدور بين كل المتناقضات التي تساورني.. براكين سخط وينابيع حب وآباراً من الغضب المظلم الذي أُلقِيَت دلاؤه بداخلها منذ أمدٍ بعيد دون أن يجذب حبالها ظامئ واحد يمكنه أن يرتوي من علقم وجعي بلا شكوى أو أنين..

إن للألم الروحي سكرات لا ينطق فيها الكاتب عن الهوى، إنما تتجلى قدرته اللغوية في وصف ما يشعر به، وكأن هناك من يسرد عليه القصص ليقصه والشعر لينظمه..

قد آن الأوان لأهد معبد الوجل على أصنام المتربصين - بليني وبوحي وكلمي وضحكي وبكائي - بقلوبٍ كالحجر..

وما ذنبي أني خُلِقت أحمل قلباً كجنةٍ ترفرف عصافيرها حباً وفرحاً وحناناً داخل قفصٍ من ضلوع إن كادت لضيقها لتفتك بي مع كل تنهيدة ؟!..

آن الأوان كي أُطلِق جواري الكلمات الراقدات في حرملك الخوف، وأن أحرر قيودهن ليعاودن التمايل على السطور وقد خضبن الورق بدماء الحبر النازف من جراحات الأغلال التي قيدتهن عمراً خوفاً من الأسئلة التي أعلم أني لن أجد لها جواباً واحداً يقنع المسربلين بحلل المنطق الوارثين لقوالب المفروض..

آن الأوان أن أعيد شرف الفروسية لهذا القلم الذي يمتطي أناملي بعد أن بقي زمناً كفارسٍ سُلِب شرف الكتابة وقد جُرِّد من سيف الكلمات الضاربات على أعناق الزيف..

من يعرف أن للكتابة سحراً هو فقط من يمكنه أن يعذر الهائمين في ملكوتها أمثالي.. المتمردين على الصمت دون أن تنطق أفواههم بكلمة !

ولا أعلم إذا ما كان فعل الكتابة هذا ميلاداً أم انتحاراً؟!

كل ما أعرفه أني اكتفيت من فعل الوأد..

وأني سأبدأ عصراً جديداً من البوح بكلماتٍ لا تعرف إلا حياةً تسر الصديق أو.. مماتاً يغيظ العِدا..

* موت وميلاد:

وما من كاتب إلا سيفنى..

ويبقي الدهر ما كتبت يداه..

فلا تكتب بخطك غير شيءٍ

يسرك في القيامة أن تراه.

الشاعر/‏ أمين الجندي
00:00 | 20-01-2022

معارك لم تؤرخ

إن لكل مجتمع من المجتمعات الإنسانية هويته الخاصة به، والتي تشكلت عبر الأجيال من خليط التركيبة المكانية والدين والأعراف والتقاليد والثقافة وأسلوب الحياة، والذي يتأثر بدوره بعوامل جغرافية وحضارية وإنسانية، كلها تذوب في بوتقة عمارة الأرض والتي هي مهمة الإنسان وأمانته التي حملها تشريفاً بعقله وتكليفاً بجوارحه.

وفي خضم هذه المهمة تدور معارك ضارية أشد وقعاً وأبرز تأثيراً على المجتمعات من المعارك السياسية والعسكرية.

معارك أدواتها أشد فتكاً من الأسلحة المتعارف عليها من دبابات وطائرات وغواصات وغيرها.

معارك تدور بين الإنسان ونفسه وبينه وبين محيطه بعناصره الفكرية والاقتصادية والعاطفية والاجتماعية.

إن ما خاضه المجتمع السعودي من صولات ضد الجهل على مر السنوات، وما أحرزه من انتصارات على المسلمات البالية والأعراف المهترئة التي قيدت قدرات أفراده -والنساء منهم تحديداً- وعرقلت مسيرة التنمية لأجيال، وحصرت طموحاتهم في قوالب لم تعد صالحة لمواكبة ما يحدث في العالم من حولنا، إنما هي انتصارات تستحق التأريخ وتستدعي الفخر.

وما كابدته الحكومة السعودية خلال مكافحتها بحكمة لشتى أصناف الإرهاب الفكري والعنف النفسي اللذين امتدت سطوتهما على مدى عقود تحت مسميات العيب والمحظور، كلها كانت ولا زالت جهوداً جبارة ومدروسة آتت ثمارها وبتنا نجمع حصادها ونتباهى به.

وحين نتأمل في التغيرات التي حدثت ولا زالت تحدث وكيف أمكن لهذه الدولة أن تصنع الفرق من خلال الإنجازات على مستوى الأفراد -إناثاً وذكوراً- وعلى مستوى المجتمع ككل وتحرز تقدماً من محطة إلى محطة دون انتكاسات ودون أن تتراجع للوراء ولو خطوة لأنها إنجازات رغم حداثتها تحمل عبق التاريخ ولم تفقد سمات الهوية السعودية، ولم تفسد مبادئنا الأساسية ولم تتسبب في تفكك المجتمع أو تغريبه، بل حافظت على النسيج المجتمعي ببث الوعي وحررت الأفكار من قيودها الصدئة وأطلقت الطاقات والإبداعات واستردت المهدر في منظومة موحدة واسعة المدى متعددة الأبعاد.

وفي الوقت الذي حبا الله -سبحانه وتعالى- هذه الأرض الطاهرة بنعمة الأمن والاستقرار فقد سخر لها ولاة الأمر الذين صانوا الأمانة ورسموا طريقاً محفوفاً بالتحديات التي علموا أن شعبهم قادر على تجاوزها، وأن كل سعودي هو أهل لأن يحمل شرف هذا الانتماء.

ليست كل الانتصارات تقاس بزيادة المساحات وتوسيع الحدود ولا بالمكاسب العسكرية والسياسية، فهناك معارك أسمى تخوضها بلادنا منذ تأسيسها ضد الإرهاب والجهل والعنف والفقر والمتغيرات الفكرية والاجتماعية السلبية التي أودت بمصائر دول إلى الهلاك وغيرت شكل الخريطة طوال سنوات.

ونحن اليوم كسعوديين نخوض معركتنا الأكبر والتي لا مجال فيها للتراجع ليس بتصدرنا مكانة مرموقة بين الدول العظمى على الساحة العالمية فحسب، وإنما على الساحة الداخلية وعلى مستوى المجتمع والفرد بهمم تطاول السحاب على كل شبر من تراب هذا الوطن المتفرد وفي كل بيت ومدرسة ومعهد وجامعة ومصنع وفي كل قرية ومدينة.

فنحن السعوديون نحتزم بصبر جدودنا ونتوشح عزيمتهم في حاضرٍ لم يعد للمتقاعسين فيه مكان..

ماضون نحو مستقبلٍ نستحقه مستظلين براية لا إله إلا الله رافعين رؤوسنا فخراً أمام البشرية جمعاء، خافضيها سجوداً وخضوعاً الذي أنعم علينا أن ننتمي لهذه الأرض التي (هي لنا دار)..

* وقفة عز:

قالُوا: البيت الحرام.. قلت: ارضي

قالوا: الشرع الامام.. قلت: ارضي

قالوا: الحب السلام.. قلت: ارضي

قَالوا: في مدحك نزود.. قلت: يفداها الحسود

ما على هالارض.. ارض مثل ارضي

الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن
00:17 | 23-09-2021

(والقلم وما يسطرون)

بالقلم خُطت أقدارنا..

وبالقلم تُفتَح بوابات البدايات وتوصد أرتاج النهايات..

به يُسطَر الميلاد والنجاح والزفاف وحتى الوفاة..

وبه يُصاغ الوجد والسهد.. والهزل والجد..

والقلم هو سفير العقل الأمثل.. وبريد النجوى ورسول الروح الأنبل..

لك أن تتخيل..

كيف لعاشقٍ متيم أن يبوح بلا قصيدة إذا عزَّ الكبرياء؟!

وكيف لعالِمٍ مبجَّل أن يضيء منارات الفكر ملايين المرات جيلاً بعد جيل؟!

وكيف لمقهورٍ أن ينافحَ عن قضيته إن ضاع صوته وسط الزحام؟!

وكيف لأديبٍ أن يلتقط فكرةً تحلّق في أفق خيالاته كيراعة نور فيسكب من قبسها على الصفحات؟!

كم من ومضةٍ أْطفِئَت في لحظات لأن صاحبها لم يجاوره قلمٌ وقصاصةُ ورقٍ في أوان وميضها؟!

وكم من فكرةٍ قيمتها تقدر بالملايين يمكن أن تضيع في غياهب النسيان إن لم تدوَّن في حينها؟!

كل المعارف منذ الأزل ما وُرِّثَت لولا القلم..

وكل المشاعر الفياضة ما كانت لتغمرنا وتعلمنا أبجديات الهوى لولا أن سال بها مداده..

وتحت سن القلم تُدار مصائر.. وتُرسَم خرائط مستقبل وحياة..

فهو لسان البصيرة، وترجمان الهواجس، وسيف القضايا، ونبراس المرتحلين في سماوات الأفكار..

وهو السنارة التي يصيد بها الكاتب غنيمته وزاده من بحر خلجاته ومشاعره..

فالقلم هو آلة.. صمَّاء تُسمِع الدنيا أصداء كلماتنا..

خرساء تنطق بمكنون ضمائرنا..

وهو السهم الذي تُهاب رميَتُه.. فإن أصاب أحيا الحقيقة، وإن أخطأ قتل الفضيلة..

بِيَدي قلم.. إذا أبريهِ.. يبريني..

وهو لسان حالي.. وسيدُ مقالي.. وبه خُطَّ مبدئي ومآلي..

* توقيع:

عطفَ الحنايا عطوفٌ أنت يا قلمُ

تحنو علي وعند البوحِ تبتسمُ

تحنو علي إذا ما الفكرُ داهمني

وتسكبُ الحبرَ سحراً حين أنسجمُ

يا صاحبي لا تدعني اليوم منفرداً

إياك إياك.. حولي الهم يلتطمُ

لقد غشاني بموجِ الحزن حين رمى

للضادِ بوحَ القوافي فانهمى الألمُ

شعر/‏ عبد الله الشحي

‏r.a.k.saudiarabia@gmail.com
00:03 | 26-08-2021

خطوات بلا عناوين..

لا أعلم كيف أصابتني نقمة الانتباه للتفاصيل الصغيرة في الشوارع..

تلك التي تزاحمت فيها البنايات الشاهقة والأسواق التي تباهي بعضها بعضاً ببريق زجاجها وانعكاسات الضوء عليها والسيارات الفارهة المصطفة أمامها، وواجهات معارضها التي تواري خلفها أثمن الملابس من دور الأزياء العالمية وأرقى الأحذية..

وبينما عيناي غارقتان في هذا المشهد المترف.. يخطفهما مشهد آخر عابر أرى فيه أقداماً صغيرة متسخة من الركض في الطرقات، تغتالها البرودة شتاء وتلهب حرارة الأسفلت طراوتها صيفاً فتشوهها بحروق تفقدها قدرتها على الإحساس..

وتتلقفها خطوط الأرصفة كأسطرٍ لصفحاتٍ دُوِّنت عليها ملاحم ذل وشقاء وكبد، فتضع خاتمتها في آخر كل نهار على زوايا الحارات والأزقة الضيقة حين تُرِيقُ ما تبقى من براءتها قرباناً لوحشة الشوارع المظلمة لتمنحها مكاناً تبيت فيه حتى طلوع الشمس..

وأرى في ذات المشهد أيادي صغيرة لاتعرف أناملها مسكة أقلام التلوين وأزرار أجهزة تحكم الألعاب الإلكترونية وملمس فساتين الدمى المزركشة..

أيادٍ لا تعرف إلا أن تمتد فارغة في ظاهرها بينما في حقيقتها مثقلة بِحِمل الحاجة حتى تشققت كفوفها وهي تطلب منك الفكة التي تحملها في الجيوب الخارجية لمحفظتك الفاخرة.

وقد تعجب لقدرتها على أن تظل ممدودة إليك لوقت طويل بلا كلل، فأنت لا ترى أوتاد الجوع المغروسة في بطونهم والتي تتكئ عليها أيديهم لتبقى مرفوعة نحوك تناشدك البقايا..

قد لا يستغرق مشهد طفلٍ يتسول في الشارع سوى ثوانٍ معدودة أثناء عبوري بالسيارة، إلا أنه كفيل بأن يحتل ذاكرتي وقلبي فابقى منشغلة التفكير بحال ذلك الطفل لأيام، بل قد يظل يخطر لي لأسابيع أو أشهر أو حتى سنوات..

وامتداداً لهذا المشهد تسترسل خيالاتي فتجلب لي صوراً لأطفال آخرين اختبروا نوعاً آخر من الحرمان..

لأقدامٍ أخرى صغيرة.. ترتعد خوفاً في الظلام أثناء محاولتها التدثر بغطاء صغير خشن على سرير من أسِرّة الملاجئ، تلك الأسِرَّة التي لا تعرف معنى تربية الأم ولا صوتها وهي تترنم بتهويدة قبل النوم، ولم يحظَ الأطفال النائمون عليها يوماً بمسحة رأس أو قبلة على جبين أو دعوة أو حتى أمنية بأن يصبحوا على خير..

لم يحظوا إلا بسقف مظلم تتسمر عليه أعينهم لترسم مجرد خيالات عابرة لملامح أب بحاجبين كثيفين وفم مبتسم يعلوه شارب كث، وأم ضحكتها تشبه قوس قزح وعيناها نهري طيبة.. تزهر من نظراتهما حقول فرح وأمان..

صوراً يألفونها بمرور السنين حتى يحين الوقت الذي يودعونها فيه مع توديعهم لأسقف وجدران الملجأ حين يغادرونه إلى المجهول الذي ينتظرهم خارج أسواره..

تشقيني ذاكرتي التي تقف عند هذه التفاصيل وتستفيض في التفكير في خلفيتها كلما لمحتُ حزناً في عيني طفل..

ولو أن لي أمنية واحدة خارقة لتمنيت أن أستطيع احتضان أطفال العالم المشردين جميعهم..

لو أنني أستطيع أن أعتصرهم في حضني فتمتد أياديهم الصغيرة لتلتف من حولي ليعلموا أنه يمكنهم لمس ماهو أثمن من الفكة التي تلقى في أيديهم.

أو أن أدور على أسرة الملاجئ كل ليلة فأقبل رؤوس الصغار وأتمنى لهم نوماً هنيئاً..

أو أتمنى لو أن لي وشاحاً بطول الأرض يحمل رائحة أمومتي فأُسدِ له على أجسادهم الصغيرة في ليالي البرد..

لو أنني أستطيع أن أخبرهم -فقط- بأني أحبهم، وأني وإن كنت لا أملك أن أمنحهم حناني ولا أن أكف عنهم شقاءهم الذي قُدر عليهم أن يعيشوه بلا ذنبٍ اقترفوه..

إلا أني أغمرهم في صلواتي كل ليلة بدعواتٍ سرية لعلها تسكب على أيامهم فرحاً يشبه لون البالونات التي يبيعونها ولا يلعبون بها، وبهجة الألعاب النارية التي يصفقون لها في سماوات المدن..

دعوات خفية.. أسأل رب المعجزات أن يمسح بها على قلوبهم الطاهرة ليغفوا كل ليلة سعداء.. بأقدام طرية.. دافئة..

* على سقفي:

وصُن ضحكة الأطفال يارب إنها

إذا غرّدت في موحش الرمل أعشبا

ويارب حبب كل طفل فلا يرى

وإن لجّ في الإعنات وجها مُقطّبا

الشاعر/‏ بدوي الجبل
23:45 | 11-08-2021

الرصيد لا يسمح..

خُلِقتُ أحمل روحاً حُرة.. بل هي بخفتها تحمل هذا الجسد..

لا حدود لأفكاري.. ولا حتى مشاعري..

رغم أني عشت عمري كله ألتزم بكل الحدود ولشدة حساسيتي وحتى لا أسمح لأحد أن يوبخني، فأنا لا أتجاوز ما لا يصح تجاوزه..

وإن رأيتني صامتة فأنا حينها أوجد أسباباً وأضع حلولاً وطرقاً لتسير بها الأمور التي حولي على غير العادة..

فرحي غامر كالأطفال.. وحزني مستفيض كالثكالى..

إن لِنْت فأنا الأحن.. وإن غضبتُ فأنا الأقسى..

الأكثر حكمة.. بلا غرور

والأشد جنوناً.. بلا حدود

وكثيراً ما أتسامح مع هفوات من حولي فقط لأني معتزة بذاتي للحد الذي يجعلني على يقين بأني عصية على الفهم وأكبر من حدود تقديرهم..

ومع ذلك فأنا الأكثر بساطة وتواضعاً مما يمكن لشخصٍ بسيط أن يدرك كم حاجزاً تخطيت لأشاركه ضحكة أو انفعالاً على قصة يرويها.. احتراماً لمشاعره وتقاسماً معه لضيقه أو غبطته.

أنظر وأرى.. أستمع وأصغي.. وآخذك بحديثي من أقصى حدود الجدية إلى الهزل الذي لا حدود له..

تبكيني كلمة في آية.. وتواسيني أخرى

ويحضنني شطر في قصيدة.. ويمزقني آخر..

وأحتفظ بيني وبين نفسي بفلسفتي الخاصة حيال كل ما حولي..

ومن المحتم أنك حين تغرس نبتة لا حدود لنموها في حوض محدود المساحة يعيق تمددها.. ستختنق وتذبل..

وقياساً على أبيات المتنبي فـ:

الحبرُ والصبر والوقفات تعرفني

واللين والمكر والضحكات والألم

وها أنا اليوم تتخطفني الطرقات وتتجاذبني زوايا الأرصفة وأرى أعمدة النور وهي محنية مطأطأة الرؤوس لتتفحص الدوائر السوداء حول عينيّ..

وحفيف أوراق الشجر وارتعاشات أفرعها تستنكر ثقل خطواتي وأنا أعبر بجسد كصندوقٍ خشبي خاوٍ تقلبه الريح في الشوارع.. يحمل ملامحي كزخارف عتيقة باقية من زمن الزهو والألوان.

يستمر في تخبطه حتى يتشبث بأطراف مقعد فارغ..

أستقر عليه لأبدأ بالثأر من تفاصيل المكان وأتفحص زواياه كما تفحصتني.. وبابتسامة ساخرة تقطر وجعاً أعايرها بعجزها أن تعيد لي مشاهد الفرح التي تقاسمتها معي يوماً..

فلا هي تقدر على ذلك.. ولا حتى أنا..

يحاصرني سكون غريب من حولي يكاد ينافس الصمت الذي احتلني منذ مدة..

ودفة أفكاري تقود مشاعري نحو اللا شيء..

لا فرحة تلمسني ولا حزناً يبكيني..

لا انتظار.. لا حماسة.. لا غضب أو حتى عتب..

أعيش حالة من الانفلات الروحي تشبه انفصال مكوك عن مركبة فضائية ليهيم في الكون الشاسع..

ويجتهد من حولي في تفسير هذه الحالة بأنها لا مبالاة، أو حالة من التصالح مع الواقع.. أو الرضا والتسليم..

ولكن الحقيقة تكمن في أني قد استنفدت رصيدي من كل شيء.. وعكسه!!

تم استهلاك الصبر والمجاملة والمقاومة والتظاهر والأمل.. وحتى اليأس..

وحين سألتني صديقة: ما بالك هائمة النظرة منطفئة العينين على غير عادتك؟ اضحكي..

كان جوابي: عزيزي المتعامل.. الرصيد الحالي لا يسمح لإتمام هذه العملية..

* تنهيدة:

أبْكِي وأضْحَكُ والحَالاتُ واحِـدَةٌ

أَطوِي عـَليْهـا فـؤادًا شفّـهُ الألَـمُ

فإنْ رأيتَ دمُوعِي وهي ضَاحِكَـةٌ

فالدمْـعُ مِـن زَحْمَـة الآلام يَبْتَسِـمُ

— طاهر زمخشري
00:17 | 29-07-2021

أَلِفْ.. فَتحَة.. أَبْ..

عجيبة هي الغربة كيف تورث القسوة أحياناً تماشياً مع مقولة (البعيد عن العين.. بعيد عن القلب)، فكلما طالت مدة البعد تبهت الصور وتخفت الأصوات فتختبئ في الذاكرة البعيدة ولا تظهر إلا حين يستثيرها موقف أو حكاية.

ولكن هذه الغربة ذاتها هي من أرجعتني طفلة تتوق إلى حضن أبيها ورائحة شماغه وضحكة عينيه من خلف النظارة وحنانه الذي يغمرني كالطوفان.

وكثيراً ما يمنعني شوقي إليه من الاتصال به، لأنني على يقين بأنه مجرد أن يقول (ألو.. هلا يا حبيبتي) سيعتصر الحنين قلبي وأبكي بِصَمت، وأكثر ما أخاف على أبي هو خوفه علي من حزني..

حبيبي الذي يحني ظهر الوجع ليتكئ عليه متبسماً في وجهي لأن راحتي عزيزة عليه.

حبيبي الذي حين يستقبلني من السفر يسابقني ليقبل رأسي ويدي قبل أن أقبل رأسه ويده.

حبيبي خليط عجيب من الأصالة والتجارب والمعاناة والصبر والهيبة والترف والتواضع والعذوبة.

حبيبي أمتع من يتحدث وأذكى من يحاور وأكرم من يستضيف.

حبيبي تُباري أناقة مظهره أناقة حديثه فتراه طوال اليوم حتى داخل البيت في أبهى حلة وكأنه في انتظار أهم ضيف.

حبيبي الذي أترقب ثلث الليل الأخير لأمر بجانب حجرته فأسمع تلاوته للقرآن أو أجده يذود عني أذى الدنيا ويجلب لي المستحيل بتضرعه وهو ساجد.

حبيبي يحب القهوة ورائحة العود والصحف الورقية ونشرات الأخبار وأغاني الست.

حبيبي جميل الخط رائع الأسلوب، يعشق الكتب ويتلهف على القراءة، ولو رأيتم فرحته بكتاب جديد لحسدتم هذا الكتاب على الشغف الذي في عينيه ورقة أنامله وهو يقلب صفحاته، فهو موسوعة ثقافية بل مكتبة تمشي على قدمين، تتنافس في كلماته الحكمة والأدب والوعي والطيبة.

حبيبي.. أول الأبجدية وسنام الحكمة وأصدق العشق وكل البركة.

هل تصدقون أنه يمكن لبشر أن يتوسد صوتاً..؟!

أنا أتوسد دعاء أبي في ليالي الأرق وألتحف رضاه؛ لأستجير من برودة غربتي عنه.

ليتني لا أبيت ليلة إلا وقد قبلت كل شعرة بيضاء في رأسه، ولو أن في الأرض موضعاً واحداً أتمنى أن أقف فيه بلا تعب فيا ليتني آخذ موضع عصاه تحت يده وبجوار أقدامه.

وحين تتباهى نساء الدنيا بأنهن معشوقات فلان وعلان، أتباهى بأني حبيبة أبي وقطعة من روحه وامتداد طيبته وكرمه وحنانه.

فيا ربِّ أمطره بسحائب لطفك وكرمك ومتعه بعافيته، فلا نور في دنياي إلا في عيني أبي.

* أصدق الحب:

قال تعالى: «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي».

سورة يوسف
00:13 | 10-06-2021

لا تنثروا الملح فوق جراحنا..!

ليس بالضرورة كي تنتصر لنفسك في حوار أن تهزم مَن أمامك.. فانتصارك الحقيقي في أن تخرج من أي حوار بالوصول إلى الحقيقة أو الصواب الذي قد لا يكون بالضرورة هو رأيك وقد لا يكون كذلك الرأي المحض للطرف الآخر، بل مزيجاً من الأفكار التي هي محصلة هذا النقاش..

ما اللذة التي تجدها في أن تتسبب لإنسان بألم نفسي أو غضب أو تشعره بالنقص، وأن تعدد له إحباطاته وتذكره بهزائمه السابقة كي تثبت له أنه دائماً ما يخطئ وأن العلة تكمن في فشله الدائم في تفكيره وآرائه وقراراته..؟

اخرج من أي حوار بأقل الخسائر ليس فقط لنفسك بل كذلك للطرف الآخر، لا تضغط على مكامن ضعفه لتسقطه أمامك وترفع أنت راية انتصارك متباهياً بأنك -بالطبع- على حق..

حتى وإن كان الشخص الذي أمامك مخطئاً اختر أسلوبك في إيضاح خطئه فليس عذراً أن تتحدث بوقاحة تحت مسمى الصراحة، فالصراحة ومواجهة شخص بخطئه ليست مبرراً لحدة الأسلوب أو التجريح..

أيّ انتصار هذا الذي يخلف وراءه إنساناً مهزوماً منكسر النظرة قد يحمل معه أثر كلماتك ما تبقى من عمره؟! حتى وإن سامحك فستبقى الندبة التي خلفتها قسوتك لتذكره في كل مرة يواجه فيها تجربة أخرى بأنه ليس إلا ما قلته له..

إن الشخص الذي تكسر خاطره كلمة في وسط نقاش ليس ضعيفاً، إنما هو إنسان يدرك أثر الكلمات ويعرف قيمة الخواطر ولذلك مهما وضعته تحت سطوة غضبك واستفزازك فمن المستحيل أن يسمح لنفسه بالمقابل أن يستخدم أسلوب الإهانة أو التجريح أو أن يعدد لك خسائرك وإحباطاتك ونقاط ضعفك لكي يوقع بك نفسياً وينال منك ليخرج منتصراً من مجرد حوار!

تخيل معي مدى قوة الشخص الذي أوجعته كلماتك وهو يستمع إليك وكأنك تنثر ملحاً فوق جراحاته التي ربما يكون عاش زمناً يناضل ويكابر كي يتجاوزها أو يخفيها.. ومع ذلك اختار ألا يرد عليك بنفس أسلوبك، وقد يصمت ويملك نفسه كي لا يكون سبباً بأن تشعر بما جعلته يشعر به؛ لأنه يعلم مدى فداحة ذلك عند الخالق والمخلوق.

فكر.. مَن منكما الضعيف الآن؟

ارتقوا في نقاشاتكم وخصومتكم وحواراتكم وتحدثوا بموضوعية، ولا تجعلوا تشبثكم بآرائكم يمنحكم الحق بأن تشهروا أسلحة اللغة الحادة لتؤلموا بها من اختار أن لا يحمل في وجه قسوتكم نفس أسلحتكم..

القوة دائماً في ضبط النفس فليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب، هكذا أخبرنا قدوتنا صلى الله عليه وسلم، الذي امتدح الله جل وعلا أخلاقه من فوق سبع سماوات.

ولا ننسى حين قال لأصحابه: «يأتيكم عكرمة ابن أبي جهل مؤمناً مهاجراً، فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي، ولا يبلغ الميت» مع أن عكرمة حتى تلك اللحظة لم يسلم بعد!

فلم ينظر النبي لمجيئه بهوان، ولم يستغل الفرصة ليلقنه درساً في قوة المسلمين، بل اختار اللين وجبر الخاطر.

وقد جاء عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إليه إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي هو في بيتها الصحفة فانفلقت، فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم الفلق ثم جعل يجمع فيها الطعام ويقول: «غارت أمكم، غارت أمكم».

ماذا لو فعلت زوجة ذلك بزوجها وعنده أصحابه وضيوفه؟! ربما ضرب وشتم وطلق ورآها انتقاصاً لرجولته وإهانة لكرامته، ولكن النبي الكريم راعى ما جُبِلَت عليه المرأة من غيرة وتفهمه..

وهو نهج قرآني اختُصِرَت فيه قواعد التعامل مع الإساءة في أربع كلمات: «ادفع بالتي هي أحسن»، والنتيجة: «فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم».

صدق الله وكذبت كل النظريات والآراء التي تغذي أنانيتك ومفهومك السطحي للكرامة ورغبتك في إثبات أنك على حق، فما الحق إلا ما أنزله الله وهو الذي خلقنا وهو سبحانه الأعلم بخلقه وتكوينهم النفسي.

كن مستمعاً جيداً.. تقبل اختلاف الآخر عنك فكرياً ونفسياً واختلاف تركيبته وتجاربه وطريقة فهمه.

وضح رأيك بهدوء وثقة وتفهم، وحتى إن كنت متيقناً من صحة موقفك فإن ثباتك وهدوءك سيجعل الطرف الآخر -وإن ثارت حفيظته- يفكر فيما بعد بكلماتك وقد يتقبل ما قلته ويقتنع به، أو قد يجد هو طريقة يقنعك برأيه بعد أن عرف نقطة الاختلاف.

الحسم والوضوح والثقة في الرأي ليست مبرراً للقسوة والتجريح..

اشتروا خواطر الناس باختيار كلماتكم، فبعض العثرات لا يمكن تجاوزها، ولن تنجبر في قلوبهم حتى وإن سامحوكم..

وقد قرأت عبارة مضمونها أن اللغة واسعة والمفردات عديدة وخاطر البني آدم واحد.

* أثر:

قال تعالى: «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك»
00:06 | 27-05-2021

فرسان بلا أحصنة..

لا يخفى على الجميع أن عدداً كبيراً من الأشخاص يبحثون عن وظيفة، البعض منهم ممن هو على رأس عمل فعلياً ويبحث عن فرصة جديدة بدخل مادي أكبر أو بيئة عمل أفضل يمكنه أن يجد فيها ذاته ويلمع نجمه أو يحصل على منصب أعلى، والغالبية العظمى من الباحثين عن عمل هم من العاطلين على اختلاف مؤهلاتهم سواء ممن سبق لهم العمل وتركوه أو ممن لم يسبق لهم العمل أصلاً.

وفي ظل كافة الظروف والمتغيرات الحالية الإيجابية منها كافتتاح العديد من المشاريع الضخمة أو التوسع في أنشطة العديد من الجهات الحكومية والخاصة أو إنشاء جهات جديدة من شركات وهيئات ومؤسسات، أو السلبية كزيادة أعداد الخريجين بشكل تراكمي بما لا يتوافق مع حاجة سوق العمل، أو الحالة العامة المصاحبة لتفشي جائحة كورونا التي أدت إلى إغلاق العديد من الأماكن أو تسريح جزء من العاملين في أخرى، إلا أن سوق العمل يبقى دائماً قادراً على توليد الفرص التي ينالها كل من يتربص بها ويلاحقها.

وهذه العملية بجملتها معروفة؛ سواء أكانت آليتها عادلة مرات أم مجحفة مراتٍ أخرى.

ولكن يبقى السؤال الذي أطرحه هنا: أين يمكن لذوي الخبرة ممن اضطروا إلى ترك الوظيفة تحت ضغط ظروف حياتية مؤقتة أن يجدوا فرصتهم من جديد؟

هذه الطاقات المعطلة ممن لهم باع طويل في مجال معين ومارسوا في هذا المجال بتفوق ولا زالوا في عمر يسمح لهم بالعطاء.. أين يمكن أن يضخوا عطاءاتهم؟؟

وكيف لهم أن يزاحموا هذا الكم الهائل من المقبلين والمتقدمين على الوظائف من الخريجين الجدد أو حتى ذوي الخبرة من أصحاب المناصب الذين يتنقلون بين جهة وأخرى عن طريق الاستقطاب والإعارة، بينما هناك من يتمتعون بالمعرفة ولديهم المهارات والخبرة ولا يملكون إلا دور المتفرج مقلبين طرفهم بين إعلان وإعلان عن وظيفة وخبر تعيين وآخر حتى يستسلموا رافعين أعينهم إلى السماء، مسلمين أمرهم لله بعد أن فقدوا القدرة على الإمساك ولو بفرصة واحدة أو يجدوا موطئ قدم في هذه الدوامة المتحركة التي لا تستكين.إن مثل هؤلاء قد عبروا شوطاً لا يستهان به في طريق النجاح وتغلبوا على صعوبة البدايات ومعوقات التقدم وتكيفوا مع التغيرات واكتسبوا الخبرة بالممارسة الفعلية حتى أن بعضهم قد ترك بصمة ملموسة وإنجازات تدعو للفخر، ولكن لظرفٍ ما غادروا قطار الوظيفة في محطة حياتية للقيام بدورٍ آخر اضطراراً، وللأسف أبى القطار أن يعود للتوقف من جديد من أجل اصطحابهم من محطتهم ليكملوا رحلتهم نحو تحقيق أحلامهم، ولذلك وجدوا أنفسهم وهم في أوج عطائهم ينظرون من بعيد إلى أحلامهم تلك وأمنياتهم وقد أصبحت ضرباً من المستحيل.

ولا أعلم حقيقةً ماهية الحلول لهذه الأزمة التي قد لا تطال الكثيرين ولكنها حقيقية ومؤلمة ومحبطة جداً لمن يعيشها.

مثل هؤلاء الأشخاص هم فرسان اضطرتهم ظروفهم للترجل عن أحصنتهم وتسليم عنانها لغيرهم مجبرين، ليخوضوا معارك أخرى دفعتهم معطيات حياتهم لخوضها وحين عادوا لشغفهم لم يجدوا من يمكّنهم من امتطاء صهوة العطاء من جديد ولا حتى ليتعلموا منهم!!

لذلك فهم فعلياً طاقة مهدرة يمكن الاستفادة منهم في مناحٍ عدة كالتخطيط أو دراسة المخاطر أو الاستشارات والتطوير بحسب مجالاتهم التي يتقنونها.

ومهما كانت الدراسة والمؤهلات هامة جداً وضرورية، ولكن سنوات منها بالكاد تضاهي الممارسة الفعلية لعدة أشهر.

والفرق كبير بين من فقد شغفه ونفدت قدرته على العطاء وترك عمله باختياره غير مجبر، وبين من اضطر في أوج عطائه وشدة توهجه أن يتنازل مجبراً عن مكانه ويغادره وهو يحمل معه صندوقاً يحوي أوراقاً وعلبة نظارته وكوب قهوته وحفنة ذكريات والكثير الكثير من الشغف، هذه اللحظة وما بعدها لا يمكن أن يشعر بثقلها إلا فارسة ترجلت مثلي وتحلم أن تعود لتمسك بزمام جواد..

* فسحة أمل:

أهبتُ بالحظ لو ناديتُ مستمعاً

والحظ عنيَ بالجهال في شغُلِ

لعله إن بدا فضلي ونقصهمُ

لِعَينِهِ نام عنهم أو تنبه لي

أعلل النفس بالآمال أرقبها

ما أضيق العيش لولا فسحة الأملِ

- الطغرائي
00:03 | 1-04-2021