-A +A
خالد بن عبدالعزيز أبا الخيل
ليس من وظيفة العالم الذي شرفه الله بالعلم وحمله مسؤولية البلاغ عنه أن يفتي بما يوافق رغبة الحاكم ورأيه، ولو فعل ذلك لم يكن عالماً؛ لأن مدار العلم وقانونه في الإسلام هو خشية الله تعالى ومراقبته لا خشية الخلق ومراقبتهم «إنما يخشى الله من عباده العلماء»، وإذا فرغنا من تقرير هذه القاعدة فإن ثمة قاعدة أخرى لا تقل عنها أهمية، وهي أن انتماء العالم للدولة وإيمانه بالاستحقاقات الشرعية لولي الأمر هي شروط موضوعية للعالم الشرعي في مفهوم أهل السنة والجماعة، ولا يصح أن ينال هذا الوصف من تخلف عنه هذا الشرط، وعليه فمن خالفه بأن خرج عن إطار الدولة وانحاز إلى غيرها فهو ليس بعالم مهما كثر محفوظه وعظم اطلاعه، بل هو من رؤوس أهل الضلال والفساد؛ لأن العالم يجب أن يكون مع جماعة المسلمين وإمامهم، وقد تواردت النصوص بالحث على ذلك بما لا حاجة لذكرها هنا، حيث سبق أن ذكرتها في المقال السابق (مفارقة الجماعة: الخطيئة المشؤومة)، لكن أذكر هنا من تطبيقات السلف ما يؤكد استقرار هذا المفهوم عندهم بشكل لا يقبل الجدل، وأن الانتماء لغير الدولة والخروج عن إطارها ونظامها الشرعي يعني عندهم هو الانحياز لعدوها وتلبسه بوصف الضلال والبدعة لا وصف الحق والسنة، فمثلاً في سيرة الإمام العالم وهب بن منبه -ووهب هذا كان من كبار العلماء- أبرز مثال على ذلك، فقد كان وهب يوصي أصحابه بعدم الركون إلى الدنيا والحذر من التردد على أبواب السلاطين، حتى قال مرة لعطاء الخراساني في موعظة مؤثرة- كما في حلية الأولياء: «كان العلماء قبلنا قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إلى دنيا غيرهم، وكان أهل الدنيا يبذلون لهم دنياهم رغبة في علمهم، فأصبح أهل العلم اليوم فينا يبذلون لأهل الدنيا علمهم رغبة في دنياهم، وأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم؛ لما رأوا من سوء موضعهم عندهم، فإياك وأبواب السلاطين، فإن عند أبوابهم فتناً كمبارك الإبل، لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا وأصابك من دينك مثله». ثم قال: «يا عطاء، إن كان يغنيك ما يكفيك فكل عيشك يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيء يكفيك، إنما بطنك بحر من البحور، وواد من الأودية، لا يسعه إلا التراب».

إن هذا الموقف الصارم من الإمام وهب بن منبه وتأكيده على الحذر من التردد على أبواب السلاطين لم يجعله أبداً في موقف المعارض للحاكم والمشغِّب عليه، بل كان يرى أبعد من ذلك، فقد كان يرى -رحمه الله- أن الشك بالسلطان والثقة بغيره هي مؤشر بيّن على فساد اعتقاد هذا الفاعل، بل وانحيازه لفرقة الخوارج، وفي هذه القصة التي رواها المزي في (تهذيب الكمال) ما يؤكد ذلك، يقول الراوي: إن قوماً من أهل صنعاء أرسلوا لرجل يقال له (شمر ذو خولان) ونص الكتاب فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، إلى أبي شمر ذي خولان: سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له، فإن دين الله رشد وهدى في الدنيا ونجاة وفوز في الآخرة، وإن دين الله طاعة، ومخالفة من خالف سنة نبيه وشريعته، فإذا جاءك كتابنا هذا فانظر أن تؤدي -إن شاء الله- ما افترض الله عليك من حقه تستحق بذلك ولاية الله وولاية أوليائه، ولا تؤد زكاتك إلى الأمراء لا تجزي عنك فيما بينك وبين الله، لأنهم لا يضعونها في مواضعها فأدها إلينا فإنا نضعها في مواضعها، ونقسمها في فقراء المسلمين ونقيم الحدود، والسلام عليك ورحمة الله» انتهى الخطاب، وبادئ الرأي العابر أنه ليس فيه ما يستنكر: يوصونه بتقوى الله تعالى، واتباع السنة، ويأمرونه أن يؤدي زكاته لهم؛ لأنهم سيضعونها في موضعها حتى يستحق بذلك ولاية الله، لكن وهب بن منبه -وهو العالم العارف- فهِمَ غير هذا، إذ لما جاء إليه هذا الرجل ودفع إليه هذا الكتاب لينظر ما فيه رأى أنه دعوة رسمية بالانشقاق عن الدولة! وغضب أشد الغضب، فانطلق واعظاً ومحذراً لهذا الرجل من الانحياز لهذه الجماعة، وكان من جملة ما ألقاه على الرجل: يا ذا خولان أتريد أن تكون بعد الكبر حرورياً؟ تشهد على من هو خير منك بالضلالة؟ فماذا أنت قائل لله غداً حين يقفك الله؟ ومن شهدت عليه، الله يشهد له بالإيمان، وأنت تشهد عليه بالكفر!، والله يشهد له بالهدى، وأنت تشهد عليه بالضلالة؟! فأين تقع إذا خالف رأيك أمر الله وشهادتك شهادة الله؟ ثم أكمل موعظته بكلام عظيم -ولكأنه والله يتحدث عن جماعات عصرنا- قال رحمه الله: «ألا ترى يا ذا خولان أني قد أدركت صدر الإسلام، فوالله ما كانت للخوارج جماعة قط إلا فرقها الله على شر حالاتهم، وما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقه، وما اجتمعت الأمة على رجل قط من الخوارج، ولو أمكن الله الخوارج من رأيهم لفسدت الأرض، وقطعت السبل، وقطع الحج عن بيت الله الحرام، وإذن لعاد أمر الإسلام جاهلية حتى يعود الناس يستعينون برؤوس الجبال كما كانوا في الجاهلية، وإذن لقام أكثر من عشرة أو عشرين رجلاً ليس منهم رجل إلا وهو يدعو إلى نفسه بالخلافة، ومع كل رجل منهم أكثر من عشرة آلاف يقاتل بعضهم بعضاً ويشهد بعضهم على بعض بالكفر حتى يصبح الرجل المؤمن خائفاً على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله، لا يدري أين يسلك أو مع من يكون» ثم ختم موعظته بقوله: «غير أن الله بحكمه وعلمه ورحمته، نظرَ لهذه الأمة فأحسن النظر لهم، فجمعهم وألف بين قلوبهم على رجل واحد ليس من الخوارج، فحقن الله به دماءهم، وستر به عوراتهم وعورات ذراريهم، وجمع به فرقتهم وأمن به سبلهم، وقاتل به عن بيضة المسلمين عدوهم، وأقام به حدودهم، وأنصف به مظلومهم، وجاهد به ظالمهم، رحمة من الله رحمهم».


ولو نلاحظ هنا أنه لم يرد في هذا الخطاب أي إشارة إلى أن الفرقة أو الجماعة التي أرسلته من الخوارج، لكن وهب بفقهه الدقيق كان ينظر إلى الجانب الموضوعي في الأمر لا الجانب الشكلي، فرأى رحمه الله أن التشكيك بالحاكم ونزع الثقة المالية منه هو مؤشر واضح على خروج هذا التصور عن مفهوم أهل السنة والجماعة للعلاقة مع الحاكم وانتقاله إلى مفهوم الخوارج الأولين، وهذا يؤكد ما نحن بصدده، وهو ضرورة وجود العلاقة الشرعية بين العالم والدولة، كما تؤكد هذه القصة في الوقت نفسه أن استقلال العالم بالفتوى والرأي لا يعني أبداً خروجه عن إطار الدولة أو عدم الانتماء لها أو عدم التأكيد على شرعيتها، أو الاستنكاف بإعلان البيعة للحاكم، ولو أردنا أن نستعرض مواقف السلف وتطبيقاتهم في هذا الباب لطال بنا المقام لكن المقصود -كما قلنا- التنبيه على خطورة الفهم الفاسد لفكرة «العالم المستقل»، وأن العالم لا يسمى عالماً حتى يخرج عن عباءة الدولة وينأى بنفسه عن تأكيد شرعيتها، فهذا الفهم قطعاً ليس هو فهم السلف، بل هو فهم بدعي حادث؛ لأنه مستورد من فقه الحركة والحزب، لا فقه الجماعة والأمة.

* كاتب سعودي