-A +A
عزيزة المانع
البرتو مورافيا الروائي الإيطالي الشهير، له رواية اسمها (السأم)، تعد من أشهر رواياته وقد نالت جائزة الأدب الإيطالية، في هذه الرواية يتناول مورافيا قضية الملل الذي يصيب الناس وأثر ذلك على حياتهم، ويمكن القول إن الرواية تتضمن رؤيته الذاتية للملل وفلسفته الخاصة حوله.

مورافيا يرجع معظم مشكلات الحياة وما يحدث فيها من مآس وجرائم وقتال وحروب، إلى الملل الذي يلقي بردائه المظلم على أعين الناس فيجعلهم لا يبصرون، فينطلقون يتصرفون بعبث لا غاية له، تحت تأثير رغبتهم في الهرب من قمقم الملل الذي يخنقهم.


هنا، لسنا بصدد مناقشة هذه الفكرة، والتحقق من صدقها أو عدمه، لكنها بلا شك تثير في النفس رغبة في التأمل في ما يفعله الملل بالناس في كثير من الأحيان، فالملل عند التأمل في حقيقته، يظهر شيطانا مدمرا يخبئ خلفه كثيرا من الأشواك المزروعة في حياة الناس.

مثلا هل من تفسير لتلك الرغبة المجنونة لدى الناس في الإقبال على استهلاك الطعام والتنويع فيه والتفنن في طرق طهيه وتقديمه، هل من تفسير لها سوى أنها امتثال لأمر الملل؟ أليس هذا ما قاله قوم موسى حين طلبوا المزيد من التنوع في غذائهم؟ {وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد، فأدع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها..} وليس الإسراف في استهلاك الطعام والتفنن في أشكاله هو الشر الوحيد الذي يختبئ خلف الملل، هناك شرور أخرى كثيرة، فالملل تجده قابعا خلف الإنفاق المسرف الذي يتراكض وراءه الناس ليقتنوا الملابس والحلي والحقائب والأحذية وغيرها من أدوات التزين، أو ليغيروا سياراتهم وأثاثهم وبيوتهم دون حاجة.

وشيطان الملل لا يختبئ خلف هذا فحسب، هو يغير مكانه من حين لآخر، فهو أحيانا يختبئ خلف صياغة الأكاذيب وإطلاق الشائعات، ويختبئ خلف الخيانات الزوجية، وخلف علاقات الحب الساخنة فيحيل حرارتها إلى صقيع.

الملل وحش لا يمكن القضاء عليه، ولا الهرب منه، فهو رفيق دائم للاعتياد الذي يطفئ الإثارة والبهجة، فمن يقتضي عمله كثرة الأسفار والتنقل، يردد دائما مللت من كثرة الارتحال، متى أنعم بالاستقرار؟ ومن ينعم بالاستقرار، لا يعدم التذمر من كآبة الروتين وقبح المكوث الطويل. وقد يحب الإنسان مكانا ما فيذهب إليه بشغف وشوق، لكنه متى أطال البقاء، أخذت نفسه تميل إلى الارتحال عنه.

من طبيعة البشر كره الرتابة، وربما لذلك فطر الله الوجود على التنوع والتنقل المستمر ما بين حر وبرد، وليل ونهار، وغيم وصحو، وبحر وصحراء، وسهول وجبال، فهذا التنوع والتغير الدائم في الطبيعة هو ما يتسق مع ما فطر الله عليه عباده من غلبة الملل عليهم وتطلعهم الدائم إلى التغيير والتنقل.

azman3075@gmail.com