-A +A
نجيب يماني
ولأني قد وطّنت نفسي منذ أن تجرّأت بحرفي على الكتابة في الصحافة أن أشغل المساحة في طرح القضايا العامة، وما يهمّ حياة النّاس، سعياً نحو القواسم المشتركة، ونأياً عن طرح كل أمر شخصي..

أجد نفسي مضطراً للخوض في أمر شخصي بكل تفاصيله الحزينة، وبكل ما صاحبه من مرارة الفقد، ووحشة الرحيل الفاجع لحفيدي الشاب بكر باسم خوجة، الذي لقي وجه ربه إثر سقوطه من بناية عالية في القاهرة..


كانت الحادثة فاجعة، والرحيل مرا، والنبأ صاعقا وحزينا، أورثنا حزناً عميقاً، وكدّر علينا العيش، فقد كان «بكر» ريحانة القلب، وبسمة الفؤاد، وعنوان المستقبل.. صدق فيه قول القائل «ليس أحب من الولد إلا ولد الولد»، فقد كان حبيب قلبي، وقرّة عيني.. وحيد ابنتي «رانية»، التي خرجت به من دنياها، المليئة بالمآسي الفواجع، فرحمتك يا الله بابنتي، اربط على قلبها، وأفض عليها من نعماء فضلك وعطفك سلواناً يذهب به حزنها الذاهل على فقد وحيدها.. فقد نذرت نفسها له، وكرست حياتها من أجله.. ولكنه مضى إليك، فرضِّنا اللهم بقضائك، ولا تجعلنا فريسة لنوازع النفس وضعفها في ساعة الحزن والفقد الأليم..

نعم؛ كان رحيلاً بطعم المر وحدثاً خاصاً بالمعنى المعروف لأحزان الرحيل، وفواجع الموت، لم يكن مستغرباً أن تلتف حولنا قلوب مواسية، ومآقٍ بكت بصدق هذا الرحيل، فالشكر لكل من واسانا منذ ساعة الوفاة وحتى اللحظة، لكن المستغرب حقاً، والذي جعل من حزننا شأناً عاماً يستوجب مني هذه الوقفة، أن يخالف «البعض» سنن النفوس السليمة في لحظة الموت، ويغادروا مربع المواساة المطلوبة، واستمطار الرحمة المرجوة، إلى جعل حزننا مدخلاً لتصفية الحسابات، والطعن من الخلف بالنصال السامة، والخناجر الصدئة، فقد استقبلت هواتفنا رسائل ما ظننا أنها يمكن أن تصدر عن نفوس سوية تستشعر معنى الموت، وتعرف حق الله ورسوله في مواساة أصحاب الفقد، لتجعل من الحادثة فرصة لنفث سخام نفوسها الوضيعة، وقيح أفئدتها السقيمة، يطعنون ظهري المكسور من طرف خفي.. ألا ما أوضع النفوس، وما أرخص الذوات السقيمة، أهكذا يواجه الرجال الرجال؟.. هل هذا صنيع رجال عرفوا الله حقاً، والتزموا أدب نبيهم الكريم؟ أهذا فعل رجال «محترمين»، يستحقون أن يتشرفوا بالانتساب إلى الإنسانية، ناهيك أن يعدوا من الرجال، وينسبوا للإسلام..

لم أجد لهم من واصف إلا قول القائل:

«أملٌ وانهارْ

ماتَ.. ولم يترك تذكارْ

مات.. وهأنذا أسمع صوت مناحته في الدار..

مات.. وشيعناه وصلينا وأنبنا بعد بكاءٍ حار

وأتى من لا يعنيه الأمر.. ولم يحزن

جاء ليشرب قهوتنا..

يغتاب الناس.. وينتهك الأسرار

ويقهقه..

ضحكته كالنصل..

دعى الموتى يبكون على الموتى..

ما كان سوى أملٍ وانهار»..

اعذرني يا «بكر».. وأنا انصرف عن حزني إليك لأرد على «هؤلاء»، فقد آذونا فيك بما قالوا، ونحن ربيناك صغيراً، ونعرف من ربينا، ورعيناك صبيا، ونعرف من رعينا، ومحضناك كريم الخصال الموروثة كابرا عن كابر، فما حدت عنها قيد أنملة، وكنت كما يجب أن يكون حفيدنا في رفعة المعاني، وسمو الأخلاق.. وتلك خصال لا ندعيها، ولكنها مسطورة في جيناتنا، بها نفاخر؛ لا عن تعالٍ وزهو، ولكن نذكرها في مقام الحمد والمنّة لله الذي أكرمنا بها، وسار ذكرها في الناس بيننا..

لم يحترموا رحيل روح غضّة إلى بارئها، ولم يجدوا لنصالهم من ساعة للشحذ والإيغار إلا لحظة رحيلك الفاجع.. إن فاتهم وعيد المصطفى من صنيعهم هذا، فلا بد أن نذكرهم بأنك خصيمهم يوم الموقف العظيم، وصفهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمفلسين الذين يأتون يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتون وقد شتموا هذا، وقذفوا هذا، وأكلوا مال هذا، وسفكوا دم هذا، فيؤخذ من حسناتهم، فإذا فنيت، قبل أن يقضى ما عليهم، أخذ من خطاياهم فطرحت عليهم، ثم طرحوا في النار..

نعلم على أي خلق كنت، وأي مسلك كنت تسلك، ويكفي أنه قبل رحيلك بيوم واحد، هاتفني من كنت مرافقاً له في مرضه يشيد بصنيع قمت به، دون رجاء حمد منك، ولكنها الخصال التي تربيت عليها، وما درى من رماك بما رماك به ظلماً أن ما قاله مردود عليه، فلو أن ما زعمه كان صحيحاً وهو غير صحيح. ألم يكن حرياً بأن يخلص لدينه ويستر من أمرك ما أوجبه الله عليه من ذلك، هذا إذا اطلع المسلم على الأمر وأدركه يقيناً، فكيف به وهو يظن ظنّاً ويتخرّص تخرّصاً.. رحمة الله عليك يا بني، وأنزلك الله منازل الأبرار، وعوّض شبابك بالجنة، وربط على قلب أمك، وأفاض عليها من برد الطمأنينة بقضائه وقدره ما يشرق به قلبها المكلوم سكينة وسلواناً وإني متأكد من رحمة الله بها وأنها أهل لهذه الرحمة فقد عهدتها قوية صابرة رماها الدهر بالأرزاء حتى أصبح فؤادها غشاء من نبال.. وموعدنا مع من آذى روحك الطيبة يوم الجزاء والحساب عند الذي لا يظلم مثقال ذرة.

وإنا لله وإنا إليه راجعون..