-A +A
محمد مفتي
خلال فترة قياسية وجيزة وبعد ما يقرب من الأسابيع الثلاثة على الحادث الدموي بإسطنبول ليلة رأس السنة 2017، ألقت السلطات التركية القبض على السفاح الذي تسبب في المذبحة التي راح ضحيتها قرابة الأربعين ضحية من الأبرياء ممن لا ذنب لهم ولا جريرة. لقد ذكرت الصحافة التركية أن القاتل كان مختبئاً تحت أحد الأسرة في الشقة التي كانت وكراً له وللتنظيم، وكانت أول صيحة له عند القبض عليه «لا تقتلوني»، حيث بدا مذعوراً خائفاً مرتعشاً زائغ العينين كالفأر المرعوب، وقد وجدت الشرطة بحوزته ما يقرب من المئتي ألف دولار، وهو على ما يبدو الثمن الذي قبضه لقاء إزهاق أرواح الأبرياء بسلاحه الفتاك، في تناقض صارخ ومفارقة ظاهرة لما يمكن أن يمثل عقيدة أو مبدأ يتم تثمينها بألوف الدولارات.

بعد استجواب القاتل صرح هذا المجرم بأن الضحايا هم كفار ولذا قام بقتلهم، وهو منطق لا أعتقد أنه هو نفسه مقتنع به، فهل قام باستجوابهم قبل قتلهم، هل شق صدورهم لمعرفة أي ملة يتبعون، يذكر القاتل أنه وقبل توجهه إلى مطعم رينا أراد القيام بفعلته في ساحة التقسيم بوسط المدينة، إلا أن التشدد الأمني جعله يبحث عن جهة أخرى، حيث صال وجال على ساحل البوسفور بحثاً عن مكان آخر بعيداً عن أعين الأمن التركي حتى وجد هذا المطعم اليتيم، وهذه التصريحات تخالف كثيراً أولئك المحللين الذين ادعوا أن ما قام به المجرم هو بسبب احتفالهم بليلة رأس السنة، فساحة التقسيم لمن لا يعرفها هي ساحة تجمع بين جوانبها المئات من الأسواق والمقاهي والتي تكتظ بها شتى الديانات فهل كان سيتحرى عن دياناتهم قبل قتلهم.


إن تحليل شخصية هذا القاتل وأمثاله تساعد كثيراً في معرفة كيف يقوم تنظيم داعش باصطياد القتلة المأجورين، لذلك لا نجد أي غرابة في أن يلجأ داعش لاستئجار هذا الأوزبيكي الفقير المعدم الناقم على الحياة والظروف المعيشية ليقوم بهذا الفعل المريع بهدف تحقيق حلم الثراء السريع، دون وطأة أي شعور بالذنب وتحت غطاء أيديولوجي زائف بأن ما يفعله هو أمر ديني يثاب عليه بل ويدخله الجنة! فلهذا التنظيم قدرة على اصطياد هذا الرجل وأمثاله ممن ألقت بهم الحياة في غياهب الفقر والسخط والنقمة على كل من حوله، فلم يجدوا أمامهم ملجأً يُنفسون من خلاله عن الحقد الذي يمور في أنفسهم إلا بقتل الآخرين بوحشية وضراوة كثر تكرارها في السنوات الأخيرة من عمر البشرية، لأسباب عديدة تعجز هذه المساحة المحدودة عن ذكرها.

لا يختلف هذا الرجل كثيراً عن الإرهابيين ومنهم الذين قامت المملكة أخيراً بمداهمة وكرهم في حي الياسمين بالرياض وقتلهم، فهم نفس الفكر والسلوك، تتشابه ظروف حياتهم ونفسياتهم السوداء وأعماقهم المظلمة، لذلك نجدهم يعمدون لارتكاب المذابح وإيقاع أعداد غفيرة من الضحايا علها تنفس عن أحقادهم وتخرج المقموع داخل نفوسهم الموحلة الحاقدة على كل ذي نعمة بالمجتمع، فداعش ليس مظلة فكرية يعتنقون أفكارها ومبادئها ويدينون بعقائدها كما يظن البعض، بل هو مظلة إرهابية يخبئون في ظلالها عقدهم النفسية الدفينة وإخفاقاتهم في الحياة وسط الآخرين، وهو الأمر الذي يتبدى جلياً في أمرين، أولهما: طبيعة العمليات النوعية التي يقوم بها أعضاء هذا التنظيم وقادته، مثل قيامهم بتفجير قاعة مكتظة بالمسافرين بالمطار، أو تفجير قاعة أفراح تعج بالمدعوين، أو تفجير سيارة ملغومة في سوق شعبي يمتلئ بالبسطاء، أو إطلاق الرصاص الحي على مطعم راقٍ يقصده الأثرياء والأجانب، فكل هذه العمليات الإرهابية تستهدف القضاء على جموع غفيرة من البشر دون التمييز بين أي منهم، سواء كانوا رجالا أو نساء أو أطفالا، بيضا أو سودا، مسلمين أو غير مسلمين، فالهدف هو تنفيذ مذبحة مروعة تقشعر منها الأبدان وتسيل فيها الدماء بحاراً.

الأمر الثاني: هو استهدافهم للمدنيين الأبرياء؛ فغالبية عمليات تنظيم داعش الإرهابي لا تستهدف أهدافاً عسكرية مسلحة أو نقاطاً أمنية محمية، بل تستهدف جموع المدنيين في غفلة منهم، بجبن وخسة لا مثيل لها، تطعنهم من الظهر وتفر هاربة، وبتحليل موجز للأمرين معاً نكتشف أن أهداف هذا التنظيم من قتل لجموع غفيرة من المدنيين الأبرياء لا يمكن أن تنتمي بأي صورة من الصور للجهاد أو للفكر الأيديولوجي، فهي عمليات انتقامية إرهابية بحتة لا هدف ولا مبتغى منطقي لها سوى الزهو بالإجرام والفخر بإيقاع الرهبة والفزع في النفوس دون تمييز.

لعله من فضلة القول أن نوضح أن جميع المهمشين والفقراء في مجتمعاتهم -في أي دولة- هم قنابل مرشحة للانفجار في أي وقت، فقد يُسيل داعش لعابهم بالأموال الكثيرة، وقد يؤجج صدورهم ضد أبناء مجتمعاتهم ممن أولوهم ظهورهم ولم يحرصوا على دمجهم في أنشطة المجتمع وفعالياته، وقد يتمكنون من إغرائهم بتنفيذ عمليات إرهابية تشفي صدورهم وتخرج مكبوتات صدورهم، ومن المؤكد أن الرؤية الأمنية الدقيقة في المملكة -بجانب برامج الرعاية الاجتماعية بالطبع- هي التي تمنع أمثال هؤلاء من التصريح عما يمور في أعماقهم من حقد وعنصرية وغضب، فالخلايا الإرهابية النائمة سواء كشفت عن نفسها أو ظلت حبيسة المكان غير قادرة على الكشف عن مكنوناتها الدفينة، غير أن وجودها يعبر في بعض الأحيان عن خيوط تربط بين مصالحها وبين مصالح الدول الغربية التي تجمعها ببعض مخابرات دولها علاقات قوية، وهو الأمر الذي سيتضح قريباً بعد القبض على سفاح إسطنبول والكشف عما اعترف به في التحقيقات.

mohammed@dr-mufti.com