-A +A
نجيب يماني
عزّ عليَّ يا صاحبي «الحكيم» أن أهتدي إلى مذهبك الخاص في العشق، ومفهومك الأخص عن المرأة الحبيبة، فما نظمته في حقّها، لا يكاد يخرج عن دائرة «الاعتياد» في سياق الاستفتاح بذكر الغزل كما جرت العادة، إذ لم أعرف لك حبيبة بالاسم مثل كثير من الشعراء الذين ارتبط ذكرهم بعشيقاتهم.

أما أنت فقد صرفتَ الشعر لمطمح أهلكك، وغاية لم تبلغ منها إلا السراب، رغم أنك بذلت في سبيلها زبدة شعرك، وسنام حكمتك، وخلاصة تجربتك.


فلو أنك صرفت القليل من ذلك للمرأة وهي الجديرة بموهبتك العظيمة لملأت الدنيا حبًّا وشغلت العشّاق بنظمك دون أن يضيفوا إليه مزيدًا، بمثل ما شغلت أرباب الحكمة فاستأنسوا بشعرك وقدموك على غيرك.

هل تجد في ما أقول تجنيًا عليك، أو تزيّدًا على «مشاعرك»، وأن تلوّح لي كالمعترض ببيتك السيّار

الحُبُّ ما مَنَعَ الكَلامَ الألْسُنَا

وألَذُّ شَكْوَى عاشِقٍ ما أعْلَنَا

قرأت بيتك هذا ووقفت عنده، فما أبرعك وأنت تؤكد تعطّل لغة الكلام في حضرة الحبيب، فبمثلما أنه إذا «اتسعت الفكرة ضاقت العبارة»، فمن باب أولى أنه إذا جاش الحب انمحت العبارة، وصمت الكلام، وبقي الوجيب، والنبض الوثّاب، لكنك إنْ صدقتَ في الشطر الأوّل من البيت، فلمَ لمْ تلتزم بعجزه، وترينا لذات الشكوى المعلنة في شعرك.

لقد قصّرت في ذلك كل التقصير يا حكيم بالقياس إلى فائض المدح الذي بذلته لمن لا يستحق رجاء مالٍ لم تنعم به، وسلطة لم تبلغ منها طيف كرسيّها المبهرج.

إنك عمّمت ولم تخصص، وهائج الفضول فينا ما يزال يبحث عن اسم من أحببت، فلا نعرف لك حبيبة بعينها إلا ما ذكره البعض من تعلّق عائشة بنت رشدين بك، وزجر فؤادك عنها، برغم رقّة ما طويته فيه لها. هكذا يزعم الأديب علي الجارم، في سفره «الشاعر الطموح»، انظر إليه وهو يصوّر التقاءك بها في تلك الليلة المؤنسة بقوله جلست عائشة إلى جانب المتنبي ذاهلة اللّب مبددة الفكر، ولكنها بعد حين استطاعت أن تجمع أشتات خواطرها، وأن تنفض عنها قطرات الموجة التي غمرتها، ثم اتجهت إلى المتنبي وقالت لعلك رأيت يا سيدي في مصر ما يسليك عن الشام؟

أهكذا كان حالها من الوله والتدلّه، وحالك من النفور وفتور القلب المنصرف إلى غاية بعيدة، وأفق أبعد، وهو يصف حالتك بقوله «كان أبو الطيب مطرقًا معجبًا بما يسمع، وكلما رفع بصره رأى جمالًا أعجب مما يسمع وأروع، فثارت في نفسه ثائرة واهنة القوى من الميل ولكنها لم تجد السبيل إلى قلبه المملوء بالمطامع والآمال».

إن هذا التصوير مهما بعدت به روح الصياغة وشطط الخيال أقرب عندي في رسم مشاعرك تجاه المرأة من زعم آخرين بوجود «عقدة» في حياتك حيال المرأة، فلم تجد لها حظًّا من شعرك إلا بعض أبيات تستفتح بها، وتجري بها على مجرى العادة دون القصد، ولم يعهدوا عنك في شعرك قصيدة مفردة في الغزل، أو ذكر محبوبة تنسب إليك، أو تنسب إليها، بل إنهم لا يعرفون عن أم محسّد؛ ابنك، أي شيء على الإطلاق، وكيف التقيتها، وهل أحببتها، ومتى تزوجتها؟

كل ذلك في طوايا النسيان، والذاكرة المخفية، ولا شيء في هذا السياق إلا تعميمًا بلا تخصيص، وكساءً عامًا من المشاعر، يرتديه من به إليه حاجة، من مثل قولك

حُشاشةُ نَفسٍ وَدّعتْ يوْمَ وَدّعوا

فَلَمْ أدرِ أيّ الظّاعِنَينِ أُشَيِّعُ

أشاروا بتَسْليمٍ فَجُدْنَا بأنْفُسٍ

تَسيلُ مِنَ الآماقِ وَالسَّمُّ أدْمُعُ

فمن هم الذين ودعتهم، ومتى كان ذلك؟ وكيف أشاروا لك حتى جُدتَ بنفسك فسالت عيناك دمًا كالسم النقيع، ألا ما أروع التصوير، وأكذبه، لا تشر إليّ بقولك:

في الخَدّ أنْ عَزَمَ الخَليطُ رَحيلا

مَطَرٌ تَزيدُ بهِ الخُدودُ مُحُولا

يا نَظْرَةً نَفَتِ الرُّقادَ وغادَرَتْ

في حَدّ قَلبي ما حَيِيتُ فُلُولا

كَانَتْ مِنَ الكَحْلاءِ سُؤلي إنّما

أجَلي تَمَثّلَ في فُؤادي سُولا

أجِدُ الجَفَاءَ على سِواكِ مُرُوءَةً

والصّبرَ إلاّ في نَواكِ جَميلا

وأرَى تَدَلُّلَكِ الكَثيرَ مُحَبَّباً

وأرَى قَليلَ تَدَلُّلٍ مَمْلُولا

فو الله إن له في فؤادي وقعًا محببًا، لكنه لا يزيدني إلا حيرة في أمرك، وأسئلة قلقة عن سر علاقتك المبهمة حيال المرأة الحبيبة، والتي لم أجد ما يفك مغلاقها، ويضيء سراديبها من سائر شعرك

قرأت قولك:

لعَيْنَيْكِ ما يَلقَى الفُؤادُ وَمَا لَقي

وللحُبّ ما لم يَبقَ منّي وما بَقي

وَما كنتُ ممّنْ يَدْخُلُ العِشْقُ قلبَه

وَلكِنّ مَن يُبصِرْ جفونَكِ يَعشَقِ

وثنيت في القراءة وأعدت على خاطري قولك البهي:

لَيَاليّ بَعْدَ الظّاعِنِينَ شُكُولُ

طِوالٌ وَلَيْلُ العاشِقينَ طَويلُ

يُبِنَّ ليَ البَدْرَ الذي لا أُريدُهُ

وَيُخْفِينَ بَدْراً مَا إلَيْهِ سَبيلُ

كل ذلك رائع وجميل، وجواهر نقلّدها أعناق الحبيبات فيزدهين بها، ونسترجعها في مقام الحب والعشق والتدلّه والهوى، فنتحرّق جوًى لكنك تبقى متواربًا خلفها، ولا أدري إن كان ذلك عن حياء وخجل، أم هو قول مرسل بغير «تجربة» حقيقية..

غير أن الثابت عندي والمؤكد أنك تركت خلفك ما يحرج «حبيباتنا» اليوم، وأنت تعقد لواحظ الحسن اللافت، والجمال الفاتن بين «البدويات والحضريات»، بقولك:

ما أَوجُهُ الحَضَرِ المُستَحسَناتُ بِهِ

كَأَوجُهِ البَدَوِيّاتِ الرَعابيبِ

حُسنُ الحَضارَةِ مَجلوبٌ بِتَطرِيَةٍ

وَفي البَداوَةِ حُسنٌ غَيرُ مَجلوبِ

أَينَ المَعيزُ مِنَ الآرامِ ناظِرَةً

وَغَيرَ ناظِرَةٍ في الحُسنِ وَالطيبِ

أَفدي ظِباءَ فَلاةٍ ماعَرَفنَ بِها

مَضغَ الكَلامِ وَلا صَبغَ الحَواجيبِ

وَلا بَرَزنَ مِنَ الحَمّامِ ماثِلَةً

أَوراكُهُنَّ صَقيلاتِ العَراقيبِ

وَمِن هَوى كُلِّ مَن لَيسَت مُمَوَّهَةً

تَرَكتُ لَونَ مَشيبي غَيرَ مَخضوبِ

حنانيك يا «متنبي» فقد قرُبتْ المسافات، وكلّ حسن بات مجلوبًا، و«بيوتات» التزيين باتت ضرورة للعيش، وغزت كل مكان، وعمليات التجميل موّهت وغيّرت و«علبة المكياج» استوطنت في كل حقيبة يد وما وجدت أطرف تشبيهًا لها من وصف أحد «الخبثاء» بأنها «أدوات النصب والاحتيال».. وما زال فينا متسع للحب والعشق حتى مع «التطرية» والحسن المجلوب فتأمل!