-A +A
عقل العقل
أتاحت لنا منتجات الغرب الكافر في نظر بعض المتطرفين في مجتمعاتنا، أن نتناقش في قضايانا وأمور العالم من حولنا، لا يمنع البعض المتشدد منا الأحادي التفكير النظر للآخر المختلف بالشك والاحتقار، والغريب أن منتج حضارة هذا الآخر المنبوذ ثقافياً وحضارياً عند بعضنا هو ما يجعل حياته مريحة وعمره طويلاً، وهذا ليس فيه طبعاً ظلم للحضارات الأخرى ومشاركتها في التقدم العملي للبشرية على مر العصور. مجتمعاتنا وخاصة العربية - الإسلامية تعيش في حالة انفصام عجيب بتعاطيها مع الغرب الرأسمالي اقتصادياً المسيحي دينياً، من يسمع طرح البعض يعتقد أن هذا الغرب لا ينام ويخطط المؤامرات ضدنا فقط، ويرى على الجانب الآخر شعوباً خاملة اقتصادياً تعتمد في الأغلب على استيراد أغلب احتياجاتها من تلك الدول المنهارة أخلاقياً في نظرهم.

عملت في لندن لمدة تقارب عقداً من الزمن في نهاية القرن الماضي، وكان معنا زميل إنجليزي في منتصف العمر وهو رجل محافظ سياسياً وأخلاقيا ودينياً ويحترم الأديان الأخرى، اللافت في زميلنا الإنجليزي أنه وطوال تلك السنين كان يقدم إلى لندن كل يوم بالقطار، وفي المساء يعود بقطار ثانية إلى مدينته بالجنوب الإنجليزي ولمسافة ساعة ونصف كل يوم، وكنا نستغرب هذا السلوك منه، لماذا لا يستأجر شقة في العاصمة ويذهب لعائلته في نهاية الأسبوع، ولا أتذكر من فتح الموضوع معه، وكانت الإجابة فيها الكثير من المعاني والقيم الإنسانية الجميلة التي يعبر فيها ابن لوالده في أي مجتمع إنساني بعيداً عن التنميطات المسبقة، زميلنا «ديكيز» يعود كل يوم لرعاية والده المريض مرضاً عضالاً وهو الزهايمر، ووالدة زميلنا قد توفيت قبل سنوات، جل وقت زميلنا الإنجليزي يقضيه برعاية والده حتى أنه باع منزله واشترى منزلاً قريباً لبيت والده ليكون هو وزوجته وأولاده قرب والده وجدهم في حياته الصعبة.


هذا مثال وقفت عليه للتماسك الأسري في بعض المجتمعات الغربية، طبعاً هذا لا يعني أنه ليس هناك في عالم السياسة والاستعمار المباشر ظلم وقع على شعوب العالم الثالث وطمس هويتها الثقافية والدينية، فقط لنلقي نظرة على القارة الأفريقية أو في عالمنا العربي ونراقب دولاً شعوبها فقدت هوياتها الثقافية حتى لغاتها الأصلية أصبحت هي الثانية في لغة تخاطبها ومكاتباتها الرسمية.

في عالم العولمة وخاصة مع الانفتاح الاقتصادي وثورة المعلومات وحريتها يعتقد المرء أن الموضوعية والنظرة الإنسانية للآخر ستكون هي السائدة في هذا الفضاء، ولكن الواقع أن المتطرفين فكرياً في أغلب الشعوب هم في الغالب المسيطرون في بث هذه الأفكار العدائية ضد الآخر واستجلاب العواطف والتاريخ والدين في تأجيج هذا الصراع بين الشعوب، البعض في مجتمعاتنا ليسوا على قناعة بمشاريع الحوار والانفتاح على أصحاب الثقافات والأديان الأخرى ويعبرون عن أفكارهم الحقيقة مثلاً في مجموعات «الواتس اب» هؤلاء مشعلو الحرائق الفكرية متناقضون على أرض الواقع فيما يريدون توريط الآخرين فيه من عداء مطلق مع الآخر، أما هم فهم أول من يركب الطائرة صناعة الغرب ويتجه إلى الريف الأوروبي في إسبانيا أو فرنسا أو إنجلترا ويقضي أشهر الصيف الحارق في بلادهم.

بين ظهرانينا من يعتقد أنهم منحطون أخلاقياً وقيمياً، بل إن البعض منهم يتملك منزلاً هناك ومن ثم يطالب مع غيره ببناء مسجد له وتأتي الموافقة سريعة من الدولة العلمانية المارقة في نظره التي تفصل بين الدين والدولة.

مع انطلاق أعمال قمة جدة للأمن والتنمية الأسبوع الماضي، جرى افتتاحها بآيات من القرآن الكريم، «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».

هذه رسالة إنسانية جميلة للكل في العوالم الأخرى وفي عالمنا أن التعايش والانفتاح هو من صلب وجوهر ديننا، أما من يرددون آيات وأحاديث دينية خارج سياقها ومعانيها لبث الفرقة وإشعال الحروب الدينية والفكرية فهم إلى اضمحلال.