-A +A
نجيب يماني
لم يكن ما حدث في الساحة التونسية مفاجئًا بالنسبة لي على الإطلاق؛ بل على العكس من ذلك تمامًا، فعدم حدوث ذلك قبل هذا التوقيت بكثير هو عنصر المفاجأة في تقديري، وقد وجدت تفسير هذا التأخّر في تصريحات الرئيس التونسي قيس سعيّد - وهو ينفث الهواء السّاخن من صدره بقوله -: «أتحمل المسؤولية كاملة من أجل شعب تونس وصبرت كثيرًا، وحذّرت أكثر من مرة».. فالصبر الطويل، والتحذير أكثر من مرّة ينطوي على صراع مرير عاشه من أجل رتق ما يفتقه «الإخوان»، ومحاولة تسيير «الدفة» وسط أموج الفتن وهيهات.

فمن يعرف جماعة الإخوان المسلمين معرفة جيدة، ويبلو أخبارها، ويدرس أدبياتها دراسة عميقة لا بد وأن ينتهي إلى قناعة راسخة بأنّ وجودها في أيّ حيز جغرافي، وضمن أيّ مجموعة، ومع أي سلطة كانت، سيكون مصدر فتنة، وباعث فرقة وشتات، ومثير قلاقل ونكبات. وهي قناعة لا تستند إلى عواطف، أو ترتهن إلى مزاج؛ بل محصلة لقراءة عميقة لأدبيات هذه الجماعة في كتب مؤسّسيها، وسلوك المنتسبين إليها في العديد من البلدان التي أُبتليت بهم، فما أحدثته في السودان طوال ثلاثة قرون، وقد استولت على السلطة بانقلاب عسكري، لتجثم على صدر هذا الشعب، وتذيقه من الهوان والشتات الكثير، وتهدر طاقاته ومقدراته على نحوي عبثي لا مثيل له، ولم تتورّع في فصل شماله عن جنوبه لتؤسس دولتها الثيوقراطية تنفيذًا لأجندة «الجماعة»، ضاربة عرض الحائط بمعاناة هذا الشعب المغلوب على أمره، وها هي تقتلع اليوم من سدّة الحكم، ليكتشف الجميع حجم الدمار الهائل الذي أحدثته، والديون المثقلة التي خلّفتها، والتركة التي تنوء بحملها الأجيال القادمة في الأرض السمراء.


لقد كانت مصر أوفر حظًّا، وقد تنبّهت للخطر الإخواني منذ البدايات، فاجتثت شأفته قبل أن يستفحل، وقطعت دابره أن يمد جذوره عميقًا، وأحبطت حلم «الجماعة» المفخخ، وكذلك كانت الجزائر قبلها، فيما لا تزال ليبيا تكابد من أجل الخلاص من «الكابوس الإخواني»..

قد يقول قائل بأن ما حدث ويحدث للجماعة يخالف قواعد اللعبة الديمقراطية التي ارتضاها الجميع، محصلة لما عُرف بـ«الربيع العربي»، وهذا القول عليه العديد من المآخذ التي يجب أن توضع في الحسبان حين التفنيد والمراجعة، علينا أن نفهم أنّ عملية التصويت والاقتراع هي وسائل وأدوات من أجل تحقيق الديمقراطية، وليست هي الديمقراطية نفسها، وهي عملية تتم – أو يجب أن تتم – وفق شروط محددة، أهمّها ضرورة الالتزام بالبرنامج الانتخابي الذي عرضه المرشح، ونال من خلاله ثقة الناخبين، فمتى ما أخلّ الناخب ببرنامجه؛ فمن الطبيعي والمنطقي أن تسقط عنه ثقة التكليف التي نالها عبر أصوات الناخبين، وعلى هذا يجب محاكمة ومراجعة موقف «الجماعة»؛ فليس وصولها للسلطة عبر صناديق الانتخاب موجبًا ومسوغًا لها لتفرض أجندتها وأدبياتها ورؤيتها، بل عليها أن تلتزم بما طرحته في برنامجها، وهذا ما لا تستطيع الوفاء به والالتزام، فهي لا تتعامل مع صناديق الاقتراع إلا بمنظور «ميكافيللي»، ولا ترى في الديمقراطية الليبرالية إلا مطية براغماتية كحصان طروادة، تبلغ بها الغاية من الوصول إلى السلطة ومن ثمَّ الكشف عن وجهها الحقيقي.

هذا ما حدث في مصر، وتم تداركه سريعًا وها هو يحصل – حذو النّعل بالنّعل والقذة بالقذة – في تونس، وتكفي الإشارة إلى قول الرئيس قيس سعيّد: «هناك لصوص يحتمون بالنصوص»، ملمحاً إلى أن هناك «أطرافًا نكّلت بالشعب واعتقدت أنّ البلاد لقمة سائغة»، مبينًا أنها «أطراف تقاسمت الدولة وكأنّها ملكهم»، وأنّ «هناك من يسعى لتفجير الدولة من الداخل»، وغير ذلك من إشارات كثيرة تضمنها حديثه في أعقاب قراراته الحاسمة، وكلّها تشير في مضمونها وتؤكد النّهج الأساسي والسلوك الجمعي لهذه الجماعة المارقة.. وحسنًا فعل الرئيس التونسي وهو يسند قراراته إلى تأويل دستوري، ناسفًا فكرة الانقلاب على الشرعية الديمقراطية والبرلمانية التي روّج لها «الإخوان» عبر مؤسساتهم الإعلامية المشبوهة، والتي أطلقت «حلاقيمها» بالشكوى والنحيب بعد أن أطفأ «سعيّد» نارًا من نيرانها المستهدفة لوطننا العربي، وأمتنا الإسلامية..

إن ما حدث في الشقيقة تونس أمر طبيعي ومتوقع حدوثه في أي بلد يحل فيه «غراب الإخوان»، فمهما كانت الوسيلة التي يتوسلون بها الصعود إلى سدة الحكم تظل أجندتهم الجمعية حاضرة تزعزع المجتمعات المسالمة، وتشيع بينها الفتن النائمة، وتقضّ مضجعها بالأحلام الملغومة، وتفرض عليها أدبياتها المخاتلة، ورؤاها المفارقة لروح الإسلام وجوهره الباعث على الأمن والسلام والطمأنينة وصيانة كرامة الإنسان، فلا علاج حينئذٍ إلا البتر والاجتثاث.