-A +A
أسامة يماني
القرآن الكريم واضح وضوحاً لا لبس فيه بأن الناس سواسية لا فرق بينهم قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. كما نهى عن التنابز والتفاخر قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، والآيات التي تدل على المساواة بين الناس عديدة، ورغم ذلك فالتراث مليء بالعنصرية والذكورية والقبلية والطائفية حتى أصبحت مجتمعاتنا الإسلامية تعاني من هذا الداء الخطير. السؤال متى نتخلص من هذا الداء الذي قسّم أمتنا ومجتمعاتنا وتغلغل في نفوس الكثير؟

نحتاج إلى تنقيح التراث ونقده وتنقيته من الشوائب حتى يعود صافياً خالياً من المناكفات السياسية والدس والكذب والتلفيق والنقل والرواية. وكما قيل وما آفة الأخبار إلا رواتها...


يقف خلف هذا الكم الهائل من الوضع والتلفيق والكذب والعنصرية والطائفية وغيرها أسباب عدة أهمها ما يلي:

١- أسباب سياسية.

٢- عدم التزام بمنهج علمي أو موضوعي.

٣- الذكورية.

٤- المفاهيم السائدة في ذلك العنصر.

إن المفكر الإسلامي الكبير واضع علم الاجتماع ابن خلدون كتابه المعروف بمقدمة ابن خلدون يؤكد ما ذهبنا إليه قائلاً «ولما كان الكذب متطرقا للخبر بطبعته وله أسباب تقتضيه. فمنها التشيعات للآراء والمذاهب... وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله. ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضا الثقة بالناقلين وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. ومنها الذهول عن المقاصد فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب. ومنها توهم الصدق وهو كثير وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع فينقلها المخبر كما رآها وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه».

الكذب والتحزب السياسي أو المذهبي أو العنصري أو الذكوري وضياع المنهج العلمي السليم، أسباب وراء ما أصاب التراث من حشو وكذب وعنصرية ومذهبية وطائفية. وقد نوه ابن خلدون لمشكلة أزلية وهي الثقة بالناقلين ولهذا في موضع آخر من المقدمة ذكر أنه «...فقد زلت أقدام كثير من الإثبات والمؤرخين الحفاظ في مثل هذه الأحاديث والآراء وعلقت أفكارهم ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس وتلقوها هم أيضا كذلك من غير بحث ولا روية.... حتى انتحله الطبري والبخاري وابن إسحاق من قبلهما وأمثالهم من علماء الأمة وقد ذهل الكثير عن هذا السر فيه حتى صار انتحاله مجهلة، واستخف العوام ومن لا رسوخ له في المعارف مطالعته وحمله والخوض فيه والتطفل عليه فاختلط المرعي بالهمل، واللباب بالقشر والصادق بالكاذب».

من المشاهد أن كثيراً من الجهال الذين تلقوا التراث بعجره وبجره وعيوبه وأمره كله، يتطاول على كل تنوير واستنارة وتوضيح وإفصاح وكشف للمستور والمسكوت عنه، فبدلاً من الاستزادة والبحث وإعمال العقل، يرفض التصحيح والتوضيح. وأمثال هؤلاء يعتبر هذا طرحاً بمثابة صدمات كهربائية تسمعهم ما لا يسمعونه وتبصرهم ما لا يبصرونه.

النقد والتنقيح للتراث يساهم في حل مشكلة العقل العرب المحكوم بما كرّسته العلوم العربية الإسلامية الاستدلالية الخالصة، «ونعني بها النحو والفقه والكلام والبلاغة» الذي أشار له الدكتور محمد عابد الجابري. إن تطوير أصولية حديثة يساهم في تطوير مجتمعاتنا الإسلامية وتحديثها بما يتواكب مع روح العصر. واستشهد الدكتور الجابري بعمل ابن حزم المفكر الإسلامي الذي اختزل التراث فكره كصاحب مذهب ظاهري فقط، يقول الدكتور محمد عابد الجابري «إذن فيجب النظر إلى كتاب الأحكام في أصول الأحكام من جيل، هذه الكتب الأمهات، ولكن لا بوصفه واحدا منها يقرر نفس الأصول والمسائل كما قررها الأصحاب، انطلاقا من الشافعي أو من أبي حنيفة أو من مالك، بل بوصفه يقع خارجها يشجب التقليد، تقليد الأئمة حتى ولو كانوا من الصحابة، ويقترح طريقة جديدة تماما في إعادة تأسيس الأصول وتأصيلها». وهكذا ينطلق ابن حزم لا من تفضيل العمل بالحديث والأثر، ولا من إيثار الاعتماد على «الرأي» ولا من الجمع بينهما بتقنين الرأي على أساس «لا يقاس إلا على مثال سبق»، بل ينطلق ابن حزم من «إثبات حجج العقول»، وذلك بإبطال القول بالإلهام والقول بالإمام والقول بضرورة التقليد، تقليد أئمة المذاهب الفقهية، والقول بأنه لا يدرك شيء إلا من طريق الخبر، يقرر ابن حزم إذن أن المنطلق هو «حجة العقل». ذلك لأنه لا طريق إلى العلم أصلاً إلا بالعقل.

العقل والفكر المستنير طريق المستقبل، لهذا يجب أن تتضافر الجهود في عالمنا الإسلامي نحو مشروع نقد التراث وإعادة التأسيس لأصولية حديثة.