-A +A
فؤاد مصطفى عزب
يوم من أيام ديسمبر المشرقة، الشمس تحتجب وراء غيوم بيضاء هادئة، وتسمح بمرور نسمات (جدة) والذي دعا كثيرا من الناس وأنا منهم، في ذلك الصباح الباكر، للجلوس في المقاهي الممتدة على طول الواجهة البحرية، في هذا المقهى والذي يقرب من مكتبي، مكاني الصباحي الخاص، الذي أجلس فيه في مواعيد محددة، لي طاولتي المحجوزة، ويعرفني العاملون جميعا، هناك يخصني (آدم) وهو شاب سعودي أسمر أنيق مهذب ذو روح مرحة، وضيوفي باهتمامه، ويعرف ما أحب وما لا أحب، ومتى أريد أن أبقى منفرداً، ومتى أريد أن ألتقي بالأصدقاء، لا مطاعم الريتز، ولا مقاهي الشانزليزيه أو مقاهي أرصفة (براغ) تساوي الجلسة الصباحية على تراس هذا المقهى، في هذا المقهى يلتقي كُتاب وفنانون وأطباء ورجال أعمال ووزراء دولة سابقون، غيمة نتظلل بها من قسوة الوقت، نبحث فيها عن طيف مدينتنا، الذي ما زال طازجاً في هذا المكان، ونلملم تفاصيله في ثنايا الجلسات والأحاديث الودية، نحكي ثم نحكي، هكذا يولد الكلام تماماً كدمى (المانزيو شيكا) الروسية، حوارات كبيرة تفضي إلى حوارات أصغر فأصغر حتى تصل إلى أكثر خصوصية، ولأن المقاهي غالباً هي سلالم الحكايات، فقد كانت لهذا اليوم حكاية مختلفة، فما إن وضع (آدم) القهوة أمامي وقبل أن آخذ أول رشفة من الفنجان وأتناول غليوني المعبأ بما لذ وطاب من التبغ المخلوط بنكهة التوت البري، حتى تحولت الجلسة إلى حالة من الطوارئ، اثنان من الشباب في مرسيدس أحمر عتيق زاعق بموسيقى صاخبة، ممن ينتمون إلى حزب (المفلوتين) يتحرشان بفتيات يجلسن في الطاولة الأمامية المطلة على الشارع، الفتيات على أعتاب النضج محتشمات منقبات في سن أحفادي، كانت نزوة الشابين الحيوانية المريضة تصور لهما الفتيات ما يتخيله الكلب في عظمة، كانا يروحان ويغدوان بسيارتهما في حركة دؤوبة لا تتوقف، يخاطبان الفتيات بألسنة ذلقة، وينعتانهن بألفاظ رخيصة، كنت أراقب الموقف بألم وحشي، غادرت الطمأنينة ملامحي وعجزت عن ترتيب أفكاري، تركتها مثلما نيأس من ترتيب غرفة قذرة تعمها الفوضى، قررت في لحظة إشراق كما أسميها أحياناً، أن أفعل شيئاً، في هذا العالم المتعاظم بكل شيء رديء، وكأنني في لحظة استحضرت مذكرات (والدو أمرسن) في إصلاح العالم، وليتني لم أستحضره، تحركت وبقوة الدفع الذاتي، وتحت الشعار الإسلامي الذي تغنينا به طويلا في المدارس (من رأى منكم منكراً) اقتربت من العربة وفي حركة إيحائية أنني أقوم بتصوير لوحة العربة بجوالي، على أمل إخافتهما وحثهما على الابتعاد عن الفتيات، فجأة أوقف السائق العربة دون الاهتمام بسيل السيارات خلفة، اقترب مني شاب ثلاثيني يرتدي شورتاً مجعلكاً يصل إلى المعدة، وفنيلة موشحة برسوم غريبة، كان ينظر إلى بعينين مثل أسهم الألعاب النارية، كان أنفه كبيرا وعريضا، كانت والدتي رحمة الله عليها تقول «إن الأنف الكبير العريض دلالة العنفوان» وضع الشاب بطاقة الأحوال الخاصة به على الطاولة وهو في حالة هستيرية قائلا «أيش رأيك تصور البطاقة كمان وتضعها في المكان المناسب لك» ثم أكمل قوله متحسراً «آه.. لولا شيبتك لحولتك إلى قطعة خردة» عضضت على شفتي بقوة من المفاجأة السعيدة من فكرة احتمال أن أتحول إلى خردة في أي لحظة، وأنني لم أعد خردة!! كانت لدى الشاب نزعة مروق واضحة، كان على مقربة منا (حارس أمن) يعمل بالمركز الملحق به المقهى، اكتفى بمراقبة الموقف عبر الأقمار الاصطناعية!! لواء متقاعد في طاولة قريبة مني وقف بطوله الفارع وسحب (المناضل في تحويل البشر إلى خردة) من أمامي وأعاده إلى عربته التي تعطل السير، حيث رفيق السوء ينتظره، تغير مزاجي وشعرت أن الهواء صار ثقيلاً، تركت القهوة والمقهى، وحملت غليوني وذهبت إلى العربة وأنا أدعو، اللهم يا حنان يا منان علمنا احترام الغير والرحمة بالإنسان وتقدير المرأة، اللهم ارحمنا من الجمود والتحنط العقلي، وعلمنا ترقية عقولنا، اللهم علمنا الأناقة في كل شيء، اللهم ألهمنا الألفاظ الكريمة والتعامل الحسن وحسن الخلق مع كل عباد الله، اللهم ازرع في قلوبنا الروح الإسلامية وأبعدنا عن العنف، اللهم امنحنا القدرة على ضبط النفس عند شدة الانفعال ونار الغضب وأبعد عنا ضباب الشهوة، اللهم احمنا من المفلوتين والمتسيبين، أحمدك يا إلهي أنك حميتني من أن أتحول إلى خردة عاطلة، وأن أستمر في حياتي بكامل إمكانياتي الجسدية، وأمارس طقوس يومي وأنا على أكمل حال.. إنك سميع مجيب عالم بالأحوال..!!

كاتب سعودي


Fouad5azab@gmail.com