-A +A
نجيب يماني
إن أخيب الخطابات السياسية تلك التي تغازل رؤى السذج بمحمولات العواطف الجياشة، وتتوسل قبولهم ونصرتهم عبر مخاتلات الخطابات الدينية بمستوياتها المختلفة، في مسلك من التذاكي المستند إلى وعي ومعرفة بنفوس العوام، المستعدة فطرة للتداعي مع «صوت الدين» بتقديس مطلق، كلما جهر به أحدهم، دون التيقن من حقيقة صاحب الصوت، واختبار مقاصده، والتثبت من دوافعه.. وأكثر ما كان هذا المسلك القميء من جماعات الإسلام السياسي، في سياق خطابها العصابي، القائم في جذره وأصله على إثارة العواطف الدينية الكامنة لصالح أجندتها السياسية المفخخة، لا أكثر من ذلك ولا أقل، ولعل ما حدث من جماعة الإخوان في اعتصام رابعة من أن جبريل دخل مسجد رابعة ليثبت المصلين، وأن رسول الله قدم مرسي للصلاة وصلى خلفه، وأن بعض الصالحين شاهد 8 حمامات بيضاء على كتف مرسي وهذا يعني أنه سيحكم 8 سنوات وغيرها كثير.

على أنك لو كنت من محبي الكوميديا السوداء، فلن تعدم في خطاب هذه الجماعات ما يسرّي عنك، ويمنحك فرصة للضحك، الذي ينتهي بك إلى بكاء وحزن على من يروّج لمثل هذه الخطابات، ويوقن بها، ويتبناها.. وهي ترتكز على المغيبات، التي لا تحتمل برهانًا معقولاً، مثل الإسناد إلى غير مصدر بعينه في مسرود القصص عن مآلات «المجاهدين» وأكلهم بطيخاً في عز الشتاء، وأن الملائكة التي لم تنزل في أحد نزلت عليهم في سوريا وما نالوا من حور وجنان، وعن «الخوارق» و«المعجزات» التي مرت بهم في «مسيرة الجهاد»، الحجر يتحول لباتريوت، ونظرة من مجاهد تحرق أعتى دبابة..


وبعضهم يركب مطية الأحلام والرؤى المنامية ليمرر خطابه الديني المفخخ، فقد تسللت إلى هاتفي رسالة تويترية، أنقلها حرفيًا، وفيها: [أرسل إليَّ رجل من المدينة هذه الرؤيا: «رأيت فيما يرى النائم أنّي ذهبت إلى المسجد النبوي، ودخلت الروضة الشريفة، فإذا أنا بشيخ كبير ذي لحية حمراء (كنت كلما ذهبت إلى الحرم أراه في الحقيقة)، فقال لي إنّ ثمة رجلاً تُوفّي، وإن علينا أن نغسله وندفنه، ثم أخذني من الروضة إلى غرفة بجوارها، فإذا الميت هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ولكن لم يبدُ عليه أنه ميت، فقلت في نفسي: كأنه حي، ثم شرعنا في تغسيله، فرأينا الماء ينهمل من جسده، كأنه لؤلؤ من شدة نقائه، ثم لما أتممنا تكفينه، فوجئنا بملائكة تنزل من السماء، وتحمله وهي تقول: لا شأن لكم بهذا الرجل، وصعدوا به إلى السماء، وبعدها ظهر صحابيّ لا أتذكر اسمه، فقال: هذه أمانة يجب أن تصل إلى صاحبها»].

ولست هنا بصدد تكذيب أو تصديق هذه الرؤيا المنامية المزعومة، وحسبي من ذلك أن أشير إلى الحديث النبوي الشريف الذي رواه البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، أو يري عينه ما لم تر، أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل». ويقول النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْن»... وهذا يكفي فيما يتصل بصدق الرؤيا من كذبها..

غير أني ماضٍ إلى عقد آصرة العلاقة بين ما صدّرت به هذا المقال، وما جاء في هذه الرؤيا المنامية، بسؤال جوهري ومهم: لأي غاية جرى سرد هذه الرؤيا وبهذه الصيغة وفي هذا التوقيت بالذات، فهي ليست شأنا عاما، وإنما تخص من رآها ومن رؤيت له، طالما أن الصحابي –غير المذكور اسمًا في الرؤيا- قد قال لراويها: «هذه أمانة يجب أن تصل إلى صاحبها».. فصاحب الرؤيا معروف، والطريق إليه سالك، والسفر إليه ممكن، دون هذه الدعاية السياسية الفجّة..!

إن ما فات على ناشر هذه الرؤيا المنامية أن صلاح النفس، إلى غاية أن يغسل صاحبها حين موته في حجرة بجوار الروضة الشريفة، وتصعد به الملائكة إلى السماء، أمر خاص، ولا علاقة له بشؤون الحكم، وتدبير الدول، فالمطلوب منه حسن التصرف والعدل في أمر الرعية لا أكثر، فإن «الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة»، وعلى هذا فإننا حين ننظر إلى الواقع السياسي الذي أحدثه «أردوغان» في المنطقة، لا نصحب في ذلك سلوكه الخاص، والرؤى المنامية التي ترفع منزلته الروحية أو تخفضها، فلا حاجة بنا إلى تقليب دفاتر المنامات لسبر أغوار ذلك، وإنما هي نظرة إلى المعيش المشاهد، ففي ذلك الكفاية والغنى، فإن أراد صاحب «الرؤيا» أن يعرف مقام «صاحبه أردوغان» فلينظر موقفه الداعم لجماعة «الإخوان المسلمين»، بكل وطأتها وثقلها على المشهد العربي، وما أحدثته من شروخ وانشقاقات، وليمد بصره إلى داخل الأراضي السورية اليوم ويطالع ما أحدثته عمليات «غصن الزيتون»، وليمرر على خاطره مواقفه المزدوجة حيال دولة إسرائيل، ومسلكه الدعائي الذي يتناقض مع حقيقة العلاقة بين تركيا وإسرائيل.. وغير ذلك من المواقف التي تضع مثل هذه الرؤيا المنامية الدعائية في حرج كبير، بخاصة وأن راويها محّض صاحبها من شرف المكانة منزلة سنية بأن تنزل الملائكة من الأعلى لتصعد بـ«أردوغان» إلى السماء!!