-A +A
ناصر الجهني
صدر حديثاً عن الدار العربية للعلوم ونادي جازان الأدبي كتاب «جدة.. مساء الثلاثاء: مجتمع في صالون» للدكتور حمود أبو طالب بحقوق النشر محفوظة لنادي جازان الأدبي للعام 2018. وقد جاء الكتاب في 198 صفحة من الحجم الوسط ويحتوي على ملحقين تراجم وصور..

يتناول الكاتب بالعرض والتحليل صالون الثلوثية لصاحبه الوجيه المستشار محمد سعيد طيب كنموذج لظاهرة اجتماعية ثقافية خاصة أفرزها وضع سياسي واجتماعي محدد كان من الواجب توثيقها للتاريخ كونها تمثل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي والثقافي في المملكة العربية السعودية عموما ومنطقة الحجاز خصوصاً، حيث لم يسبق على حد علمي توثيق هذه الظاهرة في هذه المنطقة وبهذا الشكل الوصفي الدقيق والتحليلي العميق من قبل، ومن هنا تأتي مساهمة هذا الكتاب وأهميته.


لقد اعتمد الكاتب مسارا عموديا في الكتابة عن صالون الثلوثية عبر تاريخه الممتد لأكثر من أربعين عاما، وهو ما يُعرف بالـ Approach Diachronicلتحقيق هدفه من الكتاب، عوضا عن الـ Approach Synchronic أو المسار الأفقي فيما لو كان هدفه عمل مقارنة مع صالونات أخرى أو مناقشة صالون الثلوثية في زمن محدد وهو ما لم يهدف إليه الكاتب من كتابه هذا..

• لماذا الكتاب؟.. موضوعه وأهميته: يقول الكاتب ص 18 بأن الثلوثية ليست مجرد لقاء لمجموعة محددة وإنما هي نموذج مصغر لصالون أكبر هو المجتمع. بمعنى أن الكتابة عن هذا الصالون ليست مهمة بذاتها فقط وإنما تأتي أهميتها أيضا من كونها تعكس حالة المجتمع بأكمله حيث الصالون يمثل عينة نموذجية Sample له. ويضيف الكاتب ص 19 بأن مرور المملكة بتحولات وأحداث ومتغيرات كثيرة ومتلاحقة في جوانب مختلفة بالإضافة إلى ارتفاع مستوى حرية التعبير ورفع ما كان يشبه الحظر على تناول بعض القضايا والملفات هو مما دفعه للكتابة عن الصالون. وفي ص 20 يذكر أن ما يحدث في الثلوثية هو حراك محدود يمثل حراكا أشمل وأوسع خارج جدرانها. وفي ص 86 يؤكد الكاتب هذا التمثيل المجتمعي في الثلوثية إذ يقول «بصفة شخصية فقد وجدت أن الثلوثية انعكاس حقيقي لفكر التنوع والاختلاف في المشارب الثقافية والأطياف الفكرية والمدارس الدينية والميول السياسية والانتماءات المذهبية دون مصادرة لأي من هذه التنويعات أو تكريس الانحياز مع أو ضد من حيث المبدأ». وبالتالي، كما يقول الكاتب نفسه ص 20 فإن «الكتابة عن الثلوثية لا تعنيها لذاتها وإنما تعني الكتابة عن كثير مما يدور في المجتمع من خلالها». وقد لخص الكاتب كل ذلك بعبارة واحدة في ص 114 بقوله إن الصالون هو عبارة عن «منتدى قياس رأي عام».

وهنا لابد من أن نأتي على ما قاله صاحب الثلوثية عنها ص 31 بأنه لا ثلوثية ولا ربوعية في المجتمعات المتقدمة كونها سمة من سمات التخلف والاحتقان يجب أن تختفي لتحل محلها مؤسسات المجتمع المدني، وهو الذي جاء بأفضل تعريف لها ص30 بأنها «مجلس خاص لأناس خاصين نناقش فيه أمور غير خاصة». وكون الثلوثية شأن عام، فقه حياة، فإنها تأتي في قمة أولويات الكاتب وانشغاله بوطنه ومجتمعه، وبذا وهنا يلتقي الكاتب وصاحب الثلوثية في اهتمامهم وشغفهم بالشأن العام كونه كما ذكر الكاتب في اقتباسه ص37 لقول الدكتور محمد عمارة «التدابير التي تهم جمهور الأمة، وهو ما يسميه الفقهاء فروض الكفاية». وبذا تكون أهم صفة لصاحب الثلوثية والكاتب بأنهما شخصان يؤديان فرض كفاية، الأول بثلوثيته ومن خلال صالونه، والثاني بكتابته عن الثلوثية ومن خلال طرحه وتحليله. مهمة لا يتصدى لها إلا الكبار الذين تجاوزوا الحاجات والمطامح الخاصة بهم إلى حاجات ومطامح المجتمع بأسره. ثلوثية مبادرات اجتماعية ارتبط تاريخها«بمبادرات بارزة لخدمة الشأن العام في كثير من معانيه وجوانبه» كما يقول الكاتب ص 92. «مبادرات كان بإمكانها أن تتم بوسيلة أخرى ولكن ليس بمثل ذلك الحماس وتلك السرعة عندما يوجد مجلس يجمع من يهمهم الأمر ومن يستطيعون الدعم» ص94. ثلوثية الفن والفنانين ص103. ثلوثية «عُرفت بأنها مجلس صلح ووئام بين الشخصيات التي يدب بينها الخلاف أو الخصام» ص100. ثلوثية «كرمت شخصيات كانت في سدة المسؤولية أو بعد خروجهم منها وكانت لهم إنجازات متميزة، مثقفون كبار لم يلتفت إليهم أحد كما يجب، شخصيات اجتماعية تقوم بأدوار خيرية إنسانية عظيمة، فنانين، إعلاميين، مفكرين من داخل وخارج المملكة، وهذا لا يقتصر على الرجال فقط» ص 98.

ألا تستحق هذه الثلوثية أن يُكتب عنها؟

• أقسام الكتاب: جاء الكتاب في 21 فصلا وملحقين، وقد كان من الأهمية بمكان أن كانت فصول الكتاب قصيرة لا يتجاوز معظمها الخمس والست صفحات تستهوي القارئ وتبعث على شده وجذبه للقراءة بدلا عن الملل الذي يصيب القراء عند قراءة فصول طويلة في بعض الكتب يصل عدد صفحات بعضها إلى أكثر من ثلاثين وأربعين صفحة وربما أكثر تبعث على النفور من الكتاب واستثقال قراءته وتركه دون إكماله. هذه (الكَبْسَلة) التي اتصف بها الكتاب هنا جاءت كعامل تميز وجذب، فلا تطويل ممل ولا تقصير مخل.

أما الملحقان الواردان في الكتاب وهما «ذاكرة الصورة» و«تراجم الثلوثية» فقد جاءا مكملين بشكل رائع لموضوع الكتاب وليسا حشوا فيه أو إطالة له وزيادة لعدد صفحاته. الأول، «ذاكرة الصورة»، عرض عدد كبير من الصور المهمة تجسد للقارئ ما يتحدث عنه الكاتب بدلا من أن يشكل كل قارئ في ذهنه ولنفسه صوره الخاصة به، وذلك إمعانا في الموضوعية من قبل الكاتب وزيادة في الحرص على التشكيل الكامل للصورة في ذهن القارئ والنقل الشامل للقارئ إلى داخل الصالون وبين جوانبه ومع حاضريه.

أما ملحق «تراجم الثلوثية» فقد جاء لتعريف القارئ بمن يتحدث عنهم الكاتب في كتابه من أعضاء الصالون وضيوفه ليعرف القارئ تماما من هم هؤلاء الأشخاص، إن كان يجهلهم، وليعرف خلفياتهم بنبذة صغيرة مختصرة عن كل منهم، تكنيك أخاله من إبداعات الكاتب انفرد به مع عدد قليل جدا من الكتاب الذين أدركوا أهمية المعلومة للقارئ لتحقيق تمام الفهم وإدراك كمال الصورة.

• لغة الكتاب.. وأسلوب الكاتب: لقد اعتمد الكاتب اللغة السهلة البسيطة المباشرة في كتابته دون أي تقعر أو تكلف، بحيث ينساب القارئ بين أسطر الكتاب ويدرك رسالته دون مطبات لغوية تخرجه من انسيابية القراءة، وهذا هو أسلوب الكاتب المعروف والتي تتسم به مقالاته الصحفية، حيث أن الهدف هو إيصال المعلومة وليس الاستعراض اللغوي على القارئ، كما هو حال بعض الكتاب.

لقد تميز الكاتب في أسلوب الكتابة حيث كان حذقا في تحديد ما يحتاجه القارئ من خلفية عن كل نقطة تعرض لها، كما أنه كان حذقا أيضا في الدخول للموضوع والتمهيد له وتهيئة القارئ بشأنه. لقد اعتمد الكاتب ضروريات ما قبل الكتابة كونها عمل بنيوي وذلك بما يلزم من تفكير وتخطيط والتقاط محاور وتحديد مداخل. كما أنه اعتمد التسلسل الزمنيOrder Chronological للأحداث بما يكفل فهم القارئ التام لخلفية كل محور من محاور الكتاب.

أما في أسلوبه في الكتابة عن المحور الواحد داخل كل فصل وتقسيماته إلى «بارجرافات» كل منها يناقش نقطة واحدة وبترتيب وترابط مع ما قبلها وما بعدها، فقد قدم الكاتب نموذجا كلاسيكيا لكيف تكون الكتابة مما نقدمه لطلابنا في مادة الكتابة في الجامعة.

أما الأخطاء الطباعية فقد جاءت نادرة في هذا الكتاب بحيث لم تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة وهي في الصفحات 56 و66 و 74 و 137. أما الأخطاء في علامات الترقيم فقد جاءت في موضع واحد فقط وهو المقتبس من مقال الكاتب صالح الشيحي ص 114.

• فن الكتابة: حرص الكاتب على تبيان المهم من الخلفيات الدقيقة والحساسة اللازمة عند الحديث عن النقاط المحورية في كتابه بكل موضوعية وشفافية وبدون أي مواربة أو مجاملة وذلك لتحقيق الفهم الشامل والدراية الكاملة للقارئ بالموضوع: فصل «المشبوه النموذجي» كمثال.

كما أن الكاتب اعتنى تماما بالتفاصيل وأدق التفاصيل متغلغلا في ذهن القارئ مشكلا صورة غاية في الوضوح حيث لم يغفل حتى ما يختلج في النفس ويدور في الفكر عند التأهب لحضور الصالون للمرة الأولى واهتم بذكر تفاصيل موقع الثلوثية ومحيطه والمجلس وأماكن جلوس ضيوفه ومقعد صاحب الثلوثية.

كما حرص الكاتب على تفنيد التهم وتوضيح الالتباس في بعض ما قد يظهر بأنه تناقض يثير الريبة ويخلق التوجس، كما جاء بشكل كامل ومفصل في فصل «صاحب القرار مر من هنا» لما يدور من لغط حول صاحب الثلوثية وسجنه وزيارة كبار الأمراء رغم ذلك لثلوثيته، فأوضح فيما يخص علاقة الدولة بالمواطن ص 74 «بأنه لا توجد لدينا مصادرة كلية وإلغاء تام للشخصية التي قد تختلف مع بعض توجهات الدولة وقراراتها». وبين فيما يخص علاقة المواطن بالدولة ص74 بأن مهادنة الطيب للأمراء رغم انتقاده للدولة «لا تعني بالضرورة اعتبارها مجاملة مجانية على حساب الحق والحقيقة وإنما هو التقدير العقلاني باجتناب الحدة في المواقف تجاه بعض القضايا الحساسة وخلق التوتر الذي ينتج عنه مناخ لا يسمح بالقرارات الصائبة والحوار الصحي لدى كل طرف».

كما فند الكاتب في فصل «قومي عروبي.. وعميل أمريكي» اتهام الطيب صاحب الثلوثية بدعوته لدبلوماسيين أجانب ومنهم القنصل الأمريكي، وبين أن تلك الدعوة كانت لتوضيح حقيقة وواقع المجتمع السعودي ورفضه لما حصل لها مع أعضاء هيئة الأمر بالمعروف.

كذلك فإن الكاتب قد حرص على عدم احتكار الطرح لرؤاه هو فقط عن صالون الثلوثية ومرتاديه وإنما كان أمينا في نقل الرؤى المختلفة والمغايرة لرؤاه عن الثلوثية، واستحضر آراء الكثيرين من داخل الصالون وخارجه عن الثلوثية في الفصلين «نيران صديقة» و«ماذا قال أعضاء الثلوثية عنها»، وذلك بعدما بين رؤية صاحب الثلوثية عنها في فصل «الثلوثية بعيون صاحبها». كان الأشد قسوة والأكثر حدة في نقد الثلوثية الكاتب أحمد العرفج في مقاله الذي اقتبسه الكاتب ص 116 والذي فنده ورد عليه الكاتب عبدالله فراج الشريف في مقاله الذي أظهره الكاتب ص 118. أما آراء أعضاء الثلوثية حول الثلوثية فقد جاءت متفاوتة، كان أقصاها رد قينان الغامدي ص 130 وأرقاها رد عبدالمحسن الحليت ص 127 وأجملها رد عبدالله رواس ص 134.

• العمق في الربط والتحليل: أوضح الكاتب وبشكل دقيق كيف يشكل صالون الثلوثية وما يجري فيه انعكاساً للمجتمع فلم يكتف بتوصيف المجلس والطقوس والحوارات والأشخاص فيه وإنما سبر أغوار نفسيات البعض وحلل شخصياتهم بشكل عميق ورائع ص55 حيث أوضح كيف أن غياب حرية التعبير وما أنتجته من ترهل لدى الإنسان العربي قد ولّد ما يشبه الفوبيا منها عندما تصبح متاحة كون الذهن والقدرة على استخدامه بشكل صحيح لا يختلف عن استخدام أي عضو آخر في الجسم. وكذلك ما ذكره عن أسباب حرص بعض الشخصيات على حضور الثلوثية ص 29 كونهم «يعتبرونها من أهم الوسائل لانتشارهم وترويج آرائهم ولزيادة رصيدهم من العلاقات الاجتماعية».

وفي ص 59 أوضح الكاتب حال المسؤول عند حضوره الثلوثية وبين أن اختلافه عن حاله في موقع المسؤولية «ليس بالضرورة ازدواجية نفسية بل ربما مسألة قسرية اضطر لممارستها» إذ أن هناك فرق بين المكتب وأمام الجمهور وبين المكان الخاص وبين الأصدقاء، وأن ذلك إنما هو ضريبة المنصب. وفي عالمنا العربي هو أيضا ضريبة المجتمع كونه يضع المسؤول في قالب نمطي محدد وتحت المجهر طوال الوقت. وبين الكاتب ص 60 الفوارق بين شخصيات المسؤولين في صالون الثلوثية حيث أن هناك منهم من هو بسيط ويدخل حيز الألفة مع الحاضرين، وهناك من يتصلب في مقعده بملامحه التي يجهد نفسه في جديتها.

كما قدم الكاتب تحليلا نفسيا اجتماعياً لسلوك بعض أعضاء الثلوثية كالتسريبات والشهوة للتعليق على أي موضوع دون أبسط إحاطة عنه ص 16 وص 17، موضحا أن هذه الصوالين ليست مثالية تماما كما يعتقد البعض وذلك عند حديثه عن ماهية الثلوثية ص 16.

وفي ص 65 فند الكاتب تهمة الثلوثية بأنها أرستقراطية، برجوازية، حضورها نخبوي يعيش في أبراج عاجية، وعدم توافق ذلك مع ادعاء اقترابها من المجتمع وشأنه العام والطبقة البسيطة الكادحة، ودحض تلك التهمة، مبينا ص 66 بأن «بعض المسؤولين لم يكونوا سعداء بحضورهم لخضوعهم لما يشبه المحاكمة» مؤكدا في فصل كامل بأنها وكما هو عنوان ذلك الفصل «ثلوثية كل الأطياف».

وفي مقاربة دقيقة بين صالون الثلوثية والمجتمع، تحدث الكاتب عن مناكفات التيار الديني حول الثلوثية وصاحبها واتهامهما من قبلهم، بأن تلك إنما هي «عينة أو ملمح لمشهد فكري واجتماعي وثقافي مرتبك لم نحاول ضبطه، فضلا عن تصحيحه» ص 84، مبينا «إشكالية التصنيفات التي يتم إطلاقها كقذائف عشوائية منذ وقت طويل».

كما قدم الكاتب تحليلا لموجة معاداة الحداثة، وتفسيراً لتلك الموجة، إذ يقول ص 84 بأنه «تم اعتساف مصطلح الحداثة بتحميله ما لا يحتمل وتوظيفه بشكل ممنهج ليعني الانحراف الديني والأخلاقي من قبل تيار ديني متشدد نشأ في نفس الفترة وعُرف بتيار الصحوة لينشأ صراع ومواجهة محتدمة وعداء واستعداء ويبدأ التصنيف العشوائي دون وعي بخطورة ما يحدث».

للكاتب أيضا لفتة اجتماعية ولقطة ذكية في حديثه عن الثلوثية عندما ذكر أخلاقيات جيل جمّ الأدب، نبيل حتى في الخصومة، وذلك من خلال حديثه عن مشهد الخصام والصلح بين الناشر هشام حافظ وصاحب الصالون ص 102، وعندما تحدث عن موقفه مع أحد الوزراء والذي سبق وأن أساء إليه، بقوله ص 63 «لكني لمست في عينيه ما يشبه الاعتذار».

يقول الكاتب ص 123 «الثلوثية.. جدل داخلها وجدل خارجها بسببها ومن أجلها». جدل حول الصالون، وجدل داخل الصالون، وجدل ثالث أعمق عن صاحب الصالون. رحلة أربعين عاما بكل ما فيها ومن فيها وما حولها وثقها الكاتب الدكتور حمود أبو طالب من الخريق بمكة إلى العزيزية بجدة لتكون شاهدا للتاريخ ومرجعا للمؤرخين والدارسين لمجتمع وثقافة الحجاز.

إن كتاب «جدة.. مساء الثلاثاء: مجتمع في صالون» هو توثيق لظاهرة اجتماعية ثقافية خاصة أفرزها وضع سياسي واجتماعي محدد، اتسم بالسلاسة في اللغة والشمولية في التناول والتميز في العرض والدقة في الوصف والعمق في التحليل والموضوعية في التعامل والشفافية في الطرح.