ستحتاج وقتاً طويلاً وجهداً مماثلاً لتفهم التركيبة القبلية والعشائرية الصومالية بكل ما فيها من اختلافات واقتتال ووفاق لا يطول وعداء راكمته تركة ثقيلة من الفوضى وأشعلته صراعات الاستحواذ على السلطة والنفوذ وستظل تبعاته وزراً على كاهل مستقبل أجيالٍ لن تنسى ماضيها .
القبيلة في الصومال، المشكلة الأكثر تعقيداً وتصلباً وتمرداً في كل الأرض الصومالية، حيث أصبحت القبيلة هي تنبع المشكلة وهي وحدها من بيدها الحل .. هي من تفتعل الفوضى لتنهيها متى أرادت وتوجهها كيفما شاءت مصالحها وفق أهواء رموز القبيلة الذين يمتلكون الثروة والأرض والرجال الأكثر ولاءً للعشيرة أولاً وللقبيلة ثانياً فحينما تختلف عشائر وبطون وفخوذ القبيلة الواحدة يكون المنطق السائد هو «أنا وأخي على ابن عمي» وحينما يكون الخلاف بين قبيلة وأخرى يصبح العداء والاقتتال وفق منطق «أنا وابن عمي على الغريب» .
هناك في الصومال ستجد قبيلة «الطارود» الأكثر تعداداً التي خرج منها رؤساء الصومال وقبيلة «الهوية» منذ الاستقلال الأقوى نفوذاً فمن رحمها جاء أمراء الحرب المتناحرين وقادة المحاكم الإسلامية المتشددين والمعتدين ومنها أيضاً نصب أغلب متقلدي المناصب الوزارية والإدارية في الحكومة المؤقتة الحالية وعلى رأسها رئيس الوزراء علي محمد جيدي ووزير الداخلية في التشكيلة السابقة ووزير الإسكان في التشكيلة الجديدة حسين عيديد فيما يحتل أبناؤها قرابة ثلث مقاعد البرلمان الصومالي، فيما تأتي ثالثاً قبيلة «الدر» التي فرخت العديد من المليشيات المسلحة، وكذلك قبيلة «الرحنوين» كقبيلة رابعة لا تزال مع الثلاث البقية تهيمن على مختلف جوانب الشأن الصومالي، فيما كانت عشائر الأكثر خسارة في أرض لا مكان فيها لمنطق «كلنا صوماليون في وطنٍ للجميع».
غريب في حماية القبيلة
يقول مرافقنا «عمر محمود» الذي ينتمي إلى الأقليات الصومالية، لا يستطيع أحد أن يتنقل في العاصمة مقديشو والمدن الرئيسية ما لم يكن من أبناء العشيرة أو القبيلة التي يقطن رجالها كأغلبية في حي أو مدينة ما، أو على الأقل إذا لم يكن لديك من أبناء تلك القبيلة، ولطالما يرد باعتزاز استطاعته التنقل بين أحياء ومديريات مقديشو متى أراد لأن لديه صدامات متعددة مع أشخاص ينتمون لمختلف العشائر التي تسكن مقديشو، وطالما كان «عمر» يحذرني والمسلحين الذين برفقتي أثناء تجولنا في شوارع العاصمة مقديشو بأننا الأكثر قد دخلنا منطقة عشيرة أخرى، في حين يقوم بالتواصل هاتفياً مع أحد أصدقائه ليستقبلنا وليكون في رفقتنا حتى نخرج من حي قبيلته وهكذا، وكما حدثني فإن الشخص الذي سيكون مرافقك في أي حي تدخله بمثابة شاهد عيان ضد أي شخص أو جهة تنوي الإعتداء عليك ليكون «غريمك» معروفاً لدى القبيلة التي أنت في حمايتها، ليتم مناقشة هذا الإعتداء فيما بعد وفق الأعراف والأطر القبلية كما أن مرافقك القبلي سيكون بمثابة تأكيد للآخرين بأنك في حمايته وحماية قبيلته وبالتالي فإن أي إعتداء عليك كغريب سيكون بمثابة إعتداء على كل أفراد القبيلة التي أنت في حمايتها ولن يكون التفاهم إلا بضغط الزناد فقط.
ولعل الموقف الأكثر دلالة على الحضور القبلي في كل أحياء العاصمة مقديشو حينما أردت زيارة سوق «بكاري» الشهير بتجارة الأسلحة والذخائر حيث رفض كل من معي من سائقي السيارة والمرافقين المسلحين والدليل إيصالي إلى هناك وأمام إصراري على الذهاب استعرض مرافقي (عمر محمود) قدرته على التواصل مع مسلحين من أبناء عشيرة (العير) التي تسيطر على سوق السلاح وينتمي تجارها إلى تلك العشيرة، الذين أكثروا من تحذيراتهم بعدم الرد على أي شتيمة أتعرض لها هناك.
عاصمة القبيلة واحدة
تستحوذ قبيلة الهوية بعشائرها (العير وسعد) على أغلب أحياء العاصمة الصومالية مقديشو، خاصة بعد أن أتى بهم الجنرال محمد فارع عيديد من البادية بعد إنهيار نظام سياد بري والذي استطاعوا بقوة السلاح طرد سكان مقديشو الأصليين الذين كانوا يمثلون خليطاً مدنياً من مختلف قبائل وعشائر ومناطق الصومال، فانتزع القادمون الجدد كل ممتلكات ومنازل المقديشيون الذين تشتتوا في مختلف البلدان العربية والأوروبية تاركين مزارعهم وممتلكاتهم للقرويين القادمين من عشائر قبيلة الهوية حيث أحضر كل أمير حرب المئات من أبناء عشيرته وزودوهم بالسلاح وضموهم لمليشياتهم المسلحة ليعينوهم في حربهم واقتسام تركة النظام المنهار.
وطوال ستة عشر عاماً من الفوضى وغياب الدولة كانت العاصمة مقديشو قد أفرغت من تنوعها المدني ليحل في أغلب أحيائها سكان ينتمون لقبيلة واحدة هي (الهوية) التي أضحت المشكلة الرئيسية أمام إقامة الدولة التي ستبدأ إنطلاقتها من العاصمة مقديشو، وفي ذلك يقول عبدالرحمن ديناري المتحدث الرسمي باسم الحكومة المؤقتة . «لقد أضحت القبيلة في الصومال سرطاناً في كل الجسد الصومالي لا يمكن استئصاله بسهولة خاصة في مقديشو التي يسكنها الآن قبيلة واحدة».
«ديناري» الذي حدد مشكلة العاصمة مقديشو بأنها ترزح تحت سيطرة قبيلة «الهوية» التي ينتمي هو إليها أيضاً يقول أن «الحكومة المؤقتة تعرف جيداً حجم هذه المشكلة ولذلك فإن أول الخطوات التي اتخذتها الحكومة وبالذات الرئيس عبدالله يوسف هي إجراءات حوارات المصالحة بين العشائر والقبائل الصومالية، لأن أي تأخير في التعامل مع المشكلة القبلية لن يعزز أي دور للحكومة المؤقتة من أجل إعادة بناء الدولة وإقامة النظام وتثبيت الأمن والاستقرار إلى كل مدن الصومال وإلى مقديشو على وجه الخصوص».
عمدة مقديشو (محمود علي حسن جابو) الذي ينتمي إلى قبيلة الهوية أيضاً يرى صعوبة كبيرة لحل المشكلة القبلية في مقديشو ما لم يكن لدى الحكومة المؤقتة إرادة وعزيمة قوية لمواجهة قبيلة الهوية من خلال أبناء القبيلة ذاتها الذين يتوزعون في العديد من المرافق الوزارية والإدارية والأمنية خاصة وأن أبناء هذه القبيلة يستحوذون في الوقت الحالي على النسبة الأكبر من المزارع والمنازل والممتلكات وأراضي مقديشو».
ويضيف « جابو» حالياً في مقديشو هناك قبيلة واحدة وهي قبيلة «الهوية» وجزء من هذه القبيلة تسمى عشيرة «العير» التي يتزعمها حسن طه عويس المطلوب أمريكياً.. هذه العشيرة تمثل الجناح العسكري للقبيلة، كما كانت تمثل الجناح العسكري لاتحاد المحاكم الإسلامية، وهي في إطار قبيلة الهوية هناك خلاف قديم، وهناك ممثلون من هذه القبيلة في الحكومة وهناك أطراف في المحاكم الإسلامية.
القبيلة وتشكيل الحكومات
تلعب «القبيلة» دوراً مهماً في الحياة الصومالية .. إذ تعد المحرك الرئيس في تشكيل الحكومات وابرام الإتفاقات المنظمة للحياة في الصومال، ففي الحياة السياسية الصومالية يتم تقسيم الكعكة الحكومية بالتساوي بين القبائل الاربع بحيث يكون نصيب كل واحدة منها(61) مقعداً في البرلمان فيما يتم تخصيص (31) مقعداً للأقليات التي تتوزع في المدن الصومالية، فيما يتجسد الجانب السلبي للقبيلة في العملية السياسية الصومالية في توزيع حصتها في الحكومة والبرلمان؛ إذ أن المسيطرين على القبيلة غالباً ما يكونوا هم سبب المواجهات المسلحة وعدم الاستقرار، وعندما يقومون باختيار ممثليهم في البرلمان والحكومة يكون الأمر خاضعاً لمعاييرهم، مما يؤدي الى هضم الكفاءات في القبيلة، وعندما تعبر عن عدم رضاها لهذا الهضم تصب جام غضبها وحنقها على الحكومة المركزية في حين توزيع الحصص الحكومية وفق الرغبات القبلية جعل العديد من الكوادر والكفاءات الصومالية التي تحمل شهادة علمية عالية في التخصصات المختلفة ترحل للخارج الامر الذي أدى لخلق فراغ في الصومال التي أصبح المتواجدون في مراكز الادارة والقرار وفق التوليفة القبلية التي نشهدها اليوم.
مع هذا فالقبيلة -حسب قول نقيب الصحفيين الصوماليين علي حلني - «سيكون نجاح أي طرف صومالي مرتبطاً بمدى إتقانه فن اللعب على الحبال المعقدة للقبيلة في الصومال»، اضافة الى ان هناك العديد من العوامل التي ساعدت القبيلة في لعب هذه الأدوار السياسية المهمة واستمرارها ابرزها تحريم التعددية السياسية التي كانت يمكن أن تلعب بديلاً للقبيلة، إضافة إلى امتلاك القبيلة لترسانة سلاح وإمكانات مادية وبشرية كبيرة الأمر الذي جعل الدولة أقل تكويناً وصلاحيات من القبيلة، بل أن الأولى لا تتخذ قرارها إلا بعدما تقره الثانية.
ولذلك أصبحت حتى الوظيفة العامة، رغم محدوديتها في الصومال، تخضع لإعتبارات القبيلة لتجد مثلاً ان كل مرافقي وموظفي أي وزير من نفس القبيلة .. وهكذا دواليك .
وعلى الرغم من ان محمد سياد بري قبل انهيار نظامه كان قد اصدر قراراً يحرم القبيلة.. الا ان تصرفاته في إدارة البلاد واسناد المناصب الادارية في المؤسسات ظل يجسد الولاء للقبيلة..
الحروب غذت العصب القبلي
كذلك كانت التشكيلات التنظيمية التي ظهرت في الصومال والعاصمة مقديشو تحديداً بعد سقوط النظام انعكاساً واضحاً لإفرازات القبيلة ودعمها، فأمراء الحرب الذين ظلوا يسيطرون على العاصمة لقرابة عقد ونصف كانوا يستندون الى مرجعية قبلية توفر لهم الدعم والحماية.
ويظهر تاريخ الصومال على نحو واضح خلال السنوات الخمس عشرة الماضية التردد الصومالي في التعاطي مع اي خلاف اذا كان هناك تحالف مع عشائر اخرى او صراع داخل العشيرة الواحدة، والتي قد تختلف اهدافها الا ان القوى الحقيقية المحركة لتلك الحروب والتحالفات ظلت توجه بواسطة القبيلة.
والشاهد أن المواجهات بين امراء الحرب والمحاكم الاسلامية اوائل العام الماضي في مقديشو حينما استبدلت قبيلة (الهوية) دعمها لامراء الحرب بدعم المحاكم الاسلامية.. الأمر الذي ادى الى هزيمة امراء الحرب بسبب تخلي القبيلة عنهم وليس بسبب قوة المحاكم الاسلامية، حسب ماتشير اليه التقارير والعديد من تصريحات الخبراء الصوماليين.
وعلى الجغرافيا الصومالية تتوزع القبائل الرئيسية مع عشائرها التي تتناثر بالعشرات في بطون كل قبيلة حيث (الدر) في الشمال و«الطارود» في الوسط والهوية في مقديشو وجوهر وبلدوين والرضوين في اقليم «باي وباكول» بالقرب من بيدوا. وتتداخل القبيلة الصومالية لتصل الى اثيوبيا في توزيع يوضح المخاطر التي قد تنجم عن عدم استقرار الصومال على المنطقة برمتها وحسب ما قاله الصحفي الصومالي (حسن حن دبي) فان إذكاء الانتماء والتعصب القبلي تضاعف بعد انهيار النظام وان عقد مابعد الاستقلال 1961 - 1970م لم تكن القبيلة حاضرة الا نادراً، ليتغير الامر فيما بعد بين العديد من الصوماليين، وخصوصاً المتعلمين حيث كان يتم كتابة عشائرهم في أوراق يضعونها في جيوبهم ويخرجونها عند السؤال..
على نفس السياق يقول خليف عيسى، وهو كابتن طيار وكان قائداً للقوات الجوية نهاية حكم بري، أنهم كانوا في بداية السبعينيات يلعبون ويجلسون في مقديشو دون معرفة ولا حتى اهتمام إلى أي عشيرة ينتمي الآخر، اما الان فقد اختلف الامر بأن برز التصنيف حسب الانتماء القبلي والتحاور على هذا الأساس في النقاشات العامة وحتى في الحياة السياسة والاجتماعية الصومالية. وحسب مصدر دبلوماسي فان سنوات مابعد الانهيار بما عاشته من حروب كثيرة شهدت تغذية اكبر لمشاعر الانتماء للقبيلة في الصومال وان قبائل عديدة ظهرت لها تفرعات وتقسيمات جديدة وانه يوماً بعد آخر تزداد المشكلة تعقيداً، ولدى القبيلة في الصومال عادات وتقاليد متنوعة، لعل ابرزها الجلوس تحت الشجر والتحاور عندما يراد حل مشاكل معينة. وفي تجربة المحاكم وفق الخريطة القبلية تشير حركة توسعهم الى بلوغهم الحد الاقصى لمساعيهم الرامية للسيطرة على الصومال على كامل حدود قبيلة (الهوية).. مع هذا يتعذر على اي حكومة ان تحقق النجاح ما لم تراعِ التقسيمات القبلية.
القبيلة في الصومال، المشكلة الأكثر تعقيداً وتصلباً وتمرداً في كل الأرض الصومالية، حيث أصبحت القبيلة هي تنبع المشكلة وهي وحدها من بيدها الحل .. هي من تفتعل الفوضى لتنهيها متى أرادت وتوجهها كيفما شاءت مصالحها وفق أهواء رموز القبيلة الذين يمتلكون الثروة والأرض والرجال الأكثر ولاءً للعشيرة أولاً وللقبيلة ثانياً فحينما تختلف عشائر وبطون وفخوذ القبيلة الواحدة يكون المنطق السائد هو «أنا وأخي على ابن عمي» وحينما يكون الخلاف بين قبيلة وأخرى يصبح العداء والاقتتال وفق منطق «أنا وابن عمي على الغريب» .
هناك في الصومال ستجد قبيلة «الطارود» الأكثر تعداداً التي خرج منها رؤساء الصومال وقبيلة «الهوية» منذ الاستقلال الأقوى نفوذاً فمن رحمها جاء أمراء الحرب المتناحرين وقادة المحاكم الإسلامية المتشددين والمعتدين ومنها أيضاً نصب أغلب متقلدي المناصب الوزارية والإدارية في الحكومة المؤقتة الحالية وعلى رأسها رئيس الوزراء علي محمد جيدي ووزير الداخلية في التشكيلة السابقة ووزير الإسكان في التشكيلة الجديدة حسين عيديد فيما يحتل أبناؤها قرابة ثلث مقاعد البرلمان الصومالي، فيما تأتي ثالثاً قبيلة «الدر» التي فرخت العديد من المليشيات المسلحة، وكذلك قبيلة «الرحنوين» كقبيلة رابعة لا تزال مع الثلاث البقية تهيمن على مختلف جوانب الشأن الصومالي، فيما كانت عشائر الأكثر خسارة في أرض لا مكان فيها لمنطق «كلنا صوماليون في وطنٍ للجميع».
غريب في حماية القبيلة
يقول مرافقنا «عمر محمود» الذي ينتمي إلى الأقليات الصومالية، لا يستطيع أحد أن يتنقل في العاصمة مقديشو والمدن الرئيسية ما لم يكن من أبناء العشيرة أو القبيلة التي يقطن رجالها كأغلبية في حي أو مدينة ما، أو على الأقل إذا لم يكن لديك من أبناء تلك القبيلة، ولطالما يرد باعتزاز استطاعته التنقل بين أحياء ومديريات مقديشو متى أراد لأن لديه صدامات متعددة مع أشخاص ينتمون لمختلف العشائر التي تسكن مقديشو، وطالما كان «عمر» يحذرني والمسلحين الذين برفقتي أثناء تجولنا في شوارع العاصمة مقديشو بأننا الأكثر قد دخلنا منطقة عشيرة أخرى، في حين يقوم بالتواصل هاتفياً مع أحد أصدقائه ليستقبلنا وليكون في رفقتنا حتى نخرج من حي قبيلته وهكذا، وكما حدثني فإن الشخص الذي سيكون مرافقك في أي حي تدخله بمثابة شاهد عيان ضد أي شخص أو جهة تنوي الإعتداء عليك ليكون «غريمك» معروفاً لدى القبيلة التي أنت في حمايتها، ليتم مناقشة هذا الإعتداء فيما بعد وفق الأعراف والأطر القبلية كما أن مرافقك القبلي سيكون بمثابة تأكيد للآخرين بأنك في حمايته وحماية قبيلته وبالتالي فإن أي إعتداء عليك كغريب سيكون بمثابة إعتداء على كل أفراد القبيلة التي أنت في حمايتها ولن يكون التفاهم إلا بضغط الزناد فقط.
ولعل الموقف الأكثر دلالة على الحضور القبلي في كل أحياء العاصمة مقديشو حينما أردت زيارة سوق «بكاري» الشهير بتجارة الأسلحة والذخائر حيث رفض كل من معي من سائقي السيارة والمرافقين المسلحين والدليل إيصالي إلى هناك وأمام إصراري على الذهاب استعرض مرافقي (عمر محمود) قدرته على التواصل مع مسلحين من أبناء عشيرة (العير) التي تسيطر على سوق السلاح وينتمي تجارها إلى تلك العشيرة، الذين أكثروا من تحذيراتهم بعدم الرد على أي شتيمة أتعرض لها هناك.
عاصمة القبيلة واحدة
تستحوذ قبيلة الهوية بعشائرها (العير وسعد) على أغلب أحياء العاصمة الصومالية مقديشو، خاصة بعد أن أتى بهم الجنرال محمد فارع عيديد من البادية بعد إنهيار نظام سياد بري والذي استطاعوا بقوة السلاح طرد سكان مقديشو الأصليين الذين كانوا يمثلون خليطاً مدنياً من مختلف قبائل وعشائر ومناطق الصومال، فانتزع القادمون الجدد كل ممتلكات ومنازل المقديشيون الذين تشتتوا في مختلف البلدان العربية والأوروبية تاركين مزارعهم وممتلكاتهم للقرويين القادمين من عشائر قبيلة الهوية حيث أحضر كل أمير حرب المئات من أبناء عشيرته وزودوهم بالسلاح وضموهم لمليشياتهم المسلحة ليعينوهم في حربهم واقتسام تركة النظام المنهار.
وطوال ستة عشر عاماً من الفوضى وغياب الدولة كانت العاصمة مقديشو قد أفرغت من تنوعها المدني ليحل في أغلب أحيائها سكان ينتمون لقبيلة واحدة هي (الهوية) التي أضحت المشكلة الرئيسية أمام إقامة الدولة التي ستبدأ إنطلاقتها من العاصمة مقديشو، وفي ذلك يقول عبدالرحمن ديناري المتحدث الرسمي باسم الحكومة المؤقتة . «لقد أضحت القبيلة في الصومال سرطاناً في كل الجسد الصومالي لا يمكن استئصاله بسهولة خاصة في مقديشو التي يسكنها الآن قبيلة واحدة».
«ديناري» الذي حدد مشكلة العاصمة مقديشو بأنها ترزح تحت سيطرة قبيلة «الهوية» التي ينتمي هو إليها أيضاً يقول أن «الحكومة المؤقتة تعرف جيداً حجم هذه المشكلة ولذلك فإن أول الخطوات التي اتخذتها الحكومة وبالذات الرئيس عبدالله يوسف هي إجراءات حوارات المصالحة بين العشائر والقبائل الصومالية، لأن أي تأخير في التعامل مع المشكلة القبلية لن يعزز أي دور للحكومة المؤقتة من أجل إعادة بناء الدولة وإقامة النظام وتثبيت الأمن والاستقرار إلى كل مدن الصومال وإلى مقديشو على وجه الخصوص».
عمدة مقديشو (محمود علي حسن جابو) الذي ينتمي إلى قبيلة الهوية أيضاً يرى صعوبة كبيرة لحل المشكلة القبلية في مقديشو ما لم يكن لدى الحكومة المؤقتة إرادة وعزيمة قوية لمواجهة قبيلة الهوية من خلال أبناء القبيلة ذاتها الذين يتوزعون في العديد من المرافق الوزارية والإدارية والأمنية خاصة وأن أبناء هذه القبيلة يستحوذون في الوقت الحالي على النسبة الأكبر من المزارع والمنازل والممتلكات وأراضي مقديشو».
ويضيف « جابو» حالياً في مقديشو هناك قبيلة واحدة وهي قبيلة «الهوية» وجزء من هذه القبيلة تسمى عشيرة «العير» التي يتزعمها حسن طه عويس المطلوب أمريكياً.. هذه العشيرة تمثل الجناح العسكري للقبيلة، كما كانت تمثل الجناح العسكري لاتحاد المحاكم الإسلامية، وهي في إطار قبيلة الهوية هناك خلاف قديم، وهناك ممثلون من هذه القبيلة في الحكومة وهناك أطراف في المحاكم الإسلامية.
القبيلة وتشكيل الحكومات
تلعب «القبيلة» دوراً مهماً في الحياة الصومالية .. إذ تعد المحرك الرئيس في تشكيل الحكومات وابرام الإتفاقات المنظمة للحياة في الصومال، ففي الحياة السياسية الصومالية يتم تقسيم الكعكة الحكومية بالتساوي بين القبائل الاربع بحيث يكون نصيب كل واحدة منها(61) مقعداً في البرلمان فيما يتم تخصيص (31) مقعداً للأقليات التي تتوزع في المدن الصومالية، فيما يتجسد الجانب السلبي للقبيلة في العملية السياسية الصومالية في توزيع حصتها في الحكومة والبرلمان؛ إذ أن المسيطرين على القبيلة غالباً ما يكونوا هم سبب المواجهات المسلحة وعدم الاستقرار، وعندما يقومون باختيار ممثليهم في البرلمان والحكومة يكون الأمر خاضعاً لمعاييرهم، مما يؤدي الى هضم الكفاءات في القبيلة، وعندما تعبر عن عدم رضاها لهذا الهضم تصب جام غضبها وحنقها على الحكومة المركزية في حين توزيع الحصص الحكومية وفق الرغبات القبلية جعل العديد من الكوادر والكفاءات الصومالية التي تحمل شهادة علمية عالية في التخصصات المختلفة ترحل للخارج الامر الذي أدى لخلق فراغ في الصومال التي أصبح المتواجدون في مراكز الادارة والقرار وفق التوليفة القبلية التي نشهدها اليوم.
مع هذا فالقبيلة -حسب قول نقيب الصحفيين الصوماليين علي حلني - «سيكون نجاح أي طرف صومالي مرتبطاً بمدى إتقانه فن اللعب على الحبال المعقدة للقبيلة في الصومال»، اضافة الى ان هناك العديد من العوامل التي ساعدت القبيلة في لعب هذه الأدوار السياسية المهمة واستمرارها ابرزها تحريم التعددية السياسية التي كانت يمكن أن تلعب بديلاً للقبيلة، إضافة إلى امتلاك القبيلة لترسانة سلاح وإمكانات مادية وبشرية كبيرة الأمر الذي جعل الدولة أقل تكويناً وصلاحيات من القبيلة، بل أن الأولى لا تتخذ قرارها إلا بعدما تقره الثانية.
ولذلك أصبحت حتى الوظيفة العامة، رغم محدوديتها في الصومال، تخضع لإعتبارات القبيلة لتجد مثلاً ان كل مرافقي وموظفي أي وزير من نفس القبيلة .. وهكذا دواليك .
وعلى الرغم من ان محمد سياد بري قبل انهيار نظامه كان قد اصدر قراراً يحرم القبيلة.. الا ان تصرفاته في إدارة البلاد واسناد المناصب الادارية في المؤسسات ظل يجسد الولاء للقبيلة..
الحروب غذت العصب القبلي
كذلك كانت التشكيلات التنظيمية التي ظهرت في الصومال والعاصمة مقديشو تحديداً بعد سقوط النظام انعكاساً واضحاً لإفرازات القبيلة ودعمها، فأمراء الحرب الذين ظلوا يسيطرون على العاصمة لقرابة عقد ونصف كانوا يستندون الى مرجعية قبلية توفر لهم الدعم والحماية.
ويظهر تاريخ الصومال على نحو واضح خلال السنوات الخمس عشرة الماضية التردد الصومالي في التعاطي مع اي خلاف اذا كان هناك تحالف مع عشائر اخرى او صراع داخل العشيرة الواحدة، والتي قد تختلف اهدافها الا ان القوى الحقيقية المحركة لتلك الحروب والتحالفات ظلت توجه بواسطة القبيلة.
والشاهد أن المواجهات بين امراء الحرب والمحاكم الاسلامية اوائل العام الماضي في مقديشو حينما استبدلت قبيلة (الهوية) دعمها لامراء الحرب بدعم المحاكم الاسلامية.. الأمر الذي ادى الى هزيمة امراء الحرب بسبب تخلي القبيلة عنهم وليس بسبب قوة المحاكم الاسلامية، حسب ماتشير اليه التقارير والعديد من تصريحات الخبراء الصوماليين.
وعلى الجغرافيا الصومالية تتوزع القبائل الرئيسية مع عشائرها التي تتناثر بالعشرات في بطون كل قبيلة حيث (الدر) في الشمال و«الطارود» في الوسط والهوية في مقديشو وجوهر وبلدوين والرضوين في اقليم «باي وباكول» بالقرب من بيدوا. وتتداخل القبيلة الصومالية لتصل الى اثيوبيا في توزيع يوضح المخاطر التي قد تنجم عن عدم استقرار الصومال على المنطقة برمتها وحسب ما قاله الصحفي الصومالي (حسن حن دبي) فان إذكاء الانتماء والتعصب القبلي تضاعف بعد انهيار النظام وان عقد مابعد الاستقلال 1961 - 1970م لم تكن القبيلة حاضرة الا نادراً، ليتغير الامر فيما بعد بين العديد من الصوماليين، وخصوصاً المتعلمين حيث كان يتم كتابة عشائرهم في أوراق يضعونها في جيوبهم ويخرجونها عند السؤال..
على نفس السياق يقول خليف عيسى، وهو كابتن طيار وكان قائداً للقوات الجوية نهاية حكم بري، أنهم كانوا في بداية السبعينيات يلعبون ويجلسون في مقديشو دون معرفة ولا حتى اهتمام إلى أي عشيرة ينتمي الآخر، اما الان فقد اختلف الامر بأن برز التصنيف حسب الانتماء القبلي والتحاور على هذا الأساس في النقاشات العامة وحتى في الحياة السياسة والاجتماعية الصومالية. وحسب مصدر دبلوماسي فان سنوات مابعد الانهيار بما عاشته من حروب كثيرة شهدت تغذية اكبر لمشاعر الانتماء للقبيلة في الصومال وان قبائل عديدة ظهرت لها تفرعات وتقسيمات جديدة وانه يوماً بعد آخر تزداد المشكلة تعقيداً، ولدى القبيلة في الصومال عادات وتقاليد متنوعة، لعل ابرزها الجلوس تحت الشجر والتحاور عندما يراد حل مشاكل معينة. وفي تجربة المحاكم وفق الخريطة القبلية تشير حركة توسعهم الى بلوغهم الحد الاقصى لمساعيهم الرامية للسيطرة على الصومال على كامل حدود قبيلة (الهوية).. مع هذا يتعذر على اي حكومة ان تحقق النجاح ما لم تراعِ التقسيمات القبلية.