قابلته عند أحد الأصحاب.. و جرت بيننا سواليف متنوعة.. استملحته و استملحني.. فاتفقنا أن نلتقي.. وجرى ذلك.. وكثرت لقاءاتنا.. وترسخت معرفتي به.. أبو حمد..
أبو حمد طويل ونحيف ولحيته صغيرة.. يهتم جدا بمظهره وملبسه.. إلى درجة أنه أخبر الناس بالأقمشة وأنواعها.. ويستمتع إذا راح عند محلات الأقمشة.. ولذلك أوّل ما يلفت نظره في الآخرين ملابسهم.. يركّز عليها ويعرف نوعيّة القماش بسرعة.. أخذني مرّة.. بعد أن توثقت علاقتي به .. وصار يمون عليّ.. أخذني إلى محلات بيع القماش.. وقال لي «يا بو هايس أقمشة ثيابك رديّة.. إنت لازم تختار النوع الزين..» .. أنا أشتري الثياب الجاهزة.. رخيصة وزينة.. وأنا أبخص.. دخلنا المحلّ.. فاختار لي.. الله لا يعطيه عافية .. قماشا سعره 700 ريال.. ثوب بسبع مئة؟ شو هالحكي.. كان من الممكن أن ألبس بالسبع مئة ملابس سبع سنين.. ثم قال لي «ارفع شماغك..» .. فرفعت شماغي.. قال «هاذي عاد طاقية.. هاذي بريالين..» .. فاشترينا طاقيّة بثمانين ريال .. ثم الشماغ.. ثم العقال.. ثم نزل إلى الأقدام.. قال «تعال نشوف لك جزمة محترمة.. وش هالجزمة يا بو هايس.. أنا لو أمشي حافي ما لبستها.. أعوذ بالله.. افسخ جزمتك..» .. فقلت «يا بن الحلال.. بعدين..» .. لأني متأكد أن أحد الشراريب فيه ثلاث شقوق.. والصبع الكبيرة طالعة بالكامل من الشرّاب.. استحيت.. لكن خضعت لأوامره.. وحين رأى صبعي خارج الشرّاب.. صفق بيديه ورفع رأسه للسقف.. وقال «الحمد لله والشكر.. كويّس إني جبتك للسوق.. لعنبو بليسك لو إنت جاي عندي في البيت وجاء وقت الصلاة وأنا عندي ناس واجبروك تصلي بنا ... وش تسوّي؟.. شلون فشيلتك؟» ..
أخذنا حاجاتي.. وقال لي وحـنّـا نركب السيارة.. «هالحين نروح لسوق المشالح ونأخذ لك مشلح..» .. قلت وأنا مستغرب «وش أبغى فيه المشلح؟.. تبي تزوجني؟.. ما أبيه يا بن الحلال..» .. قال وهو يضحك «يا حليلك.. مو على كيفك..» .. ولأنه بخيص وعارف بالمشالح ومحلات المشالح.. دخلنا المكان المناسب.. الفخم.. الفخامة لأصحاب الفخامة وحنّا من أصحاب الفخامة.. على الأقل عند أم هايس.. الشي الجيّد إنه تركني أختار اللون.. الحقيقة خيّرني بين لونين.. فاخترت الأشقر.. خمسة آلاف دفعتها.. وأنا مرتاح.. لأني متأكد أني عملت في يوم من الأيام جرم كبير.. وأن الله يعاقبني.. وعقوبة الدنيا أهون من عقوبة الآخرة.. فاستسلمت وأنا مرتاح لأمر الله.. حين أوقفني عند بيتنا قال لي «بكرى تكشخ وتجيني في المكتب.. البس المشلح.. رجاء.. الظهر..» .. قلت له «ان شالله.. بس عاد المشلح لازم؟» .. قال «ايه لازم» ..
دخلت البيت ويوم شافتني أم هايس وشافت اللي معي.. خاصة المشلح.. طار عقلها.. «وش هاذا يا بوهايس.. ومشلح بعد.. غريبة .. وش عندك؟».. أنا متأكد أنها خافت من أن الأمر فيه عرس.. قلت لها «الله يسلّمك يا أم هايس.. عينوني في مجلس الأمن.. عينوني شاعر.. تعرفين أحيانا تدور مناقشات حامية في مجلس الأمن وهم يناقشون قضايا حامية.. فيسخن الجو.. ويتوتّر.. فيحتاجون تبريد.. فأطلع أنا وأروي لهم من شعر الهزّاني أو ابن لعبون أو راكان.. او حميدان.. فيبردون ويتفكرون بما قال الشاعر فتهدأ نفوسهم وتنحلّ أمورهم»..
ولكن لأنها قلقة رحت أشرح لها الأمر بزيادات ونقصان.. فقلت لها أنا أجبرت أحد أصدقائي على شراء ملابس ومشلح .. فقال لي إني أجبره وأنا ما اشتري.. «فاشتريت اللي تشوفين يا أم هايس .. حتى ما يقول إني آمر بالمعروف وأنسى نفسي.. تعرفين الشيطان حريص» ..
عملت بروفات على الملابس.. خاصة المشلح.. حتى إني اضطريت أروح للبقالة بكامل هيئتي.. قلت في نفسي أشوف شلون مشيي بالمشلح.. حتى إن راعي البقالة.. العامل.. أراد أن يتكلم معي عن الحسابات القديمة .. فقلت له «نو أربك .. يو أندر ستاند ؟» .. فطارت عيونه..
رحت عند أبو حمد في اليوم التالي في مكتبه.. وش الفخامة.. الله.. الله.. جلسنا نتحدث عن الشغل.. والوزارة.. وجاء بعض زملائه فكان يعرفني عليهم ويعرفهم بي «الشيخ ابو هايس» .. إذا قال الشيخ أبو هايس تملكني ضحكة.. فأكتمها حتى تتبخّر وتتسرب من أي مكان.. وأنا جالس عنده تذكرت أني في الثانوية مثّلت في مسرحية.. وكنت أجلس كما أجلس الآن.. بالمشلح كمان..
حين خرجنا.. يريد يودعني.. سألني عن سيارتي.. فقلت له «السيارة في الورشة.. جيت بليموزين..» .. «ليش ما قلت لي.. تعال.. تعال» .. ثم رجعنا للمكتب .. هالحين أعطيك سيّارة.. من سيارات الوزارة.. فأحضر السيارة.. مرسيدس جميلة.. قال لي «خلّها عندك.. ما نحتاجها.. من تحت الشليل.. لا تقلق» ... أخذت أم هايس ورحنا نتمشّى.. ويوم سألتني عن السيارة.. قلت لها «لا تسألين من تحت الشليل..» ..
زارني مرّة بسيارة الأسعاف.. جتهم سيارات إسعاف جديدة.. وهو.. ما شالله عليه.. يجرّب كل جديد عشان يتأكد من جودته.. أوقف سيارته أمام بيتي.. فلم يسكت التلفون من اللي يتصلون ويسألون «وش فيه..؟ عسى ما شر؟ عسى ما خلاف؟.. سلامات» غير اللي يأتون بأنفسهم ليطمئنوا.. فكنت أطمئنهم.. وأن الأمر بسيط.. مجرّد فأر من فيراننا تعرض لحادث وهو يريد الخروج من الغرفة الشمالية إلى الغرفة الغربيّة.. كان مسرعا.. وإصابته بسيطة ان شالله..
المشكلة الأكبر أنه طلب مني أن نخرج لنتمشى فالطقس.. حسب رأيه جميل.. خرجنا بسيارة الاسعاف.. الشي المريح أننا ما كنا نقف عند اشارات المرور.. كان عند الاشارة يشغّل الونّان.. فتصيح السيارة وتصرخ.. فتبتعد السيارات.. وأبو حمد يسولف لي عن أراضيه..
زادت معرفتي بأبو حمد.. وزرته في بيته.. بيت فخم وضخم كبير.. وسيارات.. وخيرات الله.. كانت أسرة أبو حمد تعيش تحت الفقر.. انبطح عليها الفقر سنوات طويلة.. حتى تخرّج أبو حمد من أحد معاهد الادارة.. فاشتغل في المحاسبة.. وصار يعيش تحت الشليل.. فصارت عيشته أحلى عيشة.. خوش عيشة..
أخذني مرّة إلى الاستراحة عند أصحابه لأتعرف عليهم.. استراحة جميلة.. اجتمعوا واشتروا الأرض وبنوها..
تعرفت عليهم جميعا.. وصرت أزورهم دايما.. السيارات.. البيوت.. المدارس اللي يدرس فيها أولادهم.. كلها عظيمة وفاخرة.. وكلّها من تحت الشليل..
رأيت عندهم رجلا قصير القامة ولا يلبس عمامة سمين الجثامة .. (لا معنى لها لكن لزوم السجع).. يشتري أغلى أطياب العود ويدهن ويعرك به لحيته الكبيرة.. فيكون سوادها أشد من السواد.. وتعطي لمعة وبريق.. ويبتسم دايما ابتسامة الرجل اللي ما يعرف الهم.. وكانوا يهتمون به ويعتنون فيه إذا جاء.. وهو صاحب أعمال.. حصل مرّة على ستين مليون مع أنه لم يعمل حاجة.. كانت فقط أوراق.. والأوراق تحتاج توقيع المحامي.. دخل المحامي تحت الشليل فقبض مليونين و وقّع الأوراق.. فقبض الشيخ ابراهيم ستين مليون.. الشيخ إبراهيم لا يعيش تحت الشليل.. حسب ظني.. ولكنه يعيش عند المناطق الحسّاسة.. تحت الملابس الداخلية.. وأنا رايح للجامعة كنت أفكّر.. لو للجامعة شليل.. الله كان الواحد يعيش تحته وينبسط.. والله غفور رحيم.. لكن الجامعة مالها شليل.. مرّة تلبس بنطلون.. ومرّة تلبس تنّورة.. حتى تنّورتها عند الركبة.. من وين الشليل.. خطرت في بالي أم هايس وشليلها الكحيان..
وأنا أوقف سيارتي في مواقف السيارات جاني العامل يقول إذا يبيني أغسل السيارة.. ممكن يغسلها.. قلت له «ودّك تعيش تحت شليلي.. يا صديق..؟ .. بس حط في خشمك قضّاب ملابس .. والخير مقبل ان شالله..» .. هز رأسه وقال «الحمد لله.. كلّه كويّس.. إنت يبغى يغسل شليل يا صديق؟»..
حين تركته يغسل السيارة ورحت لمكتبي.. حضرت في ذهني صورة لي وأنا صغير.. أردت أن أركض فعضّيت شليلي.. ما زلت أتذكر رائحة الغبار.. غبار ثوبي.. خاصة لمّا ابتلّ بريقي..
كم من شليل وشليل يخطر على البال.. وكم من شليل وشليل تمنيناه.. وكم من شليل وشليل سرق قلوبنا ..

هامش: الشليل هو طرف الثوب..
afahead@hotmail.com