لم يستطع صدام حسين كبت نفسه -وهو الذي يرنو الى تحقيق الأمجاد وارتقاء موقع الزعامة -عن خوض مغامرته العسكرية الأولى، حين اجتاحت الدبابات العراقية في 23 سبتمبر 1980، غربي ايران، في عملية عسكرية أريد منها أن تكون خاطفة، لاسترداد ما يراه صدام أرضا عربية محتلة، فدامت ثماني سنوات.ويقول العميد الدكتور سعد العبيدي في كتابه «نوايا وحروب، نظرة نفسية لوقائع حروب ومعارك دامت أكثر من ثلاثين عاما»: «كانت نية الحكومة العراقية، التوغل الى العمق الايراني لاحتلال المدن الرئيسة والسيطرة على كامل منطقة عربستان وضفة شط العرب المقابلة، والدخول في مساومات مع الايرانيين حول ما يتعلق باتفاقية الجزائر أولا، وما يمكن الحصول عليه من مكاسب تتعلق بعموم منطقة عربستان بالدرجة الثانية، خاصة وأن القيادة (صدام حسين) حين طربت لأصوات الانفجارات وهدير الدبابات في يومها الأول كانت قد نوهت عن شروط جني الثمار بضوء ما اعتقدته خطأ من انجاز هائل لقواتها العسكرية وما حققته وهما من دور فاعل لحركتها السياسية». ويروى أن: «صدام حسين لم يتمكن من ادارة المعركة السياسية بالقدر الذي ينسجم والنتائج المحققة عسكريا، فوقع في مأزق اطالة الحرب دون أن يعي ذلك». ويؤكد الكاتب سعيد أبو الريش أن صدام وقبل اتخاذه قرار الحرب على ايران، أجرى اتصالا غير مباشر بالأمريكيين خلال جولة له على بعض الدول العربية، فقد كان في الأردن محطة تنصت للاستخبارات الأمريكية تغطي كامل المنطقة، وهناك اجتمع مع ثلاثة من كبار عملاء السي آي ايه. وسيكون للولايات المتحدة لاحقا ومع رجحان ميزان القوى لايران، دور أساسي في دعم المجهود الحربي للعراق، رغم انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ عام 1967 اثر الحرب الاسرائيلية على مصر وسوريا والأردن.
اتخذت واشنطن في البداية، موقفا محايدا الا أن انقلاب الأوضاع في ربيع 1982 لغير مصلحة العراق، دفع الرئيس رونالد ريغان الى اعادة النظر بالموقف الرسمي، حسب شهادة موثقة لعضو مجلس الأمن القومي، هاورد تيتشر. وجاء في الشهادة التي رفعت السرية عنها أن القوات الايرانية اكتشفت ثغرة في الدفاعات العراقية ما بين بغداد والبصرة، في مايو ويونيو من ذلك العام، فاندفعوا في محاولة لفصل بغداد عن البصرة ما كان سيؤدي الى هزيمة العراق، ورصدت الأقمار الصناعية الأمريكية الثغرة العراقية والاختراق الايراني.
واشنطن بين خيارين
وجدت الادارة الأمريكية نفسها في خيار من أمرين، اما الالتزام الصارم بموقف الحياد، أو الانحياز الى العراق لمنع هزيمته. وفي يونيو 1982، حزم ريغان أمره في الاتجاه الثاني، وصاغ سياسته الجديدة في توجيه صادر عن مجلس الأمن القومي. ويضيف تيتشر: «تولى رئيس السي آي ايه وليام كايسي شخصيا توفير ما يكفي من شحنات الأسلحة للعراق، والذخائر والآليات، ومنحت واشنطن اعتمادات بمليارات الدولارات للعراق، كما قدمت المعلومات الاستخبارية والنصائح الاستراتيجية خلال سير المعارك»، والتي كانت تصل الى صدام حسين عبر دول صديقة. ويقول تيتشر: «شاركت شخصيا في اجتماعات كان فيها كايسي ونائبه غايتس، لتحديد نوع الأسلحة التي يحتاج اليها العراقيون، كالقنابل العنقودية التي لها مفعول مضاعف لكسر الموجات البشرية الايرانية، ومضادات الدروع».
تيتشر يكشف ما هو أخطر: «ففي عام 1984، استنتج الاسرائيليون أن ايران أخطر عليهم من العراق، وفي اجتماع في القدس حضره المبعوث الخاص لريغان، دونالد رامسفيلد، عرض وزير الخارجية اسحاق شامير تقديم العون للعراق. والولايات المتحدة وافقت على العرض». ويضيف تيتشر: «سافرت مع رامسفيلد الى بغداد وهناك طلب من وزير الخارجية طارق عزيز نقل الرسالة الاسرائيلية الى صدام، لكن عزيز رفض وقال انه لو فعل فان صدام سيعدمه على الفور».
رامسفيلد، الذي سيكون وزير الدفاع الذي يطيح بنظام صدام بعد عشرين عاما، زار بغداد مرتين آنذاك، الأولى في ديسمبر 1983 والثانية في مارس 1984. الزيارة الأولى، جاءت تنفيذا للتوجيه الرسمي الأمريكي الصادر في 26 نوفمبر 1983، والذي يضع الأولويات في المنطقة وأبرزها التعاون العسكري الاقليمي للدفاع عن منابع النفط وتحسين الامكانيات الأمريكية في الخليج. اللقاء الأول لرامسفيلد حسب الوثائق السرية، انتهى بتقييم ايجابي من صدام حسين ومعاونيه. لكن ادانة الولايات المتحدة العراق لاستخدامه الأسلحة الكيميائية في الحرب، أزعجت صدام، فكانت الزيارة الثانية لرامسفيلد، من أجل طمأنة العراق من أن الادانة العلنية لا تعني تغير الموقف الأمريكي من دعم العراق ضد ايران. وفي هذا اللقاء، أغضب رامسفيلد صدام حين عرض عليه الحصول على ضمانات أمنية اسرائيلية لخط الأنابيب الى خليج العقبة في الأردن والذي كان قيد الانشاء بدلا من خط البصرة غير الآمن. وكان العراقيون يعتبرون مجرد الشراكة الأمريكية في بناء هذا الخط، هو نوع من الضمانة. وتروي الوثائق أن صدام طلب لقاء مسؤول أمريكي أرفع رتبة، هو ريتشارد مورفي المسؤول عن شؤون الشرق الأدنى وجنوبي آسيا في وزارة الخارجية لوضعه في عمق الشعور العدائي ازاء اسرائيل. وتتحدث معلومات أمريكية أخرى عن أن صدام كان يشك في امكانية هجوم اسرائيلي أمريكي على مواقع الأسلحة الكيميائية العراقية كمثل ما حدث في يونيو عام 1981 ضد المفاعل النووي العراقي.
تقرير امريكي: البديل ضعيف
والشكوك العراقية ازاء الولايات المتحدة رغم التعاون الوثيق معها، كانت تقابلها شكوك أمريكية ازاء مواقف العراق وسياساته بعد الحرب. فقد جاء في تقرير الاستخبارات العسكرية الأمريكية في 25 سبتمبر 1984 حول مجمل الأوضاع في العراق ما يلي: ان العراق ذو ثروة واعدة ودولة اقليمية قوية، يمسك به حزب البعث المنظم جيدا، وقائده الرئيس صدام حسين قاس لكن براغماتي. وان سيطرة الرئيس صدام على الشرطة والجهاز الأمني، واسعة الانتشار، ولا ترى الأغلبية أي بديل جذاب آخر.أكثر من ذلك، فان المجموعات الرئيسية للمعارضة هي في فوضى.فصدام حسين رد على حزب الدعوة المدعوم ايرانيا بإعدام أفراده المشتبه بهم وسجنهم ونفيهم خارج البلاد.
والقادة الأكراد الانفصاليون منقسمون بسبب نزاعاتهم التقليدية، ومن خلال سياسة الدهاء التي تمارسها بغداد استغلالا للخلافات القبلية الكردية.
أما الحزب الشيوعي في العراق، فهو منقسم الى أجزاء، وصدام قادر على نعته بأنه يخدم المصالح الايرانية وأنه يخون الوطنية العراقية.
ويتوقع التقرير أن العراق سيستمر في حملته النشطة لاستيعاب المعارضة ومعالجة الشكاوى البارزة والمعاقبة حيث يجد ذلك مناسبا، وان انتخابات المجلس الوطني وهو الثاني منذ تحول العراق الى جمهورية عام 1958 جزء من هذه الخطة.
والأرجح أن الخطر على صدام سيستمر، عبر اغتيال ينفذه عراقي بمبادرة منه، فيما المحاولات الايرانية لاغتيال صدام أو اثارة انقلاب عليه من طرف الشيعة العراقيين قد باءت كلها بالفشل. ومن غير المرجح بدرجة عالية أن تنجح أي انتفاضة شعبية من دون دعم حزب البعث أو الجيش. ثمة القليل ممن يمكنهم السيطرة على الجيش لتنفيذ انقلاب ناجح، علما أن الجيش سيكون المصدر الأكثر ترجيحا للمتآمرين ضد صدام، رغم أنه قدّم لهم من الحوافز للاحتفاظ بولائهم له. وعلى أي حال، لا يوجد أي وهم لدى الحزب القوي أو المتآمرين في الجيش، في أن تغيير القيادة سيؤدي الى انهاء حرب ايران بشروط مناسبة. فستبقى ايران تسعى لازاحة حزب البعث العلماني واقامة دولة ثيوقراطية (دينية) شيعية.
الآثار الاقتصادية للحرب
وحول الآثار الاقتصادية للحرب يقول التقرير: “اعتمدت بغداد سياسة التقشف والديون منذ منتصف عام 1983 مع انخفاض مخزون العملات الأجنبية الى 3 مليارات بعد أن كان 31 مليارا قبل شن الحرب على ايران في سبتمبر عام 1980. ان نمو الثقة الدولية بمستقبل العراق يعني أن العراق سينجح في اعادة جدولة ديونه المحافظة مع استمرار نضوب مصادره المالية. وسيتحسن وضع العراق بمجرد مد أنابيب النفط حتى لو لم يتدفق النفط فيها الا مطلع عام 1986.
الحلقة القادمة
صدام يسقط في الفخ ويجتاح الكويت
اتخذت واشنطن في البداية، موقفا محايدا الا أن انقلاب الأوضاع في ربيع 1982 لغير مصلحة العراق، دفع الرئيس رونالد ريغان الى اعادة النظر بالموقف الرسمي، حسب شهادة موثقة لعضو مجلس الأمن القومي، هاورد تيتشر. وجاء في الشهادة التي رفعت السرية عنها أن القوات الايرانية اكتشفت ثغرة في الدفاعات العراقية ما بين بغداد والبصرة، في مايو ويونيو من ذلك العام، فاندفعوا في محاولة لفصل بغداد عن البصرة ما كان سيؤدي الى هزيمة العراق، ورصدت الأقمار الصناعية الأمريكية الثغرة العراقية والاختراق الايراني.
واشنطن بين خيارين
وجدت الادارة الأمريكية نفسها في خيار من أمرين، اما الالتزام الصارم بموقف الحياد، أو الانحياز الى العراق لمنع هزيمته. وفي يونيو 1982، حزم ريغان أمره في الاتجاه الثاني، وصاغ سياسته الجديدة في توجيه صادر عن مجلس الأمن القومي. ويضيف تيتشر: «تولى رئيس السي آي ايه وليام كايسي شخصيا توفير ما يكفي من شحنات الأسلحة للعراق، والذخائر والآليات، ومنحت واشنطن اعتمادات بمليارات الدولارات للعراق، كما قدمت المعلومات الاستخبارية والنصائح الاستراتيجية خلال سير المعارك»، والتي كانت تصل الى صدام حسين عبر دول صديقة. ويقول تيتشر: «شاركت شخصيا في اجتماعات كان فيها كايسي ونائبه غايتس، لتحديد نوع الأسلحة التي يحتاج اليها العراقيون، كالقنابل العنقودية التي لها مفعول مضاعف لكسر الموجات البشرية الايرانية، ومضادات الدروع».
تيتشر يكشف ما هو أخطر: «ففي عام 1984، استنتج الاسرائيليون أن ايران أخطر عليهم من العراق، وفي اجتماع في القدس حضره المبعوث الخاص لريغان، دونالد رامسفيلد، عرض وزير الخارجية اسحاق شامير تقديم العون للعراق. والولايات المتحدة وافقت على العرض». ويضيف تيتشر: «سافرت مع رامسفيلد الى بغداد وهناك طلب من وزير الخارجية طارق عزيز نقل الرسالة الاسرائيلية الى صدام، لكن عزيز رفض وقال انه لو فعل فان صدام سيعدمه على الفور».
رامسفيلد، الذي سيكون وزير الدفاع الذي يطيح بنظام صدام بعد عشرين عاما، زار بغداد مرتين آنذاك، الأولى في ديسمبر 1983 والثانية في مارس 1984. الزيارة الأولى، جاءت تنفيذا للتوجيه الرسمي الأمريكي الصادر في 26 نوفمبر 1983، والذي يضع الأولويات في المنطقة وأبرزها التعاون العسكري الاقليمي للدفاع عن منابع النفط وتحسين الامكانيات الأمريكية في الخليج. اللقاء الأول لرامسفيلد حسب الوثائق السرية، انتهى بتقييم ايجابي من صدام حسين ومعاونيه. لكن ادانة الولايات المتحدة العراق لاستخدامه الأسلحة الكيميائية في الحرب، أزعجت صدام، فكانت الزيارة الثانية لرامسفيلد، من أجل طمأنة العراق من أن الادانة العلنية لا تعني تغير الموقف الأمريكي من دعم العراق ضد ايران. وفي هذا اللقاء، أغضب رامسفيلد صدام حين عرض عليه الحصول على ضمانات أمنية اسرائيلية لخط الأنابيب الى خليج العقبة في الأردن والذي كان قيد الانشاء بدلا من خط البصرة غير الآمن. وكان العراقيون يعتبرون مجرد الشراكة الأمريكية في بناء هذا الخط، هو نوع من الضمانة. وتروي الوثائق أن صدام طلب لقاء مسؤول أمريكي أرفع رتبة، هو ريتشارد مورفي المسؤول عن شؤون الشرق الأدنى وجنوبي آسيا في وزارة الخارجية لوضعه في عمق الشعور العدائي ازاء اسرائيل. وتتحدث معلومات أمريكية أخرى عن أن صدام كان يشك في امكانية هجوم اسرائيلي أمريكي على مواقع الأسلحة الكيميائية العراقية كمثل ما حدث في يونيو عام 1981 ضد المفاعل النووي العراقي.
تقرير امريكي: البديل ضعيف
والشكوك العراقية ازاء الولايات المتحدة رغم التعاون الوثيق معها، كانت تقابلها شكوك أمريكية ازاء مواقف العراق وسياساته بعد الحرب. فقد جاء في تقرير الاستخبارات العسكرية الأمريكية في 25 سبتمبر 1984 حول مجمل الأوضاع في العراق ما يلي: ان العراق ذو ثروة واعدة ودولة اقليمية قوية، يمسك به حزب البعث المنظم جيدا، وقائده الرئيس صدام حسين قاس لكن براغماتي. وان سيطرة الرئيس صدام على الشرطة والجهاز الأمني، واسعة الانتشار، ولا ترى الأغلبية أي بديل جذاب آخر.أكثر من ذلك، فان المجموعات الرئيسية للمعارضة هي في فوضى.فصدام حسين رد على حزب الدعوة المدعوم ايرانيا بإعدام أفراده المشتبه بهم وسجنهم ونفيهم خارج البلاد.
والقادة الأكراد الانفصاليون منقسمون بسبب نزاعاتهم التقليدية، ومن خلال سياسة الدهاء التي تمارسها بغداد استغلالا للخلافات القبلية الكردية.
أما الحزب الشيوعي في العراق، فهو منقسم الى أجزاء، وصدام قادر على نعته بأنه يخدم المصالح الايرانية وأنه يخون الوطنية العراقية.
ويتوقع التقرير أن العراق سيستمر في حملته النشطة لاستيعاب المعارضة ومعالجة الشكاوى البارزة والمعاقبة حيث يجد ذلك مناسبا، وان انتخابات المجلس الوطني وهو الثاني منذ تحول العراق الى جمهورية عام 1958 جزء من هذه الخطة.
والأرجح أن الخطر على صدام سيستمر، عبر اغتيال ينفذه عراقي بمبادرة منه، فيما المحاولات الايرانية لاغتيال صدام أو اثارة انقلاب عليه من طرف الشيعة العراقيين قد باءت كلها بالفشل. ومن غير المرجح بدرجة عالية أن تنجح أي انتفاضة شعبية من دون دعم حزب البعث أو الجيش. ثمة القليل ممن يمكنهم السيطرة على الجيش لتنفيذ انقلاب ناجح، علما أن الجيش سيكون المصدر الأكثر ترجيحا للمتآمرين ضد صدام، رغم أنه قدّم لهم من الحوافز للاحتفاظ بولائهم له. وعلى أي حال، لا يوجد أي وهم لدى الحزب القوي أو المتآمرين في الجيش، في أن تغيير القيادة سيؤدي الى انهاء حرب ايران بشروط مناسبة. فستبقى ايران تسعى لازاحة حزب البعث العلماني واقامة دولة ثيوقراطية (دينية) شيعية.
الآثار الاقتصادية للحرب
وحول الآثار الاقتصادية للحرب يقول التقرير: “اعتمدت بغداد سياسة التقشف والديون منذ منتصف عام 1983 مع انخفاض مخزون العملات الأجنبية الى 3 مليارات بعد أن كان 31 مليارا قبل شن الحرب على ايران في سبتمبر عام 1980. ان نمو الثقة الدولية بمستقبل العراق يعني أن العراق سينجح في اعادة جدولة ديونه المحافظة مع استمرار نضوب مصادره المالية. وسيتحسن وضع العراق بمجرد مد أنابيب النفط حتى لو لم يتدفق النفط فيها الا مطلع عام 1986.
الحلقة القادمة
صدام يسقط في الفخ ويجتاح الكويت