عن عائشة رضي الله عنها قالت : { من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يكون في غدٍ ؛ فقد أعظم على الله الفرية ؛ لأن الله تعالى يقول : } لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله | . [ سورة النمل : 65 ] . ولما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة ؛ قال : (ما المسئول عنها بأعلم من السائل ) .
أي تساوى في العجز عن إدراك ذلك علم المسئول والسائل .
مع أن الله تعالى أطلعه على شيء من الغيب ليكون دليل نبوته كما قال تعالى: } وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين|. . [ سورة آل عمران : 48 ] . وكما ورد عن إخبار نبينا عليه الصلاة والسلام عن كثير مما يكون في زمنه وبعده ، ومما يكون في الآخرة .
والغيب - الذي تفرّد به الله بعلمه - هو ما لا يدرك بالحسّ ، ولا بالتجربة والمقايسة ، فإنّ من الأشياء ما يغيب عن حس بعض البشر ويدركه بعضهم، ومنه ما يغيب عن الحس ويدرك بالعقل ، كالعلم بحصول الكسوف والخسوف ونحوها مما يستنبط من استقراء السنن الكونية ، فهذا ليس من علم الغيب - مع غيابه عن الحس - لأنّه يمكن إدراكه ، وهو ما يسمّى بالغيب النسبّي أو المقيّد.
مع أنّ الإدراك المستقبلي ظنّيٌ وليس قطعيًّا لجواز تخلف الأسباب ، أو الخطأ في التقدير مثلاً ، ولذا لا يجزم به الإنسان ، قال في فتح الباري : ( إن لبعض الغيوب أسبابًا قد يُستَدل بها عليها لكن ليس ذلك حقيقيًا ) .
قال ابن تيمية : ( .. لا يعلم أحد .. الغيب إلا الله ، وهذا هو الغيب المطلق عن جميع المخلوقين ، الذي قال فيه : } فلا يظهر على غيبه أحدًا | .
والغيب المقيّد : ما علمه بعض المخلوقات ، من الملائكة أو الجن أو الإنس وشهدوه ، فإنّما هو غيب عمّن غاب عنه ، ليس غيبًا عمّن شهده ، والناس كلهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا .. ) .
وما يقع في المستقبل مما لا يرتبط بالتجربة والمقايسة ونحوها من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى .
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله : } إن الله عنده علم الساعة وينـزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرص تموت إنّ الله عليم خبير|.
وقال قتادة : أشياء استأثر الله بهن فلم يُطلع عليهن ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلاً : } إن الله عنده علم الساعة| فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة أو في أي شهر ، أو ليل أو نهار ، } وينـزل الغيث | فلا يعلم أحد متى ينـزل الغيث ليلاً أو نهارًا ، } ويعلم ما في الأرحام | فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكرٌ أم أنثى ، أحمر أو أسود ، } وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا | أخيرٌ أم شر ، ولا تدري يابن آدم متى تموت ، } وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت | ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه .
التطلّع إلى المستقبل :
إن من الفِطَر المركوزة في بني البشر تطلّعهم إلى معرفة المجهول ، وتشوقهم إلى معرفة المستقبل ، وتشوفهم إلى إدراك ما سيصير إليه حالهم ، فليس من البشر أحدٌ إلا وهو يتطلّع ويشتاق إلى معرفة ماذا سيكون ، وهذا أمر مركب في النفوس لا ينكره أحد ومن هنا جاء الادخار ، بل التجارة والحرث والزراعة كلها مبنيّة على تطلع الإنسان للمستقبل وسعيه ليكون مستقبلاً مناسبًا له ، وهذا الميل الطبيعي أدّى بالإنسان إلى محاولة معرفة ما سيحصل له في المستقبل .
ومن حكمة الله تعالى ورحمته أن حجب الغيب عن عباده ، ومنعهم من العلم بأكثره ، وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يحتاج إلى نظر ، فلو عرف الإنسان ذلك لم يتهنأ بالعيش ، وكيف يتهنأ به ، وهو يترقب الموت ، والأوجاع ، والمصائب وغيرها من الحوادث ، فلولا طول الأمل لخربت الدنيا ، وإنما عمارتها بالآمال .
وكذلك لو كان طويل العمر سالم المستقبل وقد علم بذلك ووثق ببقاء حاله لانهمك في الشر وأنواع الفساد وهذا أمر لا تصلح عليه أحوال العالم ؛ بل لا يصلح العالم إلا على هذه الذي اقتضته حكمته وسبق في علمه . ولذا منع الله تعالى عباده من علم الغيب ؛ لأنه ليس في شأنهم ، ولا فيه مصلحةٌ لهم . ولم يظهر لهم سبحانه منه إلا ما اقتضت حكمته أن يطلعوا عليه بخبر منه في كتابه ، أو ببيان من نبيّه صلى الله عليه وسلم.
ولكن البشريّة في غيابها عن سبيل الحق ، لبّس عليها الشيطان ، وسلك بها في سبيل إشباع غريزة حب الاطلاع على المغيّبات مسالك شتّى وأغراها بأنواع من المصادر لاستكشاف المستقبل ، وقد جرت سنة الله تعالى أنّ من تكلّفها ( ظلم نفسه ، وبخس من التوفيق حظّه ، ولم يحصل إلا على الجهل المركب والخيال الفاسد في أكثر أمره ، وجرت سنّة الله تعالى وحكمته أنّ هذا الضرب من النّاس أجهلهم بالعلم النافع وأقلهم صوابًا ، ولا يعرف هذا إلا من اطّلع على ما عند القوم من أنواع الخيال وضروب المحال وفنون الوساوس والهوى والهَوَس والخبط ، وهم يحسبون أنّهم على شيء ، ألا إنهم هم الكاذبون ، فالحمد لله الذي مَنّ على المؤمنين }إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين | . [ سورة آل عمران : 164 ] . ومن هذه الطرق الباطلة:
ـ الاعتماد على النجوم وسيرها في معرفة ما يكون في المستقبل مما يتعلق بالإنسان حياة وموتًا وسعدًا ونحسًا ونحو ذلك .
عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من اقتبس شعبة من النجوم ، فقد اقتبس شعبةً من السحر ، زاد ما زاد) .
قال ابن تيمية : ( فقد صرّح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّ علم النجوم من السّحر وقد قال تعالى : { ولا يفلح الساحر حيث أتى | . [ سورة طه : 69].
ـ استعمال الرَّمل وقراءة الكف والفنجان ونحوها.
فالرَّمَل: وضع خطوط في الرمل تدل على أحوال المسألة المطلوبة.
وهي طرق باطلة للتعرف على الغيب.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: "من يدعي معرفة علم شيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن ، أو مشارك له في المعنى فيلحق به. وذلك أنّ إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف، ويكون بالفأل ، والزَّجْر، والطَّيرة ، والضرب بالحصى، والخط في الأرض، والتنجيم، والكهانة، والسحر، ونحو هذا من علوم الجاهليّة.
وكل هذه الأمور يسمّى صاحبها كاهناً أو عرافاً ، أو في معناهما ، فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد ، وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام ، فادعوا بها ـ علم الغيب الذي استأثر الله - تعالى- بعلمه ، وادعوا أنهم أولياء ، وأن ذلك كرامة .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي قال: "من أتى كاهناً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد .
ـ الاعتماد على الرؤى والمنامات .
وهي طرق قد تستعمل لاستشراف المستقبل ، وهي وإن كانت قد يقبل بها مبدئيًا ، لكن لا يسلّم بها واقعًا ، لما يرد عليها من الاحتمالات ، ولما قد يعرض في تعبيرها من تخليطات ، ولذا فليست طريقًا يعتمد عليه .
إنّ كل هذه الطرق المذكورة طرق باطلة ومصادر لا تعتمد في استكشاف المستقبل ، وتبيّن الغيب ، وإن كان لا يجزم بكذبها أيضًا ، إلاّ إذا وجد ما يكذّبها.
وهذه الطرق الباطلة يستغلها الكذابون لعلمهم لتشوّف الناس لذلك كما ( ينوعون طرق الكذب في ذلك ، ويتعمدون الكذب فيه تارة بالإحالة على الحركات والأشكال الجسمانية.. من حركات الأفلاك والكواكب، والشهب والرعود ، والبروق والرياح ، وغير ذلك، وتارة بما يحدثونه هم من الحركات والأشكال ، كالضرب بالرمل والحصى والشعير ، والقرعة باليد ونحو ذلك ، مما هو من جنس الاستقسام بالأزلام ؛ فإنهم يطلبون علم الحوادث بما يفعلونه من هذا الاستقسام بها ) .
ولذا يصدر عن هذه الطرق: كثير من الخرافات والأساطير والاعتقادات الفاسدة والأوهام
وان الإنسان ليعجب أشد العجب انه في هذا الزمن الذي انتشر فيه العلم وظهرت المعرفة وقل نصيب الخرافة والوهم أن نجد من يتابع الكهان والعرافين والسحرة من خلال القنوات الفضائية أو مواقع الانترنت أو غيرها وهذا يدل على أن المعرفة الحقيقية قل نصيبها في نفوسهم.
إن للأوهام والخيالات روادا ومريدين لكن العاقل لا ينساق وراءها وهو يعلم مآلها وعاقبتها والله المستعان.

* القاضي بالمحكمة العامة بمكة