ليس حي باب شريف الموغل في ذاكرة التاريخ مجرد حارة قديمة تتسم بالأزقة الضيقة والشوارع المغلقة والبيوت المشرئبة من وسط ضجيج الباعة والمشترين كما أنه ليس مجرد سوق تتمازج فيه بانوراما السلع التقليدية مع بهارج العصر ولكنه في المطلق بمثابة ملتقى تنصهر فيه بوتقة الحياة بكافة تفاصيلها.. وجوه من أفريقيا ومن جنوبي شرق آسيا وغربها علاوة على المواطنين من سكان الحي كلها صور تسطع مثل بحر زاخر بالعطاء لتشكل العقد الفريد لهذا الحي وباب شريف هو احد أقدم الأحياء في جدة ويكاد يكون اشهر الاحياء فيها بعد ان اكتسب اسمه من خلال الباب الذي كان من خلاله الناس يدخلون الى داخل سور جدة القديم الذي لم يعد موجوداً، فهذا الحي ورغم قدمه وعشوائيته مازال واقفا وشامخا شموخ الجبال بل وحسب تأكيد مدير الثقافة والسياحة في أمانة جدة المهندس سامي نوارانه كان ومازال احد العلامات التي شكلت تاريخ جدة وتحديدا في المجال الاقتصادي .
هذا الحي والذي يصل اليه الداخل من حارة اليمن شمالا ومن شارع الملك فهد جنوبا ومن شارع الذهب غربا ومن حارة برا شرقا قد اتخذ اسمه من الباب الجنوبي لمدينة جدة والتي كانت في احد الأيام تقع داخل سور به العديد من الأبواب كان من بينها باب شريف والذي كان شاهدا تاريخيا للهجوم البرتغالي على الدولة العثمانية التي كانت في ذلك الوقت في بداية نشأتها في المنطقة والتي تصدت لهجوم البرتغاليين ولم تكتف بذلك بل قامت بطردهم بعد قتل العديد منهم ومازال التاريخ حتى الآن شاهدا على وجود مقبرة البرتغاليين والتي تعتبر المقبرة الوحيدة لغير المسلمين في جدة.
ويضيف النوار قائلا .. وتاريخ حي باب شريف لا يقف عند هذا الحد ففي هذا الحي احد أشهر أسواق جدة التجارية (سوق باب شريف) والذي نشأ من خلال الحركة التي شهدتها تلك البقعة في ذلك الوقت من خلال الحجاج الذين كانوا ينزلون في ذلك المكان للاستراحة وللتزود ولبيع ماكانوا يجلبونه معهم من متاع وزاد بالاضافة الى ماكان يستورده بعض التجار والذي كان يستورد بحرا خاصة وان المسافة التي كانت تفصل هذا المكان والبحر ليست بالبعيدة ولا حاجز بينهما.
ومع الايام بدأت هذه البقعة تنشط فيها الحياة واصبحت احد اهم الاماكن خارج سور جدة ونظرا لان اليمنيين كانوا ينزلون في المنطقة المحيطة بسور جدة سكنوا حول باب شريف ومعهم استوطن بعض الافارقة واصبح سكانها يتزودون مياههم من الصهاريج فهذا الحي كان ضمن احياء جدة التي كانت الصهاريج تمر فيها.
ويضيف قائلا .. وفي هذا الحي شهد انشاء اول مستشفى في جدة والذي وحسب الروايات تشير الى انه كان موجودا تحت مسمى الصحية او الخستخانة ومع دخول الملك عبدالعزيز
يرحمه الله الى الحجاز امر يرحمه الله بانشاء مستشفى في نفس المكان الذي كانت الصحية مقامة فيه وسمي بمستشفى باب شريف والذي استمر حتى جاء الوقت الذي انشئ فيه مستشفى الملك فهد العام وبالتالي انتهت المنفعة من هذا المستشفى والذي تحول في الوقت الراهن الى بقعة كبيرة باتت موقفا للسيارات.
رئيس بلدية البلد المهندس خالد بارعيدة قال .. حي باب شريف هو أحد أحياء منطقة البلد ويغلب عليه الطابع التجاري ففيه ما يزيد عن 1500 محل تجاري معظمها تمارس تجارة الجملة لذلك يعتبر سوق باب شريف احد اهم اسواق جدة في بيع الجملة لكثير من الاقمشة والملابس المختلفة المقاسات ويضم هذا الحي الذي تزيد مساحته عن 25الف متر مربع العديد من المرافق الحكومية والمساجد وان كان يفتقد لاماكن التنزهة بسبب وصول نسبة البناء فيه الى 99% من مساحة الحي ومع ذلك يجد الكثير من السكان وحتى زوار المنطقة ضالتهم في الحركة التي تشهدها المنطقة والتي تجمع الكثير من الاجناس والثقافات المختلفة رغم ان معظم مساحة المنطقة هي اماكن تجارية.
اما عمدة حي الشاطىء والمظلوم طلعت غيث فقال .. تعتبر بيوت شيخين والساعاتي والمغربي والبتار وقل الشامي وبادكوك والعطيوية من اشهر البيوت التي سكنت منطقة باب شريف والتي كان لها دور في احياء هذه البقعة بعد ان كانت في الاساس عبارة عن زقاق طويل الممر وصغير المساحة مظلل بسعف النخيل كان البيع والشراء يتم فيه ورغم التحسينات الكبيرة التي شهدها هذا الزقاق لكنه مازال موجودا ويعرف اليوم باسم سوق باب شريف والذي يعتبر احمد شمسان احد اشهر باعته ومعه حسن لبان احد اشهر بائعي اللبن في ذلك الوقت وكان يتخذ من الركن الجنوبي لهذا الزقاق مكانا له وبجواره اسعد جبور الجزار بائع اللحمة . فالركن الجنوبي كان مخصصا لبيع الحلبة والمأكولات اليمانية وكذلك الخضار والفاكهة فيما يأتي مصطفى الجيزاوي كاحد اشهر بصاصي جدة في ذلك الوقت والبصاص يطلق في ذلك الوقت على مهنة البواب وذلك من خلال حراسته الشديدة لبوابة باب شريف ومع الايام تحول السوق الى مكان لسكن الاخوة اليمنيين ومعهم الافارقة وبالذات السودانيين الذين كانوا يأتون في موسم الحج وينزلون في وقف يسمى في الوقت الراهن «بوقف الفور» وقد شهدت هذه المنطقة بداية تشكيل الامن في جدة فمركز قسم شرطة البلد كان في الاساس مركزا لشرطة النجدة فيما يأتي مسجد شمعون احد اشهر واقدم المساجد في جدة بعد مسجد الشافعي.
ويطلق العم محمد سعيد تنهيدة الم على الماضي الذي وصفه بانه كان الاجمل من هذه الايام رغم قسوة الحياة بسبب ضعف الامكانات المادية والبشرية ويقول قبل اكثر من اربعين عاما قدمت الى هذه الاراضي المقدسة بحثا عن لقمة العيش ووجدت نفسي صبيا في قهوة عبدالصمد التي تعتبر احد اقدم مقاهي جدة ومازالت موجودة حتى الان وكانت في ذلك الوقت وقبل التطور العمراني الذي شهدته جدة بسرعة كبيرة وبالذات في منطقة باب شريف قريبة جدا من المستشفى الوحيد في جدة والذي كان يشهد كثيرا من المراجعات صباحا ومساء بحثا عن العلاج ففي ذلك الوقت كان معظم العاملين في المستشفى من الجنسية الباكستانية والقليل جدا من الجنسية المصرية وكان يطلق على الطبيب اسم «الدختور» يطلقها ويضحك ويقول كانت الناس طيبة جدا وليست مثل اليوم فلو قلتها اليوم لالتفت نحوي الطبيب مشتاطا من الغيظ وقد تدفعني هذه الكلمة تجاهله لي عموما هذا المستشفى تحول اليوم الى مكان لوقوف السيارات وتحميل البضائع فيه بعد ان كان يوما احد اهم اماكن العلاج في جدة فيما كانت قهوة الغمد وحراج الخردوات وحوش الشربتلي في الجهة الشرقية والتي فيها ايضا حلقة الخضروات والقصب والحطب.
ومضى العم عبدالحميد طالع قائلا لا اتذكر سوى القليل من ماضي المنطقة القديمة والتي كانت فيها مقبرة مجاورة للمستشفى ومازال بعض بقاياها موجودا حتى الان بالاضافة الى وجود مسجد السنوسي الذي كان مبنيا من الطين فيما لازالت اصوات ونات الاسعافات ترن في مسامعه كلما مر بجوار بوابة المستشفى الذي يقع على شارع الملك عبدالعزيز امام مركز شرطة البلد.
فيما يقول قاسم حسن مازلت اتذكر الحنين الماضي عندما كنت اتسوق في سوق باب شريف والذي وبسبب سكني في حي البخارية كنت اسلك طريق القنفذة الذي يشتهر بصناعة وبيع الفضة ومحلات بيع الشيش وانا اشتم رائحة البخور الذي كان ينبعث في ارجاء الشارع من احد محلات العطارة التي مازلت موجودة حتى الان والتي رغم السنوات الطوال الا انها مازلت تحتفظ باصالتها فمن شارع القنفذة وحتى مسجد شمعون كله تاريخ يحكي عن حي باب شريف الذي كان احد الاماكن المفضلة لي سواء للتسوق او التنفيس عن النفس من خلال الدخول الى السينما التي كان مسموحا بها في ذلك الوقت رغم ان المكان لم يكن يتجاوز احد البيوت الشعبية التي هدمت غرفه وتحول الى باحة بيضاء رصت فيها الكراسي لمشاهدة عروض الافلام الهندية التي كانت تسيطر على عقولنا في ذلك الوقت.
ويضيف احمد حسن قائلا .. اهه على الماضي فسوق باب شريف هو احد اهم اسواق جدة التجارية فمن هذا السوق انطلق الكثير من التجار واصبحوا اغنياء وبالذات من خلال ممارستهم للبيع والشراء وخاصة في مجال الصرافة.
واخيرا قال محمد فلاته انه رغم عشوائية المنطقة وازدحامها الا انه لايمكن ان ارحل منها او حتى مغادرتها لو للحظة فكل شيء فيها يذكرني بالماضي وكل شيء فيها هو تاريخي الذي لن يعود.