يعد بعض المؤرخين القرن الرابع الهجري قرنا ذهبيا في تاريخ الحضارة الاسلامية.. فقد كان هذا القرن هو ذروة التراكم المعرفي في العديد من الحقول والمجالات العلمية والثقافية الهامة، وبالذات في مجال علم أصول النحو الذي بلغ قمة نضجه في هذا القرن.
إلا ان هذا القرن يعد بمنظور الاجتهاد واشكالياته قرن الجمود وتوقف التفكير الأصولي وانغلاقه في مدونات فقهية مذهبية منغلقة ونهائية كانت سببا رئيسيا في انحدار الثقافة المعرفية في الأمة الاسلامية في القرون التالية، والدخول في مرحلة عصر الانحطاط كما يقول ابن خلدون. فقد تحول التيار الاسلامي من العقل الى النقل، ومن الابداع الى الاتباع، وخبت ناره الابداعية الفكرية التي كانت متقدة طوال تلك القرون السابقة. فلم يبق من المذاهب الاجتهادية المطلقة التي قال عنها أحمد أمين في كتابه (ظهر الاسلام) ان عددها قد بلغ خمسمائة مذهب -ولو ان هذا العدد في نظر البعض مبالغ فيه- لم يبق منها الا أربعة مذاهب فقط في المحيط السني وهي: (الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية).
ونسجل هنا بأن أئمة هذه المذاهب رحمهم الله لم يقدموا أنفسهم بوصفهم اصحاب مذاهب نهائية بل قدموا أنفسهم بوصفهم مستقلين مجتهدين في أدلتهم وترجيحاتهم وآرائهم.
وكان لهذا الانحطاط والانتكاسة الفكرية أسباب كثيرة كما يذكرها المؤرخون يأتي على رأسها التسلط السياسي وإحكام سيطرته على المذاهب، فقد كان لهذه السيطرة دور رئيسي في هذا الانحطاط الفكري وتعطيل العقل الاجتهادي ودخوله في مرحلة التجمد والتوقف عن العمل وعكس حركة سيره الى الوراء.
ولم تكن المؤسسة السياسية في هذا القرن هي الوحيدة التي فكرت في ادخال المؤسسات الدينية في منظومتها، فقد كانت هناك محاولات قديمة حول فكرة تبني مذهب رسمي للدولة، فسبق للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور ان عرض على الامام مالك بن أنس فكرة اتخاذ (الموطأ) قانونا عاما للدولة ولكنه رفض ذلك رحمه الله. وفي هذا القرن تقريبا تأسست ما يمكن تسميتها بمدارس الدولة المذهبية التي باتت تخرج علماء المذاهب الفقهية الذين هم عبارة عن نسخ مستنسخة من بعضهم البعض -فكريا- ولا يوجد هنالك فرق كبير بينهم الا بالاكسسورات والديكورات الخارجية فقط. ففي عام (381) كمايذكر المؤرخون وبأمر من الخليفة العباسي القادر أطلقت المؤسسة السياسية الرصاصة الأخيرة على الفكر الاجتهادي الحر وأردته جريحا يتخبط بدمائه ومن ثم دخوله في غيبوبة طويلة الأمد..!
وأصدرت ما سمي فيما بعد -بالوثيقة القادرية- التي وضعت بذلك نقطة النهاية في الحرب الخفية الملتهبة والمندلعة منذ قرون خلت لسيطرة المؤسسة السياسية على المؤسسات الدينية.. فقد تم حصر المذاهب الفقهية.. واصدر الخليفة أوامره السامية الى فقهاء المذاهب الأربعة بتصنيف كتب على المذاهب، ومن ثم قصر العمل عليها في هذه المذاهب.
فوضع له الماوردي الشافعي كتاب (الاقناع) وصنف أبو الحسين القدوري الحنفي مختصره المعروف بـ(متن القدوري) وصنف عبدالوهاب بن محمد بن نصر المالكي مختصرا آخر، ولم يعرف من صنف له على المذهب الحنبلي، واعتراف القادر بها ومن ثم قصر العمل عليها.
ثم أمر بإغلاق باب البحث والنظر والاجتهاد على كتب السابقين وتقليد آرائهم.. معلنا بذلك بداية انطلاق الفكر الاسلامي في رحلته الطويلة نحو الهاوية والتخلف والجمود.. فخرجت لنا الحواشي والحواشي على الحواشي!
ومنذ ذلك التاريخ ظهرت المذاهب الفقهية بصورة توحي اليك وكأنها ديانات مختلفة وليست مذاهب فقهية لدين واحد تنطلق من قواعد وكليات متفق عليها..
فظهر التعصب للمذاهب وأسفر عن وجهه القبيح ووصل الأمر الى مستوى يعتبر من المضحكات المبكيات كما يقال..!
فقد وصل التعصب الى (تحريم الانتقال من مذهب الى مذهب وعد من ينتقل من مذهب الى مذهب مرتكبا جرما عظيما).
بل إن هذا التعصب وصلت فيروساته حتى في مجال علاقات الزواج، فقد وقع الاختلاف في حكم تزوج الحنفية بالشافعي.. فقال بعضهم: (لا يصح لأنها يشك في إيمانها وقال آخرون يصح قياسا على الذمية!!).
إن التعصب داء خطير يهلك الأمم ويقضي عليها، ويفككها ويحولها الى طوائف متناحرة، ويستهلك عقول ابنائها ويستنزف طاقاتهم. وبدلا من ان يهيئ لهم أجواء صحية للانطلاق في البحث الحر والتحليق نحو عالم الافكار والقبول بالرأي الذي من خلاله تتلاقح الافكار وتتوالد وتضاء مصابيح العقل وتشع أنواره، يصبحون منكفئين على أنفسهم وعقيمي الجدوى ومجرد نسخ مستنسخة الكثير منها عالة على الأمة وزائد عن الحاجة فلنعلنها حربا ضروسا على التعصب المذهبي، ولنعد حساباتنا من جديد، فكثير من النخب «والجنرالات المذهبيين» الذين نراهم يقودون هذه الحرب المذهبية المستعرة بين العباد، ونتوهم أنهم يحاربون كما يزعمون من أجل وأد الفتن ونصرة الدين ضد المفسدين والضالين واستتباب أمنه الفكري، هم الحقيقة ليسوا كذلك..! إنما يحاربون من أجل مصالحهم وطموحاتهم الشخصية وكما يقول بايرون: (الحرب مقدسة فقط حين تكون من أجل الحرية، لكن إن كانت من أجل الطموح فمن ذا الذي لا يسميها جزارة)!
وما نراه اليوم من معارك مذهبية هي في الحقيقة عبارة عن «جزارة مذهبية فكرية» من أجل الطموح والمصالح الشخصية لكنها مصنعة بقالب جديد لكي تتوافق مع العصر الحديث وإلا فإن أئمة هذه المذاهب ومؤسسيها كانوا قد ضربوا لنا أروع الأمثال في تقبل الرأي الآخر عندما لم يكن للطموح المصلحي حيز في حياتهم الدينية والدنيوية..!
إلا ان هذا القرن يعد بمنظور الاجتهاد واشكالياته قرن الجمود وتوقف التفكير الأصولي وانغلاقه في مدونات فقهية مذهبية منغلقة ونهائية كانت سببا رئيسيا في انحدار الثقافة المعرفية في الأمة الاسلامية في القرون التالية، والدخول في مرحلة عصر الانحطاط كما يقول ابن خلدون. فقد تحول التيار الاسلامي من العقل الى النقل، ومن الابداع الى الاتباع، وخبت ناره الابداعية الفكرية التي كانت متقدة طوال تلك القرون السابقة. فلم يبق من المذاهب الاجتهادية المطلقة التي قال عنها أحمد أمين في كتابه (ظهر الاسلام) ان عددها قد بلغ خمسمائة مذهب -ولو ان هذا العدد في نظر البعض مبالغ فيه- لم يبق منها الا أربعة مذاهب فقط في المحيط السني وهي: (الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية).
ونسجل هنا بأن أئمة هذه المذاهب رحمهم الله لم يقدموا أنفسهم بوصفهم اصحاب مذاهب نهائية بل قدموا أنفسهم بوصفهم مستقلين مجتهدين في أدلتهم وترجيحاتهم وآرائهم.
وكان لهذا الانحطاط والانتكاسة الفكرية أسباب كثيرة كما يذكرها المؤرخون يأتي على رأسها التسلط السياسي وإحكام سيطرته على المذاهب، فقد كان لهذه السيطرة دور رئيسي في هذا الانحطاط الفكري وتعطيل العقل الاجتهادي ودخوله في مرحلة التجمد والتوقف عن العمل وعكس حركة سيره الى الوراء.
ولم تكن المؤسسة السياسية في هذا القرن هي الوحيدة التي فكرت في ادخال المؤسسات الدينية في منظومتها، فقد كانت هناك محاولات قديمة حول فكرة تبني مذهب رسمي للدولة، فسبق للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور ان عرض على الامام مالك بن أنس فكرة اتخاذ (الموطأ) قانونا عاما للدولة ولكنه رفض ذلك رحمه الله. وفي هذا القرن تقريبا تأسست ما يمكن تسميتها بمدارس الدولة المذهبية التي باتت تخرج علماء المذاهب الفقهية الذين هم عبارة عن نسخ مستنسخة من بعضهم البعض -فكريا- ولا يوجد هنالك فرق كبير بينهم الا بالاكسسورات والديكورات الخارجية فقط. ففي عام (381) كمايذكر المؤرخون وبأمر من الخليفة العباسي القادر أطلقت المؤسسة السياسية الرصاصة الأخيرة على الفكر الاجتهادي الحر وأردته جريحا يتخبط بدمائه ومن ثم دخوله في غيبوبة طويلة الأمد..!
وأصدرت ما سمي فيما بعد -بالوثيقة القادرية- التي وضعت بذلك نقطة النهاية في الحرب الخفية الملتهبة والمندلعة منذ قرون خلت لسيطرة المؤسسة السياسية على المؤسسات الدينية.. فقد تم حصر المذاهب الفقهية.. واصدر الخليفة أوامره السامية الى فقهاء المذاهب الأربعة بتصنيف كتب على المذاهب، ومن ثم قصر العمل عليها في هذه المذاهب.
فوضع له الماوردي الشافعي كتاب (الاقناع) وصنف أبو الحسين القدوري الحنفي مختصره المعروف بـ(متن القدوري) وصنف عبدالوهاب بن محمد بن نصر المالكي مختصرا آخر، ولم يعرف من صنف له على المذهب الحنبلي، واعتراف القادر بها ومن ثم قصر العمل عليها.
ثم أمر بإغلاق باب البحث والنظر والاجتهاد على كتب السابقين وتقليد آرائهم.. معلنا بذلك بداية انطلاق الفكر الاسلامي في رحلته الطويلة نحو الهاوية والتخلف والجمود.. فخرجت لنا الحواشي والحواشي على الحواشي!
ومنذ ذلك التاريخ ظهرت المذاهب الفقهية بصورة توحي اليك وكأنها ديانات مختلفة وليست مذاهب فقهية لدين واحد تنطلق من قواعد وكليات متفق عليها..
فظهر التعصب للمذاهب وأسفر عن وجهه القبيح ووصل الأمر الى مستوى يعتبر من المضحكات المبكيات كما يقال..!
فقد وصل التعصب الى (تحريم الانتقال من مذهب الى مذهب وعد من ينتقل من مذهب الى مذهب مرتكبا جرما عظيما).
بل إن هذا التعصب وصلت فيروساته حتى في مجال علاقات الزواج، فقد وقع الاختلاف في حكم تزوج الحنفية بالشافعي.. فقال بعضهم: (لا يصح لأنها يشك في إيمانها وقال آخرون يصح قياسا على الذمية!!).
إن التعصب داء خطير يهلك الأمم ويقضي عليها، ويفككها ويحولها الى طوائف متناحرة، ويستهلك عقول ابنائها ويستنزف طاقاتهم. وبدلا من ان يهيئ لهم أجواء صحية للانطلاق في البحث الحر والتحليق نحو عالم الافكار والقبول بالرأي الذي من خلاله تتلاقح الافكار وتتوالد وتضاء مصابيح العقل وتشع أنواره، يصبحون منكفئين على أنفسهم وعقيمي الجدوى ومجرد نسخ مستنسخة الكثير منها عالة على الأمة وزائد عن الحاجة فلنعلنها حربا ضروسا على التعصب المذهبي، ولنعد حساباتنا من جديد، فكثير من النخب «والجنرالات المذهبيين» الذين نراهم يقودون هذه الحرب المذهبية المستعرة بين العباد، ونتوهم أنهم يحاربون كما يزعمون من أجل وأد الفتن ونصرة الدين ضد المفسدين والضالين واستتباب أمنه الفكري، هم الحقيقة ليسوا كذلك..! إنما يحاربون من أجل مصالحهم وطموحاتهم الشخصية وكما يقول بايرون: (الحرب مقدسة فقط حين تكون من أجل الحرية، لكن إن كانت من أجل الطموح فمن ذا الذي لا يسميها جزارة)!
وما نراه اليوم من معارك مذهبية هي في الحقيقة عبارة عن «جزارة مذهبية فكرية» من أجل الطموح والمصالح الشخصية لكنها مصنعة بقالب جديد لكي تتوافق مع العصر الحديث وإلا فإن أئمة هذه المذاهب ومؤسسيها كانوا قد ضربوا لنا أروع الأمثال في تقبل الرأي الآخر عندما لم يكن للطموح المصلحي حيز في حياتهم الدينية والدنيوية..!