افتتح صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز مساء الأحد الماضي في المتحف الوطني بمركز الملك عبد العزيز التاريخي معرض أعمال الملك «خالد» الذي تنظمه مؤسسة الملك خالد الخيرية والذي يضم المطبوعات والصور والكتب والأفلام التي ترصد تاريخ وسيرة الملك خالد وإنجازاته.
ولقد تشرفت بكتابة النصوص الإبداعية لهذا المعرض التاريخي بتكليف خاص من صاحبة السمو الملكي الأميرة الجليلة البندري بنت عبدالرحمن الفيصل بن عبد العزيز حفيدة الملك خالد من جهة والدتها وحفيدة الملك فيصل من جهة أبيها ومديرة مؤسسة الملك خالد الخيرية. ويوثق هذا المعرض سيرة الملك الصالح خالد بن عبد العزيز ــ يرحمه الله ــ الذي انفتحت أبواب السماء في يوم بيعته بالخير والعطاء وسقيا الرحمة والرخاء، فهطلت الأمطار على كافة أرجاء البلاد، واستمرت في الهطول في مواسمها دون توقف على مدى سنوات حكمه السبع، حتى ظن الناس أن الأنهار الموعودة ستجري في جزيرة العرب من جديد، وأن المروج دائمة الخضرة والإشراق أصبحت قاب قوسين أو أدنى. ولقد شبه المواطنون السعوديون الملك خالد نفسه بديمة خير وعطاء أمطرت سبع سنوات بسقيا الرحمة والبركة، فقد تدفقت النعم والخيرات في عهده على البلاد والعباد مدرارا حتى نسي الناس عقودا طويلة من البؤس والحرمان التي عانى منها الآباء والأجداد.
ذلك هو الملك الصالح الذي تميز منذ البداية بالصلابة والتماسك في مواجهة الخطوب والأحداث الجسام بدءا بفقدان أخيه وصديقه القريب إلى نفسه الملك فيصل ــ يرحمه الله ــ وانتهاء بفتنة استيلاء عصابة جهيمان وأعوانه من الخوارج على الحرم المكي الشريف، وفي كلتا الحالتين كان الملك خالد متماسكا راسخا رسوخ الجبال يتعامل مع الحدث الجلل بحكمة وهدوء ويتجاوزه بحسم وقوة واضعا نصب عينيه ميزان العدل وعدم الخلط بين الأمور، فاستشهاد الفيصل لم يدفعه لتحويل بلاده إلى دولة قمعية لحفظ الأمن على حساب التنمية. وفتنة خوارج المهدي المزعوم لم تفقده الثقة في أبناء شعبه وسلامة عقيدتهم وولائهم لقيادتهم الرشيدة، ولم تدفعه للانكفاء ورفض التحديث والتطوير. وإعادة هيكلة أجهزة الدولة لم تشغله عن حاجات المواطنين الأساسية للدخل المناسب والرعاية الصحية والمسكن اللائق وتعليم الأبناء وفتح مجالات العمل للخريجين الجدد. واندلاع الحروب والقلاقل الإقليمية لم يبدل قناعاته وأولوياته في ضرورة العمل على بناء قاعدة راسخة للتنمية المستدامة واستكمال مشروعات البنية الأساسية. ذلك هو الملك الصالح الذي لم تختلط عليه الأمور ولم يضع السيف محل الندى.
ولقد برهن الملك خالد خلال فترة حكمه على أن المحبة والتواصل بين الحاكم والمحكوم لا تباع ولا تشترى ولكنها تأتي كمحصلة طبيعية لحجم الإنجاز وسلامة النية، وهناك مواقف عفوية غير مصنوعة تظهر مدى شعبية القادة لدى مواطنيهم، ولقد كان اليوم السادس والعشرون من شهر ذي الحجة سنة 1398 هـ يوما مشهودا في تاريخ المملكة العربية السعودية حينما زحف المواطنون السعوديون رجالا ونسا، شيبا وشبانا وأطفالا إلى مطار الرياض القديم لاستقبال الملك خالد عند عودته من خارج البلاد بعد رحلة علاجية طويلة تكللت بالنجاح. لقد كانت مظاهرة حب شعبية عفوية يندر أن ترى مثلها لأي زعيم على مستوى العالم لسنين طويلة. وكان لقاء تاقت إليه كل القلوب، وبيان محبة عفوي من شعب مخلص وفي لمليك صالح رحيم بنى عرشه فوق القلوب. ففي عهده الميمون وصل إلى كل مواطن كبيرا كان أو صغيرا نصيب يرضيه من الثروة على شكل زيادة كبيرة غير مسبوقة في المرتبات والأجور والمعاشات، أو على شكل سكن لائق من خلال برنامج منح الأراضي المجانية وقروض الإسكان الميسرة على مدى خمسة وعشرين عاما بدون فوائد، أو على شكل بعثة دراسية للخارج أو مقعد مضمون في الجامعات المحلية ووظيفة مضمونة بعد التخرج، أو مطار أو مستشفى قريب أو مصدر ماء نظيف جار.
كان الملك الصالح متحيزا للمواطن دون اعتبار لمقاييس الربح والخسارة، فعندما رفع إليه للبت في طلب تقدمت به مواطنة سعودية في التسعينات من عمرها للحصول على قرض من صندوق التنمية العقارية حديث التأسيس حينها على أساس أنها من المحتمل ألا تعيش حتى تسدد القرض قال كلمته الشهيرة (أليست مواطنة سعودية؟! أعطوها حقها إذا). لقد انتزع الملك خالد بهذه الكلمات الحاسمة كافة المشاعر الرديئة من نفوس المسؤولين عن الشأن العام في عهده، وعلمهم متى وكيف يغلبون معايير الرحمة والعدل على معايير الربح والخسارة في التعامل مع المواطنين، لتصبح هذه العبارة فيما بعد عنوانا لعهد استثنائي زاهر يصعب تكراره ويندر أن يجود الزمان بمثله.
وعلى مستوى الإنجازات التاريخية فقد بدأ الملك خالد عهده بتشكيل وزاري من المتخصصين (التكنوقراط) كان الأوسع في تاريخ البلاد، وذلك في سبيل التأكد من توافر الكفاءات العلمية الاحترافية اللازمة لقيادة عملية التنمية الشاملة التي كان يطمح إلى تنفيذها في وقت قياسي بالاستفادة من الدخل الاستثنائي للدولة في عهده الزاهر في زيادة الطاقة الاستيعابية للاقتصاد السعودي وتحديث مرافق الدولة وفتح فرص وظيفية جديدة للسعوديين. ورغم المسؤوليات المتعاظمة على المستويين المحلي والعالمي إلا أن إصرار الملك خالد على تنفيذ مجموعة كبيرة من المشروعات العملاقة بتزامن رائع وبتركيز يسابق الزمن ميز عصره الذهبي بالإنجازات التنموية العملاقة التي لاتخطئها العين في مختلف الجبهات الاقتصادية. فعلى الجبهة الصناعية تم إنشاء وزارة الصناعة والكهرباء و(الهيئة الملكية للجبيل وينبع) وشركة سابك العملاقة التي شكلت حجر الأساس لمشاريع وصناعات كيميائية ذات شهرة وأهمية عالمية. وعلى الجبهة التعليمية لم يكتف رحمه الله ببناء جامعتي أم القرى في مكة المكرمة والملك فيصل في الأحساء وتوسيع الجامعات القائمة وزيادة طاقتها الاستيعابية، بل نفذ أكبر برنامج للابتعاث الخارجي في تاريخ البلاد في حينه شمل آلاف الطلاب في مختلف التخصصات حتى وصل تعدادهم في الولايات المتحدة وحدها في وقت من الأوقات إلى أكثر من (25) ألف طالب وطالبة. أما على جبهة المواصلات فقد تم إنشاء مطاري الملك عبد العزيز في جدة والملك خالد في الرياض إضافة إلى عدد كبير من المطارات الإقليمية وشبكة واسعة من الطرق السريعة والكباري والأنفاق التي تربط أرجاء المملكة المترامية لأول مرة بشبكة طرق حديثة، إضافة إلى شبكة اتصالات تلفونية وتلفزيونية متقدمة.
وتبقى هدية الملك خالد للكعبة المشرفة هي الأحلى والأنفس والأغلى على مر السنين والأيام لما تحمله من دلالات على إيمان عميق بالله وسعي حثيث لرضاه، ففي جمادى الأولى من العام 1398هـ (1977م) ، كان جلالة الملك خالد يؤدي الصلاة داخل الكعبة المشرفة، فلاحظ أن بابها قد اعتراه البلى، وكان الباب قد صنع عام 1363هـ (1943م) في عهد جلالة الملك عبد العزيز آل سعود يرحمه الله فأمر الملك الصالح على الفور بصنع باب جديد، بمواصفات متطورة، ليوضع بدل الباب القديم. والحقيقة التي قد يجهلها كثيرون هي أن للكعبة المشرفة بابين أحدهما خارجي ظاهر للعيان، أما الآخر فداخلي لا يرى من الخارج ويسمى باب التوبة ـ وهو باب السلم الذي يصعد به إلى سطح الكعبة المشرفة. وبوشر في وضع الدراسات التصميمية الفنية للبابين التي تكلفت (300.000) ريال تحت إشراف المصمم (منير الجند)، وأنشئت ورشة خاصة، يشرف عليها (أحمد إبراهيم بدر ــ يرحمه الله) شيخ الصاغة في مكة المكرمة مع عدد من الفنيين المهرة. أما الآيات والعبارات التي كتبت على باب الكعبة المشرفة فقد كانت بخط (عبدالرحمن أمين). وتضمنت التصميمات النهائية، تحقيق الانسجام بين باب الكعبة المشرفة وكسوتها التي سبق أن أنشأ الملك خالد مصنعا لنسجها من خيوط الحرير والذهب سنة 1975م، واعتماد خط ( الثلث ) في كتابة الآيات الكريمة والكلمات الأخرى، مع تنفيذ أعمال الزخرفة، حفرا ونقشا، بالذهب مع نسبة قليلة من الفضة. وتم بأمر الملك تأمين كميات الذهب اللازمة، التي بلغت (280) كيلو جراما، من عيار (999.9 %) وتكلفت ( (13,420,000) ريال. أما الباب الداخلي للكعبة المشرفة (باب التوبة)، فهو مطابق للباب الخارجي من حيث الزخرفة والخطوط والنقوش.. وكذلك تم صنع قفل جديد للكعبة المشرفة ـ حيث إن القفل القديم يعود عهده إلى أكثر من سبعين سنة وبذلك استكمل الملك الصالح تجديد وتجميل كل ما يتعلق بقبلة المسلمين، ومهوى أفئدتهم. ويسجل للملك خالد ــ رحمه الله ــ وفاءه لأبيه الملك المؤسس عندما سئل عن صفته التاريخية التي يرغب في أن تسبق اسمه على باب الكعبة المشرفة يوم افتتاحها، فأصر على أن يكتب اسمه تحت اسم أبيه على الباب الجديد بخط صغير بهذه الصيغة: (صنع الباب السابق في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود سنة 1363هـ) ، وتحتها (صنع هذا الباب في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود سنة 1399هـ). كما أنه لم يخالف طبعه في الوفاء للعاملين المخلصين الذين عكفوا عاما كاملا على بناء هذه التحفة الفنية الرائعة فسمح بكتابة أسماء المصمم وكاتب الخط على باب الكعبة الجديد.. رحم الله الملك الصالح خالد بن عبد العزيز.. وبارك في أبنائه وأحفاده الذين مازالوا يحيون ذكره بالعمل الصالح من بعده.
altawati@yahoo.com

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 130 مسافة ثم الرسالة