في ظل الأوضاع الصعبة والدقيقة السائدة في البلدان العربية وتفاقم وتعمق أزمات مجتمعاتها البنيوية على كل الأصعدة والمستويات وانسداد سبل الحاضر وآفاق المستقبل، تعيش بعض الشعوب العربية تحت وطأة الجهل والإفقار والبطالة والتخلف والفساد والاستبداد والتبعية بشتى صورها وأشكالها، وما مظاهر تفشي العنف (المادي والرمزي) والإرهاب والتكفير والاغتراب، وتفسخ النسيج الاجتماعي والوطني، واختلال معايير القيم والسلوك، واستنهاض وانبعاث مختلف أشكال العصبيات والو لاءات التقليدية القديمة كالعشائرية والقبلية والطائفية، وغياب الحد الأدنى من العقلانية والتسامح والانفتاح وقبول الآخر، إلا مؤشرات دالة على المدى الذي بلغه تردي الأوضاع لبعض المجتمعات العربية. الأمر الذي يطرح بقوة التساؤل عن إعادة تأسيس موضعة العقلانية وإعلاء شأن العقل والوعي العربي ودفعه إلى مستوى العصر الحديث وتحدياته ومتطلباته، اخذين بعين الاعتبار الدروس والعبر التي أدت إلى فشل المشروع التنويري -العقلاني - النهضوي الذي رفع لواءه رواد ما سمي بعصر النهضة ابتداء من أواسط القرن التاسع عشر وهو ما يتطلب إحياء وتأصيل عقلانية عربية مرتبطة ببيئتها التاريخية والثقافية والمجتمعية، وحاجات الشعوب العربية في التحرر المادي والعقلي والوجداني من براثن التبعية والتخلف والفقر والاستبداد.ومن الواضح انه ليست هنالك عقلانية مجردة صالحة لان تكون مقياسا للحقيقة العلمية، ومع إن مبادئ التفكير العقلي واحدة إلا إن هنالك تركيبات متميزة ينسجها ويصيغها العقل وفقا للخصائص الحضارية والاجتماعية والبيئية التي يمارس العقل وظائفه ضمنها فطرائق التفكير والاستنتاج والدلالات التي يتسم بها العقل الأوربي هي بخلاف طرائق التفكير والاستنتاج والدلالات التي يتسم بها العقل العربي، وبالتالي من الخطل بمكان محاولة فرض عقلانية الغرب باعتبارها ذرى ما أنجزه العقل البشري (حتى لو صح ذلك) وما على العالم سوى الانتظام وفق مسارها وتكوينها، وتأتي هذه المحاولات باعتبارها تجليا ومظهرا لما يعرف بالمركزية الغربية التي تسعى إلى فرض أنماط الحياة والتفكير والسلوك والقيم الخاصة بها على مختلف شعوب وثقافات العالم، ليس من منطلق التلاقح والتفاعل الحضاري والمثاقفة بل عن طريق الإخضاع والتأثير استنادا إلى تحكمها بالمقدرات الاقتصادية والسياسية والعسكرية وتحكمها بأدوات ووسائل العلم والتكنولوجيا والاتصال وفي ظل العولمة المتزايدة لمنظومة الإنتاج والتداول والتوزيع للسلع والخدمات والمال. غير أن فكرة التقوقع والانزواء ورفض الآخر بما في ذلك منجزات الحضارة الإنسانية المعاصرة والتي هي منجزات الحضارة الغربية تحديدا فضلا عن استحالة تحقيقها فإنها ليست الإجابة الصحيحة على التحديات التي تجابهها المجتمعات العربية والتي هي تحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية وحضارية وثقافية وأمنية تتطلب مواجهتها الاستناد إلى الإمكانيات الذاتية المتاحة في المقام الأول، والاستفادة من مجمل منجزات الحضارة المعاصرة والانفتاح والتفاعل معها بصورة ايجابية ونقدية بما في ذلك منجزاتها الثقافية والعلمية والفلسفية ومن بينها موضوع العقل والعقلانية. فالعقل لغويا هو الربط والإدراك والنهي، فالعقل ضد الطبع أي التصرف غير العشوائي وقد توسعت الفلسفة العربية الإسلامية في نظريات العقل توسعا يعكس رغبة إلى عقل الوجود وعقلنته من المادي إلى المقدس، ومن الحسي إلى المتعال، ومن الواقعي إلى الماورائي. وفي اللغة اليونانية العقل هو لوغوس اونوس القانون والنظام والمبدأ الكلي، ويعتبر ديكارت مدشن الفلسفة العقلانية الحديثة (1596- 1650) العقل اعدل الأشياء توزعا بين الناس لان كل فرد يعتقد انه أوتي منه الكفاية.. والاختلاف في الآراء لا ينشأ عن كون بعضنا أعقل من بعض بل ينشأ عن كوننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة.. إذ لا يكفي أن يكون الفكر جيدا إنما المهم أن يطبق تطبيقا حسنا. العقل إذا هو قول الاصابه في الحكم وتميز الحق عن الباطل والعقلانية بالتالي هي أن يطبق الفكر تطبيقا حسنا، وضمانة ذلك هو الطريقة أو المنهج وترتكز العقلانية الديكارتية على مبدأ الشك المنهجي أو الشك العقلي (وهو الصيغة الأوربية للقياس البرهاني الرشدي) وهو غير الريبة واللاأدريه ،الشيء الذي يرمز إلى تحرير العقل من سلطة المرجعيات المسبقة. الشك الذي يؤدي إلى الحقيقة عن طريق البداهة العقلية (الحدس، التحليل، التركيب) والعقلانية تعني في نظر هذه المدرسة تكيف الوسائل مع الغايات، أما الاقتصاد الحديث فيعرف من جهته السلوك العقلاني بصفته خيارا متوافقا مع أفضليات معنية، ويدخل ماكس فيبر مفهوم العقلانية بالنسبة للقيم لوصف فعل لا يتكيف مع الغايات وإنما مع القيم فتضحية صاحب المبدأ هي عقلانية بالنسبة للقيم، وأحيانا يطلق مفهوم العقلانية على مقولة معينة أو مجموعة من المقولات إذا كانت متطابقة مع المعرفة بالمعنى العلمي للكلمة.ويبرز الفعل العقلاني بكونه هو الفعل الذي يستعمل الوسيلة الأفضل بالنسبة لهذا المعيار، ويكون الفاعلون عقلانيين إذا أقدموا على خيارات تسمح بالوصول الى وضع يعتبره الجميع الأفضل من وجهة نظرهم، وتوجد حالات يكون الفاعلون فيها محكومين بالتسوية والتنازلات المتبادلة.ومن الصعب إيجاد تعريف عام لمفهوم العقلانية ففي بعض الأحيان قد يكون أكثر عقلانية السعي إلى تقليل الخسائر المحتملة، وفي بعض الحالات قد يكون أكثر عقلانية السعي إلى رفع المكاسب إلى حدها الأقصى، ومن ناحية أخرى فان العقلانية نسبية أي مرتبطة بالواقع الموضوعي وبموقع ودور الفاعلين. والسؤال هنا ماذا نستطيع أن نطلق على الأوهام والأساطير والترميز وانتشار الخرافة وتصديق السحر والشعوذة المنتشرة في البلدان العربية– الإسلامية ومجتمعاتها التقليدية وفي المجتمعات الحديثة على حد سواء، وهل هي عقلانية أم غير عقلانية؟.. وللحديث صلة.