يقال إن الدهشة أول التفلسف, أي أول السؤال. والدهشة تعني أننا بإزاء ما يستثير حواسنا وتفكيرنا, أي أننا بإزاء ما هو غير مألوف, وبعبارة أوضح إننا بإزاء المجهول. فما أصبح معروفا لا يثير دهشتنا وأسئلتنا إلا بقدر ما نعيد النظر فيه من جديد بحيث نراجع ما نعرفه مبتدئين من الشك فيه.
لدينا الآن ثلاث فعاليات مرتبطة ببعض: الدهشة, والسؤال, والشك. وبرأيي أن ثمة فعالية عقلية واحدة ذات مستويات متداخلة جدا. فأنا حينما أندهش من شيء فإنني أفترض ما يلي: أنني أقر ضمنا بعدم مألوفيته, أي أعترف بجهلي بطريقة سقراطية نزيهة, كما أنني في الوقت ذاته أمارس الشك وأطرح الأسئلة.
ولكن هل كان يمكن لي أن أنزع المألوفية عن الشيء المألوف لبقية الناس ما لم أكن قد مارست الشك فيه قبلا ولو بصورة لا واعية؟!
ما الذي يسبق الآخر: هل هو الشك أو الدهشة؟
وإذا أتينا للسؤال فسنواجه إشكالية أخرى: فإذا كان السؤال يفترض الشك مسبقا فإنني لا أستطيع أن أشك مادمت مطمئنا إلى الأجوبة المألوفة. فأنا لكي أشك في شيء ما لا بد أن أتخلى عن الجواب المطروح حوله, وغياب الجواب يعني حضور السؤال مكانه.
إن الدهشة التي نراها بوضوح وصفاء في عين الطفل الصغير وهو يتملى الأشياء بعناية, أقول إن هذه الدهشة ما هي إلا سؤال كامن وغير ناضج. فالطفل يولد مزودا بالأسئلة وليس بالأجوبة... وهكذا يمكن لي أن أتصور الطفل وهو يقفز إلى الحياة عاريا من كل شيء, وما اكتسابه للمعرفة إلا لكونه مؤهلا عن طريق السؤال لاستثارة الأشياء واستنطاقها.
إنني أقر بعجزي عن إيجاد فروقات واضحة محددة بين الشك والدهشة والسؤال!
ولكنني سأحاول أن أتقصى ماهية السؤال بدون صرف النظر عن علاقته الملتبسة بالشك والدهشة.
إن السؤال تعبير عن قلق الروح إزاء ممكناتها.. كل شيء متعلق بالروح الإنساني ( العقل إن شئتم أو الإرادة إن أردتم ) هو ذو فاعلية قصدية, بمعنى أنه نشاط وطاقة لا يمكن لها أن تظل ساكنة, فماهية عملها هي القصد، أو التوجه نحو الموضوعات التي تستثير القصدية العقلية والتي في الوقت ذاته تستحضر من الموضوعات ما تنبئ به الكيفية التي يكون عليها القصد الواعي. وهنا نقع في ما يشبه الدور المنطقي: من الذي يستثير الآخر: العقل أم الشيء ؟
إن العقل يجد نفسه مدفوعا إلى خارجها؛ أي إلى خارج نفسه – متعاليا عليها بالضرورة وإلا لما كان عقلا أو وعيا؛ فالوعي حسب هوسرل وعي بشيء ما – كما أن الشيء يتحدد كموضوع قصدي بمجرد مثوله أمام الوعي. العقل بدون الشيء سيكون مجردا وخاليا من كل تعين؛ والشيء بدون العقل لا يكون موضوعا قابلا للمعرفة. أي أنه أشبه أن يكون "لا شيء". كذلك العقل إذا لم يتعين, أي إذا لم يتوجه نحو شيء فهو لا شيء أيضا, إنه أشبه "باللاوعي" .
من التقاء اللاعقل (أو اللاوعي) باللاشيء يتحدد العقل والشيء كوجهين لعملية واحدة هي التفكير الموضوعي الإيجابي.
إن ( اللا - ) هنا تعبير أصيل عن قلق الروح, ولا يطفئ هذا القلق إلا انتفاء النفي ( سلب السلب ) الذي يقوم به التعين: الالتقاء بين العقل (اللامتناهي ) والشيء ( اللا محدد). الالتقاء هو الجواب. وأما السؤال فينبثق من انفصام طرفي الثنائية وارتفاع الرابطة من أية جهة, وبما أننا نولد على تخوم هذه العلاقة الثنائية وربما في غيابها التام, فإننا لا نكف عن الدهشة وإثارة الأسئلة التي ندعوها بالصبيانية؛ هذه الأسئلة في الحقيقة ترتاب في العلاقة التي تحددها الثقافة الإنسانية بين العقل والواقع؛ بين السؤال المقلق والجواب المطمئن. ووظيفة التربية والتعليم وكل أنماط الفكر الثقافي هي إطفاء هذا القلق من خلال قمع السؤال وإعادة ترتيب هذه العلاقة في ذهن الطفل بالطريقة المألوفة والمستقرة منذ زمن طويل ( هذا هو التعليم !! ) ويمكن القول – بالمناسبة – إن التعليم الموجه من قبل أية هيئة اجتماعية ذات طابع تنظيمي واستراتيجي (الأسرة – المدرسة) هو إيديولوجيا.
ما يفعله الفيلسوف بالعادة هو استعادة تلك الدهشة الطفولية وتلك الأسئلة الصبيانية ولكن بصورة أكثر نضجا وعمقا. أي إن الفيلسوف يصر على فحص هذه العلاقة التي تقيمها الثقافة بين الفكر والواقع أو بين الكلمات والأشياء أو بين الوعي وموضوعاته.. ويشكك فيها بعد أن أصبحت مما لا ريب فيه لطول ما اعتادت عليه العقول الكسولة والبليدة. إنه يعيد للروح الإنسانية قلقَها, ويرتب العلاقة ترتيبا جديدا ومختلفا . فالفيلسوف يلاحظ أن للعقل إمكانات غير محدودة وأن للشيء إمكانات غير محدودة.. وأن هذه العلاقة لا يمكن أن تستنفد بهذه السهولة وبضربة واحدة . فهي علاقة نسبية تشرطها أوضاع تاريخية محددة .
إن السؤال الفلسفي يجد بذرته الأولى في سؤال الطفولة, وهو ينطوي على جانب سلبي , رافض : هو الشك, بل والسخرية المريرة من أشكال المعرفة السائدة التي يرى فيها المتسائل – سواء أكان طفلا أو فيلسوفا – تعسفا إيديولوجيا لا مبرر له . والفرق هو أن سؤال الطفل يأخذ صورة كوميدية ( بريئة ), بينما سؤال الفيلسوف يأخذ صورة أكثر تراجيدية ( تعسة ).
هل يمكن لنا القول إن السؤال الفلسفي هو الضامن الوحيد لنا لكي نستعيد تلك الدهشة الجميلة التي عانيناها وقت الطفولة ولكن بصورة أكثر وعيا ؟!
لدينا الآن ثلاث فعاليات مرتبطة ببعض: الدهشة, والسؤال, والشك. وبرأيي أن ثمة فعالية عقلية واحدة ذات مستويات متداخلة جدا. فأنا حينما أندهش من شيء فإنني أفترض ما يلي: أنني أقر ضمنا بعدم مألوفيته, أي أعترف بجهلي بطريقة سقراطية نزيهة, كما أنني في الوقت ذاته أمارس الشك وأطرح الأسئلة.
ولكن هل كان يمكن لي أن أنزع المألوفية عن الشيء المألوف لبقية الناس ما لم أكن قد مارست الشك فيه قبلا ولو بصورة لا واعية؟!
ما الذي يسبق الآخر: هل هو الشك أو الدهشة؟
وإذا أتينا للسؤال فسنواجه إشكالية أخرى: فإذا كان السؤال يفترض الشك مسبقا فإنني لا أستطيع أن أشك مادمت مطمئنا إلى الأجوبة المألوفة. فأنا لكي أشك في شيء ما لا بد أن أتخلى عن الجواب المطروح حوله, وغياب الجواب يعني حضور السؤال مكانه.
إن الدهشة التي نراها بوضوح وصفاء في عين الطفل الصغير وهو يتملى الأشياء بعناية, أقول إن هذه الدهشة ما هي إلا سؤال كامن وغير ناضج. فالطفل يولد مزودا بالأسئلة وليس بالأجوبة... وهكذا يمكن لي أن أتصور الطفل وهو يقفز إلى الحياة عاريا من كل شيء, وما اكتسابه للمعرفة إلا لكونه مؤهلا عن طريق السؤال لاستثارة الأشياء واستنطاقها.
إنني أقر بعجزي عن إيجاد فروقات واضحة محددة بين الشك والدهشة والسؤال!
ولكنني سأحاول أن أتقصى ماهية السؤال بدون صرف النظر عن علاقته الملتبسة بالشك والدهشة.
إن السؤال تعبير عن قلق الروح إزاء ممكناتها.. كل شيء متعلق بالروح الإنساني ( العقل إن شئتم أو الإرادة إن أردتم ) هو ذو فاعلية قصدية, بمعنى أنه نشاط وطاقة لا يمكن لها أن تظل ساكنة, فماهية عملها هي القصد، أو التوجه نحو الموضوعات التي تستثير القصدية العقلية والتي في الوقت ذاته تستحضر من الموضوعات ما تنبئ به الكيفية التي يكون عليها القصد الواعي. وهنا نقع في ما يشبه الدور المنطقي: من الذي يستثير الآخر: العقل أم الشيء ؟
إن العقل يجد نفسه مدفوعا إلى خارجها؛ أي إلى خارج نفسه – متعاليا عليها بالضرورة وإلا لما كان عقلا أو وعيا؛ فالوعي حسب هوسرل وعي بشيء ما – كما أن الشيء يتحدد كموضوع قصدي بمجرد مثوله أمام الوعي. العقل بدون الشيء سيكون مجردا وخاليا من كل تعين؛ والشيء بدون العقل لا يكون موضوعا قابلا للمعرفة. أي أنه أشبه أن يكون "لا شيء". كذلك العقل إذا لم يتعين, أي إذا لم يتوجه نحو شيء فهو لا شيء أيضا, إنه أشبه "باللاوعي" .
من التقاء اللاعقل (أو اللاوعي) باللاشيء يتحدد العقل والشيء كوجهين لعملية واحدة هي التفكير الموضوعي الإيجابي.
إن ( اللا - ) هنا تعبير أصيل عن قلق الروح, ولا يطفئ هذا القلق إلا انتفاء النفي ( سلب السلب ) الذي يقوم به التعين: الالتقاء بين العقل (اللامتناهي ) والشيء ( اللا محدد). الالتقاء هو الجواب. وأما السؤال فينبثق من انفصام طرفي الثنائية وارتفاع الرابطة من أية جهة, وبما أننا نولد على تخوم هذه العلاقة الثنائية وربما في غيابها التام, فإننا لا نكف عن الدهشة وإثارة الأسئلة التي ندعوها بالصبيانية؛ هذه الأسئلة في الحقيقة ترتاب في العلاقة التي تحددها الثقافة الإنسانية بين العقل والواقع؛ بين السؤال المقلق والجواب المطمئن. ووظيفة التربية والتعليم وكل أنماط الفكر الثقافي هي إطفاء هذا القلق من خلال قمع السؤال وإعادة ترتيب هذه العلاقة في ذهن الطفل بالطريقة المألوفة والمستقرة منذ زمن طويل ( هذا هو التعليم !! ) ويمكن القول – بالمناسبة – إن التعليم الموجه من قبل أية هيئة اجتماعية ذات طابع تنظيمي واستراتيجي (الأسرة – المدرسة) هو إيديولوجيا.
ما يفعله الفيلسوف بالعادة هو استعادة تلك الدهشة الطفولية وتلك الأسئلة الصبيانية ولكن بصورة أكثر نضجا وعمقا. أي إن الفيلسوف يصر على فحص هذه العلاقة التي تقيمها الثقافة بين الفكر والواقع أو بين الكلمات والأشياء أو بين الوعي وموضوعاته.. ويشكك فيها بعد أن أصبحت مما لا ريب فيه لطول ما اعتادت عليه العقول الكسولة والبليدة. إنه يعيد للروح الإنسانية قلقَها, ويرتب العلاقة ترتيبا جديدا ومختلفا . فالفيلسوف يلاحظ أن للعقل إمكانات غير محدودة وأن للشيء إمكانات غير محدودة.. وأن هذه العلاقة لا يمكن أن تستنفد بهذه السهولة وبضربة واحدة . فهي علاقة نسبية تشرطها أوضاع تاريخية محددة .
إن السؤال الفلسفي يجد بذرته الأولى في سؤال الطفولة, وهو ينطوي على جانب سلبي , رافض : هو الشك, بل والسخرية المريرة من أشكال المعرفة السائدة التي يرى فيها المتسائل – سواء أكان طفلا أو فيلسوفا – تعسفا إيديولوجيا لا مبرر له . والفرق هو أن سؤال الطفل يأخذ صورة كوميدية ( بريئة ), بينما سؤال الفيلسوف يأخذ صورة أكثر تراجيدية ( تعسة ).
هل يمكن لنا القول إن السؤال الفلسفي هو الضامن الوحيد لنا لكي نستعيد تلك الدهشة الجميلة التي عانيناها وقت الطفولة ولكن بصورة أكثر وعيا ؟!