وجدتها فرصة خلال العطلة الأخيرة لأعود للمؤجلات من كتب طال وجودها دون أن اقرأها.. فعزمت وتوكلت على الله أن أعود لما أجل، وبالذات لعميد الأدب العربي طه حسين.. فقد أعدت قراءة كتابه الشهير أو سيرته الذاتية (الأيام)، مما شجعني على اختيار بعض أعماله، وهكذا بدأت بـ(في الشعر الجاهلي)، ثم (مستقبل الثقافة في مصر)، ثم أعماله الروائية، ومنها: (الوعد الحق) و(المعذبون في الأرض)، وقد أعجبني أسلوبه واحترامه للقارئ وتبسطه في الحديث، وكأنه يحادثه وجها لوجه.. وبالذات في الكتاب الأخير.. فتذكرت أنني سبق أن قرأت لأستاذي الجهيمان فيما سبق، وبالذات في (الأساطير الشعبية) فعدت لها، ولأشرك القارئ العزيز في شيء مما أعجبني، مستشهدا بعبارات أنقلها لهما...
تبدأ (السبحونة) التي عادة ما ترويها الجدات لأحفادها وأسباطها عند حلول الظلام وقبيل النوم، بلازمة معتادة (هنا هاك الواحد والواحد الله في سماه العالي..إلخ) وهكذا تبدأ أساطير الأستاذ عبد الكريم الجهيمان (أساطير شعبية من قلب الجزيرة العربية) 5 أجزاء، ترجم قسم منها قبل سنوات للغة الروسية.
ونجد طه حسين، يقول في إحدى قصصه التي ضمها كتابه (المعذبون في الأرض) والذي يشتمل على بعض القصص الواقعية للطبقة الفقيرة من المجتمع المصري، والتي كان ينشرها كافتتاحيات لأعداد مجلته (الكاتب المصري) خلال أعوام 46-1949م، وعندما جمعت هذه الافتتاحيات في الكتاب الذي يحمل هذا العنوان، وصدر في بيروت منع من دخول مصر.. ولكنه ما أن قامت الثورة عام 1952م حتى أصدرتها دار المعارف بالقاهرة.
نجد طه حسين يقدم إحدى قصصه بقوله: «ومضت الحياة في طريقها هادئة مطمئنة، تعبث بالناس ويعبث الناس بها، ويعفى ما يقبل من أحداثها على آثار ما أدبر من الخطوب».
كما نجد الجهيمان يقول في تقديمه لتلك الأساطير : «وإذن فمن شاء أن يقرأها فليقرأها، ومن شاء أن يهجرها فليهجرها.. ومن شاء أن يمدحها، فليمدحها، ومن شاء أن يذمها فليذمها»، أما طه حسين، فيقطع استرساله بالحديث، وهو يروي قصة (صالح) هذا الطفل الفقير، الذي يعيش بين أم مريضة نفسيا وأب مشغول بزوجته الجديدة وبأطفالها.. نجد طه حسين يقطع كلامه قائلا: «وهنا يسأل القارئ – وما أكثر ما يسألني القراء كما كانوا يسألون الكاتب الفرنسي (ديديرو) – هنا يسأل القارئ عن
هذه..»، وقال: «وإنما هو كلام يخطر لي، فأمليه ثم أذيعه، فمن شاء أن يقرأه فليقرأه، ومن ضاق بقراءته فلينصرف عنه، ومن شاء أن يرضى عنه بعد فليرضى مشكورا، ومن شاء أن يسخط عليه بعد القراءة فليسخط مشكورا أيضا، والمهم هو أن يخطر لي الكلام وأن أمليه وأن أذيعه، وأن يجد القارئ ما يشعره بأن له إرادة حرة تستطيع أن تغريه بالقراءة وأن تصده عنها، وأن يشعر القارئ أيضا بأن له ذوقا صافيا يستطيع أن يعرف في الأدب وأن ينكر، وأن يقبل من الأدب أو يرفض، وليس هذا كله بالشيء القليل، وما أحب أن يظن القارئ أني أتحكم فيه أو أتجنى عليه، فأنا أبعد الناس عن التحكم وأزهدهم في التجني، وأشدهم للقارئ حبا وإكبارا، ولكني لا أحب أن يتحكم القارئ فيّ، ولا أن يتجنى عليّ، ولا أن يخضعني لذوقه، كما لا أحب أن أخضعه لذوقي، ويجب أن تكون الحرية هي الأساس الصحيح للصلة بين القارئ وبيني حين أكتب أنا ويقرأ هو، ولو أني استجبت لهذه الأسئلة فبينت موطن الصبي وبيئته وعرفت أسرته إلى القراء لطال بي الحديث أكثر مما أحب أن يطول».
وفي بداية حديثه في القصة الرابعة (المعتزلة) نجده يقول: «لعل هذا التحدث أن يخرجها من ضميري الخاص إلى الضمير العام، فيكون في ذلك تخفيف للعبء وتفريج للكرب، وشفاء لبعض ما في النفس، والهموم الثقال تخف إذا شاركت في حملها ضمائر كثيرة، ولم يقصر ثقلها على ضمير واحد».
وفي موضع آخر يقول: «وما قيمة الكاتب إذا لم يسخط قراءه على ما يكون بينهم من اختلاف، وأنا أريد دائما أن أكون كاتبا ذا خطر، فارضي قرائي وأسخطهم، وأسر قرائي وأسوؤهم، وأعجب قرائي حتى يكلفوا بي أشد الكلف، وأغيظهم حتى يمقتوني أعظم مقت». وقال وكأنه يحادث القارئ بمجلس واحد بأنه «رجل أثر لا أجد إلا نفسي، ولا أفكر إلا فيها.. وأنا رجل كاتب لا يعنيني إلا أن أملك على القراء أمرهم بما أثير في قلوبهم من رضا وسخط، وبما أشيع في ضمائرهم من حب وبغض، ولست أزدري شيئا كما أزدري إلقاء الدروس في الأخلاق، ولست أنفر من شيء كما أنفر من ترغيب الأغنياء في العطف على الفقراء، ومن تشجيع الأشقياء على احتمال الشقاء».
وقال وهو يتحدث عن أحد أبطال قصته (أم تمام): «ويقال إن الكاتب يختار أشخاصه على صورته، ويقتطعهم من نفسه اقتطاعا، ولولا أن أم تمام كانت غارقة في البؤس والشقاء، ومسرفة في الدمامة والقبح، لقلت إني اقتطعها من نفسي اقتطاعا، ولكني لست غارقا في البؤس والشقاء، والحمد لله على أي حال».
بهذه اللغة الجميلة الرائعة يأخذنا طه حسين معه إلى حيث هو في تصوير رائع أخاذ وبأسلوب لاتستطيع أن تؤجل الاستمرار في قراءته.. وهو لا يفرض نفسه عليك أو يمالئك ويداجيك من أجل أن تحتمل ما يحتمل، فهو يترك لك الخيار حتى لو كنت ساخطا عليه وعلى ما كتب، وفي الطريقة نفسها نجد أستاذنا عبد الكريم الجهيمان يقول أيضا في تقديمه للجزء الأول من الأساطير الشعبية: «ما قد يعترض به أي معترض على أن هذه الأساطير التافهة لا تستحق كل هذا الجهد والعناء الذي يبذل في سبيل نشرها وتوزيعها.. وبعد هذا كله أقدم إليك أيها القارئ الكريم هذه الأساطير، فأقرأها على أنها رجوع إلى الماضي وفي الرجوع إلى الماضي سلوة وتهربا من مشاكل الحاضر.. أو اقرأها على أنها خيال.. وفي الخيال راحة من الحقيقة التي قد تكون مؤلمة، وثقيلة في كثير من صورها وأشكالها»، وقال: «حتى لو اعتبرها القارئ خرافات وخزعبلات، فقد يجد فيها قوة دافعة إلى الأمام».
هذان نموذجان لأسلوبين لعميد الأدب العربي طه حسين، وللأستاذ الرائد عبد الكريم الجهيمان، قبل نصف قرن من الآن، يبين كيف يكتبان باحترام للقارئ.
تبدأ (السبحونة) التي عادة ما ترويها الجدات لأحفادها وأسباطها عند حلول الظلام وقبيل النوم، بلازمة معتادة (هنا هاك الواحد والواحد الله في سماه العالي..إلخ) وهكذا تبدأ أساطير الأستاذ عبد الكريم الجهيمان (أساطير شعبية من قلب الجزيرة العربية) 5 أجزاء، ترجم قسم منها قبل سنوات للغة الروسية.
ونجد طه حسين، يقول في إحدى قصصه التي ضمها كتابه (المعذبون في الأرض) والذي يشتمل على بعض القصص الواقعية للطبقة الفقيرة من المجتمع المصري، والتي كان ينشرها كافتتاحيات لأعداد مجلته (الكاتب المصري) خلال أعوام 46-1949م، وعندما جمعت هذه الافتتاحيات في الكتاب الذي يحمل هذا العنوان، وصدر في بيروت منع من دخول مصر.. ولكنه ما أن قامت الثورة عام 1952م حتى أصدرتها دار المعارف بالقاهرة.
نجد طه حسين يقدم إحدى قصصه بقوله: «ومضت الحياة في طريقها هادئة مطمئنة، تعبث بالناس ويعبث الناس بها، ويعفى ما يقبل من أحداثها على آثار ما أدبر من الخطوب».
كما نجد الجهيمان يقول في تقديمه لتلك الأساطير : «وإذن فمن شاء أن يقرأها فليقرأها، ومن شاء أن يهجرها فليهجرها.. ومن شاء أن يمدحها، فليمدحها، ومن شاء أن يذمها فليذمها»، أما طه حسين، فيقطع استرساله بالحديث، وهو يروي قصة (صالح) هذا الطفل الفقير، الذي يعيش بين أم مريضة نفسيا وأب مشغول بزوجته الجديدة وبأطفالها.. نجد طه حسين يقطع كلامه قائلا: «وهنا يسأل القارئ – وما أكثر ما يسألني القراء كما كانوا يسألون الكاتب الفرنسي (ديديرو) – هنا يسأل القارئ عن
هذه..»، وقال: «وإنما هو كلام يخطر لي، فأمليه ثم أذيعه، فمن شاء أن يقرأه فليقرأه، ومن ضاق بقراءته فلينصرف عنه، ومن شاء أن يرضى عنه بعد فليرضى مشكورا، ومن شاء أن يسخط عليه بعد القراءة فليسخط مشكورا أيضا، والمهم هو أن يخطر لي الكلام وأن أمليه وأن أذيعه، وأن يجد القارئ ما يشعره بأن له إرادة حرة تستطيع أن تغريه بالقراءة وأن تصده عنها، وأن يشعر القارئ أيضا بأن له ذوقا صافيا يستطيع أن يعرف في الأدب وأن ينكر، وأن يقبل من الأدب أو يرفض، وليس هذا كله بالشيء القليل، وما أحب أن يظن القارئ أني أتحكم فيه أو أتجنى عليه، فأنا أبعد الناس عن التحكم وأزهدهم في التجني، وأشدهم للقارئ حبا وإكبارا، ولكني لا أحب أن يتحكم القارئ فيّ، ولا أن يتجنى عليّ، ولا أن يخضعني لذوقه، كما لا أحب أن أخضعه لذوقي، ويجب أن تكون الحرية هي الأساس الصحيح للصلة بين القارئ وبيني حين أكتب أنا ويقرأ هو، ولو أني استجبت لهذه الأسئلة فبينت موطن الصبي وبيئته وعرفت أسرته إلى القراء لطال بي الحديث أكثر مما أحب أن يطول».
وفي بداية حديثه في القصة الرابعة (المعتزلة) نجده يقول: «لعل هذا التحدث أن يخرجها من ضميري الخاص إلى الضمير العام، فيكون في ذلك تخفيف للعبء وتفريج للكرب، وشفاء لبعض ما في النفس، والهموم الثقال تخف إذا شاركت في حملها ضمائر كثيرة، ولم يقصر ثقلها على ضمير واحد».
وفي موضع آخر يقول: «وما قيمة الكاتب إذا لم يسخط قراءه على ما يكون بينهم من اختلاف، وأنا أريد دائما أن أكون كاتبا ذا خطر، فارضي قرائي وأسخطهم، وأسر قرائي وأسوؤهم، وأعجب قرائي حتى يكلفوا بي أشد الكلف، وأغيظهم حتى يمقتوني أعظم مقت». وقال وكأنه يحادث القارئ بمجلس واحد بأنه «رجل أثر لا أجد إلا نفسي، ولا أفكر إلا فيها.. وأنا رجل كاتب لا يعنيني إلا أن أملك على القراء أمرهم بما أثير في قلوبهم من رضا وسخط، وبما أشيع في ضمائرهم من حب وبغض، ولست أزدري شيئا كما أزدري إلقاء الدروس في الأخلاق، ولست أنفر من شيء كما أنفر من ترغيب الأغنياء في العطف على الفقراء، ومن تشجيع الأشقياء على احتمال الشقاء».
وقال وهو يتحدث عن أحد أبطال قصته (أم تمام): «ويقال إن الكاتب يختار أشخاصه على صورته، ويقتطعهم من نفسه اقتطاعا، ولولا أن أم تمام كانت غارقة في البؤس والشقاء، ومسرفة في الدمامة والقبح، لقلت إني اقتطعها من نفسي اقتطاعا، ولكني لست غارقا في البؤس والشقاء، والحمد لله على أي حال».
بهذه اللغة الجميلة الرائعة يأخذنا طه حسين معه إلى حيث هو في تصوير رائع أخاذ وبأسلوب لاتستطيع أن تؤجل الاستمرار في قراءته.. وهو لا يفرض نفسه عليك أو يمالئك ويداجيك من أجل أن تحتمل ما يحتمل، فهو يترك لك الخيار حتى لو كنت ساخطا عليه وعلى ما كتب، وفي الطريقة نفسها نجد أستاذنا عبد الكريم الجهيمان يقول أيضا في تقديمه للجزء الأول من الأساطير الشعبية: «ما قد يعترض به أي معترض على أن هذه الأساطير التافهة لا تستحق كل هذا الجهد والعناء الذي يبذل في سبيل نشرها وتوزيعها.. وبعد هذا كله أقدم إليك أيها القارئ الكريم هذه الأساطير، فأقرأها على أنها رجوع إلى الماضي وفي الرجوع إلى الماضي سلوة وتهربا من مشاكل الحاضر.. أو اقرأها على أنها خيال.. وفي الخيال راحة من الحقيقة التي قد تكون مؤلمة، وثقيلة في كثير من صورها وأشكالها»، وقال: «حتى لو اعتبرها القارئ خرافات وخزعبلات، فقد يجد فيها قوة دافعة إلى الأمام».
هذان نموذجان لأسلوبين لعميد الأدب العربي طه حسين، وللأستاذ الرائد عبد الكريم الجهيمان، قبل نصف قرن من الآن، يبين كيف يكتبان باحترام للقارئ.