"قاع اليهود".. هذا هو اسم الحي الذي اختطه امام اليمن يحيى حميد الدين مطلع القرن الماضي.. ويقع خارج اسوار وابواب صنعاء القديمة، ودفعت رائحة خمور اليهود وذوائب شعرهم المتدلي امام اذانهم والمسمى (زنار) الإمام شخصيا الى نقل سكان "حي الطواشي" وسط المدينة القديمة لصنعاء الى حي جديد سمى منذ ذلك الحين بـ "قاع المدينة".

هذا الحي تحول الآن الى سوق شعبي لكنه مايزال محتفظا بحوانيته القديمة المترامية وأزقته الضيقة، وبوابتيه (الشبه والبونية). وحسب الرجل العجوز محمد قاسم شبان فإنه يوجد كركون امام بوابة (الشبة) لمراقبة الداخل والخارج، وللحيلولة دون اختلاط اليهود بالمسلمين حتى تظل عاداتهم وتقاليدهم وخمورهم المسموح لهم بتحضيرها في منأى عن الاخرين.

ومنذ رحيل اليهود أو ترحيلهم عن حيهم التاريخي بين (1881 - 1950) اصبح باستطاعة الجميع زيارة الحي الذي لم يتبق منه سوى منازل عتيقة بسكان جدد عليها نقوش لنجمة داوود وحكايات تروى من اليهود وقصص "حبشوش" وقصره.



الكباب والفول والفلفل



"عكاظ" زارت ما كان يسمى بقاع اليهود وسارت في أزقته، وهناك وبالقرب من حوانيت متراصة ضيقة وقديمة يعد فيها الشاي، ويطهى فيها الكباب.. ومطاعم للفول و "الزحاوق" - الفلفل المسحوق - اختلطت روائح الطعام بنكات سكان الحي وضحكاتهم.. وتناثرت قصص كثيرة تخبرنا عن المكان.. وشيء من تاريخه.

يتذكر عجوز من ساكني الحي يدعى (القطاع) حكايات عن يهودي شهير يدعى (حبشوش اليهودي) ويقول كان حبشوش شيخ اليهود.. وكان من أثرى أثرياء اليمن، أما حرفته فصياغة الذهب والفضة.. وأشار (القطاع) إلى بقايا منزل كان حينها يسمى قصرا قائلا: "هذا منزله" الذي لم يبق منه سوى الاطلال وردهات غير مسقوفة، وهي سمة معمارية خاصة بمنازل اليهود، يقول عنها (مبارك علي مبارك) أحد اهالي الحي "كانت رائحة منازل اليهود كريهة لذا يعمدون الى ايجاد الشماسات فيها" - مكان وسط البيت يكون مكشوفا من اجل ان تدخله الشمس، فيما بدا من ملامح ما تبقى من المنزل ان غرفه بنيت بشكل عشوائي وقال بعض الاهالي إن أبواب اليهود كانت قصيرة حتى ينحني المسلمون إذا ما دخلوها لكن كثيرين نفوا هذه الرواية.

وأرجعت المراجع سبب مظهر منازل بيوت اليهود التي تبدو غير منسقة وغير متجانسه الى عدم شعورهم بالاستقرار، فكانوا كلما احتاجوا غرفة اضافية بنوها منفردة.

وتتردد معلومات مؤكدة بأن سبب انخفاض منازل اليهود عن منازل المسلمين كان بسبب أمر إمامي منعهم من ذلك وهو ما أكدته كتب التاريخ حيث كان اليهود ممنوعين من بناء منزل أكثر من طابقين بأمر من الإمام.

ولمنزل (حبشوش) قصص لاتخلو من الطرافة، وتحمل احجاره جزءا من تاريخ المكان، فحين قرر اليهود الإصغاء لنداء يهودي بالتجمع في القدس.. باعوا منازلهم "بسعر التراب"، وقد اشترى القصر احد ولاة الإمام يومها يسميه الاهالي (حاكم الحزة) الكبسي.

كان ذلك بين يونيو 1949ويونيو 1950 عندما تم ترحيل 43 ألف يهودي عن طريق إقامة جسر جوي انطلاقا من عدن، واطلق على العملية اسم "بساط الريح".

وهي الفترة التي عقدت فيها "اسرائيل" العزم على جمع اليهود من كل مكان، وقبلها حاول مبعوثوها ومنذ عام 1910م استقطاب يهود اليمن، لكن بشكل مختلف.

ففي شتاء عام 1910 أُرسل (شموئيل يفنيأل) إلى اليمن من أجل جلب شباب يهود للعمل في المستوطنات اليهودية في فلسطين بدلا من العمال الفلسطينيين.

وتؤكد كتب التاريخ أن يهود اليمن لم يبدوا حماسا لهذه الرحلات الى القدس، أو كما كانوا يسمونها في اليمن "قدسوا"، ولأنهم كانوا شديدي الاقتناع بأسطورة ظهور (المسيح).



عنصرية وخيبة أمل



وكان موفدو اسرائيل يجيدون العزف على هذا الوتر.. لدرجة أن (يفنيأل) استخرج جواز سفر عثماني وغير اسمه الى (أليعزر بن يوسف) ليضفي على نفسه هالة دينية وصبغة صوفية "مسيانية" (نسبة الى قدوم المسيح المنتظر)، وقد عرف نفسه كحاخام، ووصل اليمن ضمن بعثة دينية وليست قومية، ولم ينس (يفنيأل) أن يحمل معه مجموعة من الاسئلة الدينية كوثيقة تدل على إلمامه بالدين اليهودي اخذها من أحد الحاخامات الكبار في فلسطين، رغم هذا لم يحظ بالتوفيق، فقد رفض يهود اليمن دعوته لأسباب دينية مثل: "لم تأت بعد ساعة عودة المسيح" أو "ليس في جعبتك أدلة أو رموز على تحقق عودة المسيح قريبا"، ومع ذلك كان هناك ايضا من أقتنع بأقواله وهاجر الى فلسطين عام 1911، وتقول المراجع أن 1000يهودي يمني سافروا ذلك العام.

لم يكن يهود اليمن سعيدي الحظ بهذه الرحلة كما بدا لهم أول الأمر، ومن تجارب هؤلاء، عرف يهود اليمن أن خيبة الامل ما كانت تنقصهم، كثيرون منهم عادوا بعد زمن قصير هربا من المعاملة غير الانسانية والعنصرية التي عوملوا بها من قبل المؤسسات الصهيونية، وقد وصفهم (يفنيأل) نفسه بعد أن جلس مع بعضهم قائلا: "لقد جاءوا الى فلسطين ولكنهم لم يستطيعوا العيش فيها بكرامة، فهم لم يجدوا عملا وكل آمالهم وأحلامهم تبعثرت".

كل ما جناه يهود اليمن هو تبديد أموالهم التي جمعوها، والغضب على البلاد وسكانها، وايقنوا "إذا كانت اليمن مهجرا، فإن اسرائيل مهجر سيئ داخل مهجر".

وحين قررت السلطات الصهيونية تخصيص عشرة دونمات زراعية لكل عائلة يمنية، مقابل 52 دونما للعائلة (الأشكنازية)، علق الباحث اليهودي (يهودا نيني) "أن المؤسسات الصهيونية تهدف الى ابقاء اليهود اليمنيين عمالا مأجورين، وأنها لاتنظر الى اليهود اليمنيين كـ(طلائعيين) وإنما تنظر اليهم كعمال مأجورين ليس أكثر"، لكن وسائل الترغيب والترهيبب للدولة اليهودية الوليدة استطاعت ان تخلي قاع اليهود من سكانه طوعا أو كرها.



قصر حبشوش



ويذكر الاهالي من كبار السن ان الإمام ألزم اليهود قبل رحيلهم بتعليم غيرهم من المسلمين الحرف اليدوية التي كانوا يحتكرونها، والتي كانت سببا لثرائهم، يقول (مبارك بن مبارك) "تحول حيهم هذا بسرعة الى سوق كبير.." ولم يجد قرار الإمام بفصلهم عن الناس لانهم كانوا يجيدون الحرف التي لم يتعلمها بقية اليمنيين بسبب اعراف قبلية، وقال (مبارك): كان المزارعون المسلمون وغيرهم يأتون الى قاع اليهود ليبيعوا بضاعتهم، ويشتروا ما يحتاجونه من اليهود.

وبعد قيام الثورة اليمنية في 1962 صادرت الحكومة قصر (حبشوش) كما صادرت الكثير من ممتلكات الأئمة، لتصبح ملكا للدولة، ووزعت منها ما وزعت على الثوار، وكان قصر (حبشوش) من نصيب (النقيب الزرقة) .

لكن الامر لم يدم كثيرا، فبعد 15 عاما ظهرت (خديجة الكبسي) ابنة الحاكم السابق، ووريثته الوحيدة، تطالب بحقها، وبعد 25 عاما في اروقة المحاكم اعيد البيت.. أو ما تبقى منه لصاحبته.

موقع القصر المميز يساوي اليوم أكثر من 100 مليون ريال، وهو المبلغ المعروض عليها الأن، لولا ظهور وريث جديد سبب لها المشاكل واراد مقاسمتها.



حكايات البديحي



في أزقة الحي القديم.. هناك الكثير من الحكايات اليهودية، ومما يروى عن أبنية الحي.

(مبارك) الذي يملك منزلا كان ليهودي قال إن الكلام عن منازل اليهود المنخفضة بسبب المسلمين غير صحيح.. ويمكنكم رؤية ذلك" في نهاية زقاق طويل تتراص المحال التجارية بفتحتها الضيقة على جانبيه وجدنا (نجمة داود)، كانت في (قمرية) التي تزين النوافذ، وعلى يمينها تنتصف في الفضاء صومعة جامع الحي الكبير.

ويتذكر بعض أهالي الحي من المسنين ان اليهود لم يكونوا مستضعفين، بل كانوا من أكثر الناس استقرارا ماليا، وهم أيضا بينهم " الطيب والطالح" ويتذكرون بإعجاب يهودي يدعى (البديحي) ويصفه المسنون بالمتصدق حينها.

وما ان ذكر الاسم حتى هب الجميع يروون الحكاية (فالبديحي) هذا كان يهوديا ثريا يعمد مساء الى منازل الفقراء يطرق ابوابهم ويذهب مخلفا وراءه الكثير من الهبات والصدقات، وقال بعض سكان الحي "إذا وضعت امرأة وعرف البديحي بأنها من أسرة معسرة زارهم حاملا ما يحتاجونه سواء كانوا مسلمين أو يهودا".

ويذكر المؤرخون أن اليهودية دخلت اليمن في قلب أحد الملوك الحميريين المسمى (أب كرب أسعد) أو (أسعد الكامل).

ويشير د. محمد عبدالكريم عكاشة في كتابه (يهود اليمن والهجرة الى فلسطين) "أن أحد ابناء الملك الحميري (ملك كرب يهأمن) اعتنق اليهودية على يد حبرين من أحبار اليهودية التقى بهما في يثرب".

الا ان ذلك لم يغير شيئا في الحياة الدينية اليمنية، وبقيت كل قبيلة تبجل إلها من الكواكب كالقمر والشمس والزهرة، وعرف السبئيون إله القمر باسم "المقة"، و "ذات غضران"، و "ذات تنوف"، أما الزهرة فعرفوها باسم "عثتر" أو "عشتر".