عام 1393 للهجرة، طرحت مسألة التقنين على طاولة هيئة كبار العلماء، التي رأت آنذاك ان المصلحة تقتضي صرف النظر عن التقنين، في قرار تحفظ عليه عدد لا يستهان به من الاعضاء.
مؤخرا، عادت قضية التقنين الى الظهور بعد اعلان معالي وزير العدل الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد آل الشيخ في عدد من المناسبات عن ان «هيئة علمية تتولى الآن صياغة فقه المعاملات والجنايات والأحوال الشخصية إضافة إلى ما يتطلبه القضاء في شكل مواد منذ شهر صفر الماضي، كما أن هذه الهيئة العلمية تدرس وضع حد أعلى للعقوبات التعزيرية لكل جريمة كي يستند إليها القاضي في حكمه».
وهو ما بعث الأمل من جديد في أن ترى هذه الصياغة النور قريباً وأن تكون بالشكل الذي يجعلها قادرة على تلبية احتياجات الوضع الراهن.
تناولت الهيئة موضوع التقنين تحت عنوان (تدوين الراجح من أقوال الفقهاء)، وقسمته إلى جزءين الأول حول التدوين. والثاني حول اللزوم، وصدر قرارها بالأغلبية بالمنع من التقنين.
منع.. ومتحفظون
ووفقا لسلطان بن عثمان البصيري، عضو الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية والباحث القانوني، فقد: «درست اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء في المملكة برئاسة سماحة الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ مسألة تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات وإلزام القضاة بالحكم به، وكان ذلك بناء على ما نقله سماحة الرئيس عن جلالة الملك فيصل رحمه الله». ويضيف: «كانت دراسة اللجنة مستفيضة في الفقه الشرعي والقانوني، ثم رفعت اللجنة دراستها لهيئة كبار العلماء بالمملكة، وبعد دراسة الهيئة للموضوع صدر القرار الثامن لها في الدورة الثالثة التي رأسها الشيخ محمد الأمين الشنقيطي- وبتوقيعه وتوقيع الشيخ عبدالله بن حميد والشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالرزاق عفيفي والشيخ عبدالعزيز بن صالح والشيخ سليمان العبيد والشيخ محمد الحركان والشيخ صالح بن غصون والشيخ عبدالمجيد بن حسن والشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ والشيخ صالح اللحيدان والشيخ عبدالله بن غديان، رحم الله ميتهم ومتع حيهم على طاعته - وقد جاء في القرار: (إن التدوين المراد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه)».
وفي النهاية قالت اللجنة: (مما تقدم يعلم أن العلاج في غير التدوين المذكور الذي لا تؤمن عاقبته، ونتيجته غير مضمونة، ويفضي إلى فصل الناس عن مصادر شريعتهم وثروة أسلافهم الفقهية).
في ذلك الحين، تحفظ على قرار الهيئة بمنع التقنين من أقوال الفقهاء، عدد من الاعضاء منهم الشيخ صالح بن غصون، والشيخ عبد المجيد بن حسن، والشيخ عبد الله خياط، والشيخ عبد الله بن منيع والشيخ محمد بن جبير، والشيخ راشد بن خنين. وممن يرى الجواز كذلك من أعضاء هيئة كبار العلماء: الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد، ومن المجيزين للتقنين كذلك الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والدكتور عبد الرحمن القاسم حيث كتب فيه بحثا واسعا خلص فيه إلى جواز التقنين وضرورته. ومن مشاهير المعاصرين الذين رأوا جواز التقنين: الشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا والشيخ أحمد شاكر والشيخ محمد أبو زهرة والشيخ مصطفى الزرقا والشيخ علي الطنطاوي والدكتور وهبة الزحيلي والدكتور يوسف القرضاوي والشيخ محمد بن الحسن الحجوي صاحب كتاب الفكر السامي.
فيما قال بالمنع طائفة من المعاصرين، ومنهم الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ بكر أبو زيد، والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام.
ونقل الشيخ بكر أبو زيد عن الشيخ الشنقيطي رحمه الله كلاما طويلا في مخاطر التقنين، وأما الشيخ بكر فله بحث منشور ضمن كتابه فقه النوازل وعنوان بحثه (التقنين والإلزام). كما دون الشيخ البسام رحمه الله رسالة بعنوان (تقنين الشريعة: أضراره ومفاسده).
الوحدة التشريعية
ووفقا للمحامي فواز عبد الرحمن ازهر فإن تقنين أحكام الفقه الإسلامي: «يعمل على توحيد الأحكام القضائية لكافة المحاكم وبذلك تجسد الوحدة التشريعية والسياسية والاجتماعية للدولة ويتحقق إعلام الأحكام قبل تطبيقها على المكلفين بها وذلك ما يتسق حتماً مع قوله تعالى في محكم التنـزيل (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)، كدلالة على لزوم الإعلام قبل نفاذ الأحكام مما هو مؤداه أن تكون أحكام الفقه الإسلامي سهلة الإطلاع والمأخذ وبالتالي تتحقق تنمية الثقافة الشرعية لفقه المعاملات».
ويعتبر الدكتور إدريس العلوي ان مدونات الفقهاء السابقين: «كانت مصنفات تتضمن قواعد أشبه بالقواعد القانونية الوضعية، منها المتون والمختصرات، ومنها كتاب القوانين الفقهية لابن جزي المالكي، ومجلة «الأحكام العدلية» وهي تقنين للفقه الحنفي، وكتاب «مرشد الحيران لمعرفة أحوال الإنسان» لمحمد قدري باشا على غرار مجلة الأحكام العدلية». ويضيف: «لا يوجد أي مانع يحول دون تقنين هذه الأحكام وجمعها، ولا أي صارف معتبر شرعاً أو عقلاً يصرفنا إنّ هذا التقنين يقاس على إجماع الصحابة على جمع القرآن في مصحف بعد ان كان مجموعاً في الصدور ومكتوباً في أماكن شتى. كما يقاس أيضاً على تدوين السّنة التي أمكن بتدوينها الوقوف على صحيحها وسقيمها، وتمييز قويها من ضعيفها. كما يقاس كذلك على تدوين الفقه بعد ذلك»، لافتا الى ان التقنين، ليس إلاّ صورة من صور تدوين الفقه: «فهو كما يكون في صورة مختصرات أو شرح أو نظم يمكن أنّ يتخذ شكل مواد متسلسلة في قواعد مرتبة حسب الأبواب والفصول، والعبرة بالمضمون لا بالشكل، أو كما تقضي القاعدة الفقهية: العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني».
عبدالله بن محمد عمر طه الباحث القانوني يرى في التقنين مزايا لا يمكن اغفالها: «منها ان التقنين هو خلاصة ما يمكن العمل به من الأدلة والأحكام بشكل مناسب، اضافة الى انه تحديد لأبعاد الحكم الشرعي وبيان لمسايرة الشريعة الإسلامية لمصالح العباد وصلاحيتها لكل زمان ومكان ويستطيع الفقهاء المحدثون تحديد أحكامه بالنسبة للصور المستحدثة وهكذا نجد التقنين استكمالاً للبناء الفقهي الإسلامي». ويتابع: «بهذا التقنين يتيسر على الفقهاء شرحه ومقارنة أحكامه بغيرها من المذاهب المختلفة فضلاً عن اشتغال آلاف القضاة والمحامين والطلبة بدراسته وفي هذا تيسير لدراسة وتدريس الشريعة الإسلامية، كما انه يسهل على المحاكم تطبيق الشريعة الإسلامية ويقطع دابر احتمال التضارب في الأحكام، ويعاون القاضي والفقيه وكل مشتغل بالقانون على الاهتداء إلى القاعدة القانونية في يسر وسهولة، الى جانب انه يسهل على الأفراد التعرف على أحكام الشريعة الإسلامية فلا يتيهون بين الآراء الكثيرة الموجودة في كتب الفقه الإسلامي والتي لا يعرف راجحها من مرجوحها إلا المتخصص فيها، دع عنك انه سيؤدي إلى حسن سير الجماعة نتيجة إلمام الأفراد بقواعد القانون وتطبيقه على علاقتهم الاجتماعية المختلفة».
وبحسب استاذ القانون بجامعة الملك عبد العزيز، الدكتور زياد القرشي، فإن من شأن التقنين: «أن يحقق مصالح العباد ويسهل عليهم الوقوف على أحكام الشريعة المطبقة في المحاكم دون الحاجة الى الرجوع الى الآراء الفقهية المتعددة الموجودة في كتب الفقه الإسلامي والتي لا يستوعبها إلا الفقهاء المتخصصون»، معتبرا ان تقنين قواعد الفقه الإسلامي: «سيسهل على القضاة مهمة البحث في الآراء المتشابهة الصعبة المنال ويوفر الكثير من الوقت الذي يقضيه القضاة للتوصل للرأي الراجح». ويتابع: «ان من شأن التقنين أن ييسر على الفقهاء شرحه ومقارنته بأنظمة الدول الأخرى. وتقنين أحكام الفقه الاسلامي سوف ييسر دراسة وتدريس الشريعة الاسلامية، ويعزز الانضباط في صدور الأحكام».
التقنين ام الاجتهاد؟
لكن ماذا عن ما يثار حول التقنين من ايقافه لباب الاجتهاد؟
يرى القرشي أن التقنين: «لن يوقف الاجتهاد، بل ان التقنين عمل بشري وقابل للتغيير، متى ما تغيرت الظروف واقتضى الأمر فمن الممكن تعديل النص المقنن بما يتناسب مع المصلحة، وما لا يتعارض مع مبادئ الشريعة الاسلامية الغراء».
ويجزم القرشي ان المملكة: «تستطيع بما لديها من امكانيات مادية وبشرية، أن تقدم خدمة ليس لنفسها فحسب بل لمختلف الأقطار الاسلامية. كما أن تقنين قواعد الفقه الاسلامي سوف يزيد ثقة من يتعامل معنا في أنظمتنا ويعزز ثقتنا في قضائنا ويحول دون فتح المجال أمام المغرضين لتوجيه أسهم النقد للقضاء الشرعي والتشكيك في نزاهته وسموه»، ذاهبا الى ان صياغة الفقه بهذه الطريقة: «سوف يعطينا الفرصة لنتمكن من تطبيق الشريعة الاسلامية بطريقة تضمن تحقيق العدالة وتضمن التحقق من صدور أحكام قضائية مستندة الى الرأي الراجح المؤيد بالدليل الشرعي».
ويبين القرشي انه: «بخلاف المحاكم الشرعية التي لا تطبق الا أحكام الشريعة الاسلامية، فان الهيئات القضائية السعودية الأخرى تطبق أنظمة لا تخرج على الأحكام القطعية في الشريعة الاسلامية»، مستشهدا بنظام توزيع الأراضي البور الصادر عام 1388هـ ونظام المرافعات الشرعية الصادر عام 1421هـ بكل أحكامه المتعلقة برفع الدعوى وقيدها واجراءات الجلسات ونظامها ووقف الخصومة وانقطاعها وتركها واجراءات الاثبات وطرق الاعتراض على الأحكام وتنحي القضاة وردهم عن الحكم: «فهما يعتبران أنموذجا لتقنين قواعد الفقه الاسلامي». ويستدرك بالقول: «لكننا نجد أن هناك مسائل أخرى في الفقه الاسلامي لم يتم تقنينها بعد، ونحن حينما نتحدث عن التقنين لا نتحدث عن تقنين العبادات بل ما نحتاج اليه هو تقنين الأمور المتعلقة بالمعاملات الشرعية وفقه الأحوال الشخصية».
القرشي يعتقد ان التقنين: «يجب أن يشمل البيوع بأنواعها وعقود الاجارة والقرض والوقف والهبة والحجر والاكراه والشفعة والصلح والاقرار وعقود الشركات الاسلامية المدنية والبينات والتحليف والحجج الخطية والحلف والنكول. ففي كل هذه المسائل هناك آراء متعددة للفقهاء بشأنها والناس لا يعرفون ماذا سيحكم به القاضي ولا المحامون قادرون على التنبؤ بحكم القاضي».
ويردف: «إن المتتبع للتطور التشريعي في المملكة يجد أن جميع الأنظمة التي صدرت في المملكة منذ عهد الملك عبد العزيز في مملكة الحجاز سنة 1334هـ، وبعد توحيد المملكة في سنة 1351هـ، الى الآن يجد أن تلك الأنظمة لم تخرج على الأحكام القطعية في الشريعة الإسلامية.
وتعد المملكة هي الدولة الأَولى بالقيام بعملية تقنين أحكام الفقه الاسلامي وذلك لأسباب عدة يطول شرحها. المحاكم الشرعية والهيئات القضائية السعودية على اختلاف درجاتها لا تطبق إلا الشريعة الإسلامية وبالتالي فان صدور قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية التي هي محل التطبيق في الوقت الراهن لن يثير أية صعوبات عملية تذكر. إن من شأن تقنين الشريعة بواسطة السلطات المعترف بشرعيتها أن يضع حدا لكثير من الأمور. لكن تقنين الشريعة يجب أن يمر عبر فقهاء أجلاء متخصصين في الشريعة الإسلامية ويساعدهم في ذلك علماء في مختلف فروع المعرفة من متخصصين في الأنظمة الوضعية وعلماء لغة واقتصاديين».
صياغة مثلى
ويضيف: « إن صياغة الفقه في صورة مواد قانونية أخذا بالقول الراجح المعتمد على الدليل سوف يجعل بلادنا مثالا يحتذى لا للبلاد الإسلامية فقط، بل للعالم أجمع».
ويتفق الدكتور الجرعي، الذي يرى المبادرة الى تقنين الاحكام الشرعية للقضاء، مع ما ذهب اليه الدكتور القرشي: «لا سيما وان أقدر البلاد على ذلك هي المملكة العربية السعودية -كما قاله الدكتور وهبة الزحيلي- وذلك لأنها تطبق الشريعة الإسلامية، وهي أساس الحكم فيها. وأيضا لانتشار العلم الشرعي بين أبنائها. وكذلك وجود الجامعات التي تحوي كليات الشريعة المتعددة بما فيها من علماء وأساتذة وباحثين. وبذلك سيكون عمل التقنين الذي تتولاه المملكة نموذجا يحتذى به في العالم الإسلامي».
ويقترح الجرعي أن: «تشكل لجنة عليا في الدولة، مرتبطة بأعلى المسئولين، لصياغة مواد التقنين، وهذا يتطلب عددا وافرا من العلماء، وأساتذة الجامعات من الأقسام الشرعية والقانونية، وكذلك من الباحثين، كما ينبغي الاستفادة من التجارب السابقة للتقنين حتى تلك التجارب التي لم يكتب لها أن ترى النور إلى التطبيق، فإن المعرفة تراكمية، مع ملاحظة تجنب السلبيات التي حفلت بها تلك التجارب.
ويضيف: «عند كتابة مادة التقنين تبحث المسألة من قبل القائمين على كتابة المواد وتستعرض الأدلة وأقوال العلماء فيها، ويختار القول الراجح بناء على قواعد الترجيح المعروفة في علم أصول الفقه دون الالتزام بمذهب معين، وعند الاختلاف يؤخذ بالأغلبية كما هو الحال في قرارات هيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية، ثم تصاغ المادة بناء على القول الراجح، ويشارك القانونيون، في هذه الصياغة، خوفا من الالتباس أو سوء التفسير، وتستخدم الألفاظ الشرعية قدر الإمكان.
كما يطالب الجرعي بأن: «توضع لمواد التقنين مذكرات توضيحية، تفصل الحالات وتذكر الاحترازات، وتستدرك ما لم تتضمنه هذه المواد من التفصيل. على نفس الطريقة التي اتبعت في كتابة المواد، فيما يجب أن تخضع مواد التقنين للمراجعة بعد مرور وقت كافٍ، يؤخذ فيه رأي القضاة وأهل العلم الذين يقدمون مسوغات كافية لإعادة النظر في المواد التي قيدت، وكذلك المحامين والمهتمين بشأن القانون عموما».
رؤية واضحة
ويلفت استاذ القانون القرشي الى مسألة في غاية الاهمية، إذ يرى ان إحجام الكثير من المستثمرين عن اعتماد النظام السعودي في تعاقداتهم مع المستثمرين والتجار السعوديين: «يعود الى عدم وضوح الرؤية بالنسبة لهم فيما يتعلق بماهية النظام المطبق ولا يعرفون بماذا سيحكم القاضي، هل سيحكم بهذا المذهب أم بذاك القول. لذلك يلجأ الكثير منهم الى اعتماد التحكيم كوسيلة لحل المنازعات في العقود الدولية التي يكون أحد أطرافها طرفا سعوديا ويتم النص على أن القانون الواجب التطبيق هو قانون دولة محايدة. ان صياغة الفقه على شكل مواد قانونية سيجعل كل متعامل معنا يعرف ماله وما عليه بكل وضوح ويسر، الأمر الذي سوف يجعل التاجر والمستثمر السعودي قادرا على أن يطلب اعتماد النظام السعودي المستمد من قواعد الشريعة الغراء كنظام يحكم تعاقداته مع المستثمرين والتجار الأجانب». فيما يعتقد ان تباين أحكام المحاكم في مسائل متشابهة: «هو نتيجة طبيعية لخلاف العلماء حول هذه المسائل مثل مسائل التعزيرات واستحقاق الحضانة وغيرها. بيد ان تقنين قواعد الفقة الاسلامي سوف يجعلنا قادرين على أن نعرف مالنا من حقوق وما علينا من التزامات بكل وضوح وسيعزز من الموقف التفاوضي لرجال الأعمال».
مؤخرا، عادت قضية التقنين الى الظهور بعد اعلان معالي وزير العدل الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد آل الشيخ في عدد من المناسبات عن ان «هيئة علمية تتولى الآن صياغة فقه المعاملات والجنايات والأحوال الشخصية إضافة إلى ما يتطلبه القضاء في شكل مواد منذ شهر صفر الماضي، كما أن هذه الهيئة العلمية تدرس وضع حد أعلى للعقوبات التعزيرية لكل جريمة كي يستند إليها القاضي في حكمه».
وهو ما بعث الأمل من جديد في أن ترى هذه الصياغة النور قريباً وأن تكون بالشكل الذي يجعلها قادرة على تلبية احتياجات الوضع الراهن.
تناولت الهيئة موضوع التقنين تحت عنوان (تدوين الراجح من أقوال الفقهاء)، وقسمته إلى جزءين الأول حول التدوين. والثاني حول اللزوم، وصدر قرارها بالأغلبية بالمنع من التقنين.
منع.. ومتحفظون
ووفقا لسلطان بن عثمان البصيري، عضو الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية والباحث القانوني، فقد: «درست اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء في المملكة برئاسة سماحة الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ مسألة تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات وإلزام القضاة بالحكم به، وكان ذلك بناء على ما نقله سماحة الرئيس عن جلالة الملك فيصل رحمه الله». ويضيف: «كانت دراسة اللجنة مستفيضة في الفقه الشرعي والقانوني، ثم رفعت اللجنة دراستها لهيئة كبار العلماء بالمملكة، وبعد دراسة الهيئة للموضوع صدر القرار الثامن لها في الدورة الثالثة التي رأسها الشيخ محمد الأمين الشنقيطي- وبتوقيعه وتوقيع الشيخ عبدالله بن حميد والشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالرزاق عفيفي والشيخ عبدالعزيز بن صالح والشيخ سليمان العبيد والشيخ محمد الحركان والشيخ صالح بن غصون والشيخ عبدالمجيد بن حسن والشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ والشيخ صالح اللحيدان والشيخ عبدالله بن غديان، رحم الله ميتهم ومتع حيهم على طاعته - وقد جاء في القرار: (إن التدوين المراد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه)».
وفي النهاية قالت اللجنة: (مما تقدم يعلم أن العلاج في غير التدوين المذكور الذي لا تؤمن عاقبته، ونتيجته غير مضمونة، ويفضي إلى فصل الناس عن مصادر شريعتهم وثروة أسلافهم الفقهية).
في ذلك الحين، تحفظ على قرار الهيئة بمنع التقنين من أقوال الفقهاء، عدد من الاعضاء منهم الشيخ صالح بن غصون، والشيخ عبد المجيد بن حسن، والشيخ عبد الله خياط، والشيخ عبد الله بن منيع والشيخ محمد بن جبير، والشيخ راشد بن خنين. وممن يرى الجواز كذلك من أعضاء هيئة كبار العلماء: الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد، ومن المجيزين للتقنين كذلك الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والدكتور عبد الرحمن القاسم حيث كتب فيه بحثا واسعا خلص فيه إلى جواز التقنين وضرورته. ومن مشاهير المعاصرين الذين رأوا جواز التقنين: الشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا والشيخ أحمد شاكر والشيخ محمد أبو زهرة والشيخ مصطفى الزرقا والشيخ علي الطنطاوي والدكتور وهبة الزحيلي والدكتور يوسف القرضاوي والشيخ محمد بن الحسن الحجوي صاحب كتاب الفكر السامي.
فيما قال بالمنع طائفة من المعاصرين، ومنهم الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ بكر أبو زيد، والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام.
ونقل الشيخ بكر أبو زيد عن الشيخ الشنقيطي رحمه الله كلاما طويلا في مخاطر التقنين، وأما الشيخ بكر فله بحث منشور ضمن كتابه فقه النوازل وعنوان بحثه (التقنين والإلزام). كما دون الشيخ البسام رحمه الله رسالة بعنوان (تقنين الشريعة: أضراره ومفاسده).
الوحدة التشريعية
ووفقا للمحامي فواز عبد الرحمن ازهر فإن تقنين أحكام الفقه الإسلامي: «يعمل على توحيد الأحكام القضائية لكافة المحاكم وبذلك تجسد الوحدة التشريعية والسياسية والاجتماعية للدولة ويتحقق إعلام الأحكام قبل تطبيقها على المكلفين بها وذلك ما يتسق حتماً مع قوله تعالى في محكم التنـزيل (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)، كدلالة على لزوم الإعلام قبل نفاذ الأحكام مما هو مؤداه أن تكون أحكام الفقه الإسلامي سهلة الإطلاع والمأخذ وبالتالي تتحقق تنمية الثقافة الشرعية لفقه المعاملات».
ويعتبر الدكتور إدريس العلوي ان مدونات الفقهاء السابقين: «كانت مصنفات تتضمن قواعد أشبه بالقواعد القانونية الوضعية، منها المتون والمختصرات، ومنها كتاب القوانين الفقهية لابن جزي المالكي، ومجلة «الأحكام العدلية» وهي تقنين للفقه الحنفي، وكتاب «مرشد الحيران لمعرفة أحوال الإنسان» لمحمد قدري باشا على غرار مجلة الأحكام العدلية». ويضيف: «لا يوجد أي مانع يحول دون تقنين هذه الأحكام وجمعها، ولا أي صارف معتبر شرعاً أو عقلاً يصرفنا إنّ هذا التقنين يقاس على إجماع الصحابة على جمع القرآن في مصحف بعد ان كان مجموعاً في الصدور ومكتوباً في أماكن شتى. كما يقاس أيضاً على تدوين السّنة التي أمكن بتدوينها الوقوف على صحيحها وسقيمها، وتمييز قويها من ضعيفها. كما يقاس كذلك على تدوين الفقه بعد ذلك»، لافتا الى ان التقنين، ليس إلاّ صورة من صور تدوين الفقه: «فهو كما يكون في صورة مختصرات أو شرح أو نظم يمكن أنّ يتخذ شكل مواد متسلسلة في قواعد مرتبة حسب الأبواب والفصول، والعبرة بالمضمون لا بالشكل، أو كما تقضي القاعدة الفقهية: العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني».
عبدالله بن محمد عمر طه الباحث القانوني يرى في التقنين مزايا لا يمكن اغفالها: «منها ان التقنين هو خلاصة ما يمكن العمل به من الأدلة والأحكام بشكل مناسب، اضافة الى انه تحديد لأبعاد الحكم الشرعي وبيان لمسايرة الشريعة الإسلامية لمصالح العباد وصلاحيتها لكل زمان ومكان ويستطيع الفقهاء المحدثون تحديد أحكامه بالنسبة للصور المستحدثة وهكذا نجد التقنين استكمالاً للبناء الفقهي الإسلامي». ويتابع: «بهذا التقنين يتيسر على الفقهاء شرحه ومقارنة أحكامه بغيرها من المذاهب المختلفة فضلاً عن اشتغال آلاف القضاة والمحامين والطلبة بدراسته وفي هذا تيسير لدراسة وتدريس الشريعة الإسلامية، كما انه يسهل على المحاكم تطبيق الشريعة الإسلامية ويقطع دابر احتمال التضارب في الأحكام، ويعاون القاضي والفقيه وكل مشتغل بالقانون على الاهتداء إلى القاعدة القانونية في يسر وسهولة، الى جانب انه يسهل على الأفراد التعرف على أحكام الشريعة الإسلامية فلا يتيهون بين الآراء الكثيرة الموجودة في كتب الفقه الإسلامي والتي لا يعرف راجحها من مرجوحها إلا المتخصص فيها، دع عنك انه سيؤدي إلى حسن سير الجماعة نتيجة إلمام الأفراد بقواعد القانون وتطبيقه على علاقتهم الاجتماعية المختلفة».
وبحسب استاذ القانون بجامعة الملك عبد العزيز، الدكتور زياد القرشي، فإن من شأن التقنين: «أن يحقق مصالح العباد ويسهل عليهم الوقوف على أحكام الشريعة المطبقة في المحاكم دون الحاجة الى الرجوع الى الآراء الفقهية المتعددة الموجودة في كتب الفقه الإسلامي والتي لا يستوعبها إلا الفقهاء المتخصصون»، معتبرا ان تقنين قواعد الفقه الإسلامي: «سيسهل على القضاة مهمة البحث في الآراء المتشابهة الصعبة المنال ويوفر الكثير من الوقت الذي يقضيه القضاة للتوصل للرأي الراجح». ويتابع: «ان من شأن التقنين أن ييسر على الفقهاء شرحه ومقارنته بأنظمة الدول الأخرى. وتقنين أحكام الفقه الاسلامي سوف ييسر دراسة وتدريس الشريعة الاسلامية، ويعزز الانضباط في صدور الأحكام».
التقنين ام الاجتهاد؟
لكن ماذا عن ما يثار حول التقنين من ايقافه لباب الاجتهاد؟
يرى القرشي أن التقنين: «لن يوقف الاجتهاد، بل ان التقنين عمل بشري وقابل للتغيير، متى ما تغيرت الظروف واقتضى الأمر فمن الممكن تعديل النص المقنن بما يتناسب مع المصلحة، وما لا يتعارض مع مبادئ الشريعة الاسلامية الغراء».
ويجزم القرشي ان المملكة: «تستطيع بما لديها من امكانيات مادية وبشرية، أن تقدم خدمة ليس لنفسها فحسب بل لمختلف الأقطار الاسلامية. كما أن تقنين قواعد الفقه الاسلامي سوف يزيد ثقة من يتعامل معنا في أنظمتنا ويعزز ثقتنا في قضائنا ويحول دون فتح المجال أمام المغرضين لتوجيه أسهم النقد للقضاء الشرعي والتشكيك في نزاهته وسموه»، ذاهبا الى ان صياغة الفقه بهذه الطريقة: «سوف يعطينا الفرصة لنتمكن من تطبيق الشريعة الاسلامية بطريقة تضمن تحقيق العدالة وتضمن التحقق من صدور أحكام قضائية مستندة الى الرأي الراجح المؤيد بالدليل الشرعي».
ويبين القرشي انه: «بخلاف المحاكم الشرعية التي لا تطبق الا أحكام الشريعة الاسلامية، فان الهيئات القضائية السعودية الأخرى تطبق أنظمة لا تخرج على الأحكام القطعية في الشريعة الاسلامية»، مستشهدا بنظام توزيع الأراضي البور الصادر عام 1388هـ ونظام المرافعات الشرعية الصادر عام 1421هـ بكل أحكامه المتعلقة برفع الدعوى وقيدها واجراءات الجلسات ونظامها ووقف الخصومة وانقطاعها وتركها واجراءات الاثبات وطرق الاعتراض على الأحكام وتنحي القضاة وردهم عن الحكم: «فهما يعتبران أنموذجا لتقنين قواعد الفقه الاسلامي». ويستدرك بالقول: «لكننا نجد أن هناك مسائل أخرى في الفقه الاسلامي لم يتم تقنينها بعد، ونحن حينما نتحدث عن التقنين لا نتحدث عن تقنين العبادات بل ما نحتاج اليه هو تقنين الأمور المتعلقة بالمعاملات الشرعية وفقه الأحوال الشخصية».
القرشي يعتقد ان التقنين: «يجب أن يشمل البيوع بأنواعها وعقود الاجارة والقرض والوقف والهبة والحجر والاكراه والشفعة والصلح والاقرار وعقود الشركات الاسلامية المدنية والبينات والتحليف والحجج الخطية والحلف والنكول. ففي كل هذه المسائل هناك آراء متعددة للفقهاء بشأنها والناس لا يعرفون ماذا سيحكم به القاضي ولا المحامون قادرون على التنبؤ بحكم القاضي».
ويردف: «إن المتتبع للتطور التشريعي في المملكة يجد أن جميع الأنظمة التي صدرت في المملكة منذ عهد الملك عبد العزيز في مملكة الحجاز سنة 1334هـ، وبعد توحيد المملكة في سنة 1351هـ، الى الآن يجد أن تلك الأنظمة لم تخرج على الأحكام القطعية في الشريعة الإسلامية.
وتعد المملكة هي الدولة الأَولى بالقيام بعملية تقنين أحكام الفقه الاسلامي وذلك لأسباب عدة يطول شرحها. المحاكم الشرعية والهيئات القضائية السعودية على اختلاف درجاتها لا تطبق إلا الشريعة الإسلامية وبالتالي فان صدور قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية التي هي محل التطبيق في الوقت الراهن لن يثير أية صعوبات عملية تذكر. إن من شأن تقنين الشريعة بواسطة السلطات المعترف بشرعيتها أن يضع حدا لكثير من الأمور. لكن تقنين الشريعة يجب أن يمر عبر فقهاء أجلاء متخصصين في الشريعة الإسلامية ويساعدهم في ذلك علماء في مختلف فروع المعرفة من متخصصين في الأنظمة الوضعية وعلماء لغة واقتصاديين».
صياغة مثلى
ويضيف: « إن صياغة الفقه في صورة مواد قانونية أخذا بالقول الراجح المعتمد على الدليل سوف يجعل بلادنا مثالا يحتذى لا للبلاد الإسلامية فقط، بل للعالم أجمع».
ويتفق الدكتور الجرعي، الذي يرى المبادرة الى تقنين الاحكام الشرعية للقضاء، مع ما ذهب اليه الدكتور القرشي: «لا سيما وان أقدر البلاد على ذلك هي المملكة العربية السعودية -كما قاله الدكتور وهبة الزحيلي- وذلك لأنها تطبق الشريعة الإسلامية، وهي أساس الحكم فيها. وأيضا لانتشار العلم الشرعي بين أبنائها. وكذلك وجود الجامعات التي تحوي كليات الشريعة المتعددة بما فيها من علماء وأساتذة وباحثين. وبذلك سيكون عمل التقنين الذي تتولاه المملكة نموذجا يحتذى به في العالم الإسلامي».
ويقترح الجرعي أن: «تشكل لجنة عليا في الدولة، مرتبطة بأعلى المسئولين، لصياغة مواد التقنين، وهذا يتطلب عددا وافرا من العلماء، وأساتذة الجامعات من الأقسام الشرعية والقانونية، وكذلك من الباحثين، كما ينبغي الاستفادة من التجارب السابقة للتقنين حتى تلك التجارب التي لم يكتب لها أن ترى النور إلى التطبيق، فإن المعرفة تراكمية، مع ملاحظة تجنب السلبيات التي حفلت بها تلك التجارب.
ويضيف: «عند كتابة مادة التقنين تبحث المسألة من قبل القائمين على كتابة المواد وتستعرض الأدلة وأقوال العلماء فيها، ويختار القول الراجح بناء على قواعد الترجيح المعروفة في علم أصول الفقه دون الالتزام بمذهب معين، وعند الاختلاف يؤخذ بالأغلبية كما هو الحال في قرارات هيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية، ثم تصاغ المادة بناء على القول الراجح، ويشارك القانونيون، في هذه الصياغة، خوفا من الالتباس أو سوء التفسير، وتستخدم الألفاظ الشرعية قدر الإمكان.
كما يطالب الجرعي بأن: «توضع لمواد التقنين مذكرات توضيحية، تفصل الحالات وتذكر الاحترازات، وتستدرك ما لم تتضمنه هذه المواد من التفصيل. على نفس الطريقة التي اتبعت في كتابة المواد، فيما يجب أن تخضع مواد التقنين للمراجعة بعد مرور وقت كافٍ، يؤخذ فيه رأي القضاة وأهل العلم الذين يقدمون مسوغات كافية لإعادة النظر في المواد التي قيدت، وكذلك المحامين والمهتمين بشأن القانون عموما».
رؤية واضحة
ويلفت استاذ القانون القرشي الى مسألة في غاية الاهمية، إذ يرى ان إحجام الكثير من المستثمرين عن اعتماد النظام السعودي في تعاقداتهم مع المستثمرين والتجار السعوديين: «يعود الى عدم وضوح الرؤية بالنسبة لهم فيما يتعلق بماهية النظام المطبق ولا يعرفون بماذا سيحكم القاضي، هل سيحكم بهذا المذهب أم بذاك القول. لذلك يلجأ الكثير منهم الى اعتماد التحكيم كوسيلة لحل المنازعات في العقود الدولية التي يكون أحد أطرافها طرفا سعوديا ويتم النص على أن القانون الواجب التطبيق هو قانون دولة محايدة. ان صياغة الفقه على شكل مواد قانونية سيجعل كل متعامل معنا يعرف ماله وما عليه بكل وضوح ويسر، الأمر الذي سوف يجعل التاجر والمستثمر السعودي قادرا على أن يطلب اعتماد النظام السعودي المستمد من قواعد الشريعة الغراء كنظام يحكم تعاقداته مع المستثمرين والتجار الأجانب». فيما يعتقد ان تباين أحكام المحاكم في مسائل متشابهة: «هو نتيجة طبيعية لخلاف العلماء حول هذه المسائل مثل مسائل التعزيرات واستحقاق الحضانة وغيرها. بيد ان تقنين قواعد الفقة الاسلامي سوف يجعلنا قادرين على أن نعرف مالنا من حقوق وما علينا من التزامات بكل وضوح وسيعزز من الموقف التفاوضي لرجال الأعمال».