يقف الدكتور عبدالعزيز معتوق حسنين على مشارف الذاكرة، مستعيدا ملامح وسيرة والده السيد معتوق بن أحمد حسنين، لكنه لا يكتفي بالحنين إلى صفو الأيام الماضية، بل يؤرخ لزمن طويل ومتخم بالأحداث والأوليات، مازجا في كل هذا بين الخاص والعام بلغة تقطر وفاء للزمان الأول ورموزه وذكرياته. في المآزق ينكشف لؤم الطباع، وفي الفتن تنكشف أصالة الرأي، وفي الحكم ينكشف زيف الأخلاق، وفي المال تنكشف دعوى الورع، وفي الجاه ينكشف كرم الأصل، وفي الشدة ينكشف صدق الأخوة، وفي الموت ينكشف الابن الصالح. في صباح يوم الاثنين الثامن من شهر محرم 1420هـ ألحف كفنه معتوق بن أحمد حسنين وترك عشر سنوات من الفراغ في هذه الدنيا من الرجال الكبار الذين أبت أريحيتهم وعلو هاماتهم بما قدموه لمليكهم ووطنهم وأبنائه، من علم وتعليم وخدمات جليلة في مشوار تأسيس هذا البلد الآمن تحت راية الإسلام وفي ظل ملوكه ابتداء بالمؤسس (طيب الله ثراه)، وصولا لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله وولي عهده الأمين. فقد كان معتوق من أوائل الرواد لهذا البلد الذي دعا له أبو الأنبياء ليكون بلدا آمنا. فقد مضت عشر سنوات منذ أن قام معي الرجال الأفاضل في تدشين كتاب بعنوان «ذكريات الرجال». الكتاب الذي سجلت فيه مشاعر الصدق نحو أبي الذي وصفه من تحدث عنه، بالرجل الجليل والسيد الكريم وأنه على خلق عظيم. وفي الحفل اكتشفت معنى كرم الأخلاق والمعدن الأصيل وصدق الأخوة في تلك الليلة، ففي الشدة ينكشف صدق الأخوة. كان معتوق (يرحمه الله) يؤمن بأن أغنى الغنى العقل (أي الذكاء)، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب، وأكرم الحسب حسن الخلق. فقد وصف معتوق بأنه أوفى بوصية علي بن أبي طالب لأهله وأصدقائه ومليكه ووطنه.
وأذكر أنني _ إن شاء الله _ قد رباني أبو عبد العزيز مطيعا لله، ولنصيحة الحكيم لابنه في قوله: اتق الله فإن لا عمل لمن لا نية له، ولا مال لمن لا رفق له، ولا حرمة لمن لا دين له.

عام 1351هـ
أقول إن معتوق (يرحمه الله) كان من أوائل الرواد، لأن القليل في مجالسنا يعرف أن عام 1351هـ هو عام يمثل عاما ثريا عظيما لهذه البلاد ولوالدي كذلك شخصيا. ففي عام 1351هـ هذا البلد الآمن توحد وسمي «المملكة العربية السعودية» بناء على أمر المؤسس جلالة الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، الصادر في يوم الأحد بتاريخ السابع عشر من شهر جمادى الأولى 1351هـ، وفي هذا العام اختار جلالة الملك عبد العزيز (طيب الله ثراه) بأن يوم الخميس الموافق للواحد والعشرين من شهر جمادى الأولى عام 1351هـ، هو يوم إعلان توحيد المملكة العربية السعودية، وقد نشر هذا الأمر والإعلان في جريدة (صوت الحجاز) في عددها رقم 25 للسنة الأولى، من مكة المكرمة وذلك يوم الاثنين 25 جمادى الأولى عام 1351هـ (الموافق 26 سبتمبر عام 1932م). وفي هذا العام أمر الملك عبد العزيز بأمره السامي بتأسيس أول وزارة في بلدنا الغالي، صدر المرسوم الملكي برقم 381 بتاريخ 11/4/1351هـ لتصبح وزارة المالية أول وزارة، والشيخ عبد الله السليمان الحمدان أول وزير لوزارة المالية، والشيخ حمد السليمان الحمدان أول وكيل لوزارة المالية. من هؤلاء الرواد كان معتوق من أوائل من تخرج من مدرسة الفلاح في عام 1351هـ وعين في أول وظيفة له في الدولة بالمسمى الجديد (المملكة العربية السعودية) بوظيفة كاتب مدير مركز البرق والبريد والهاتف في إدارة البرق والبريد بـتاريخ 1 من شهر ذي الحجة لعام 1351هـ، وبمرتب قدره أربعمائة قرش سعودي في الشهر. والجدير بالذكر أن في ذلك الزمن كان عندنا ثلاثة أنواع من القروش في التداول: القرش الأميري الذي يساوي منه أحد عشر قرشا للريال، وكان هناك قرش الذهب حيث كان الجنيه الذهب يساوي مائة وعشرة قروش ذهب، والقرش الدارج الذي يساوي نصف قرش أميري. كانت الدولة تصرف الرواتب بالقرش الأميري، والتجار يتعاملون بالقرش الذهب، وعامة المواطنين يتعاملون بالقرش الدارج. كان الريال يساوي اثنين وعشرين (قرش دارج)، وبعد تاريخ إصدار قرار بالمسمى الجديد وإعلان توحيد المملكة وتأسيس أول وزارة وتعيين أول وزير وأول وكيل وزارة بسبعة أشهر فقط، كان الوالد أبو عبد العزيز من بدأ سلم موظفي المملكة العربية السعودية.
هذا وقد شرفني سيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، بخطاب موجه لي بتاريخ10/06/1428هـ يؤيد فيه نصا قال فيه «وقد كان والدكم (رحمه الله) من رجال الدولة، ووفاء منه فقد كان من الرجال الذين أسهموا في مرحلة التأسيس والبناء لهذا البلد الآمن». بعد أول وظيفة ترقى والدي وأصبح في وظيفة بمسمى مأمور تنفيذ المكاتيب وزاد مرتبه ليصبح 522 قرشا سعوديا (أي أميريا) في الشهر، في إدارة البرق والبريد نفسها حتى تاريخ 16/1/1354هـ عندما عين مترجما ممثلا للحكومة السعودية لدى شركة الزيت العربية الأمريكية (قبل أن تصبح شركة أرامكو) بمرتب شهري قدره 880 قرشا سعوديا، بعد ذلك صدر قرار الشيخ عبد الله سرور مدير الشركة العربية للسيارات، بتعيين الوالد مترجما للشركة بطريق الإعارة من وزارة المالية وزاد مرتب الوالد إلى أن أصبح 1100 قرش سعودي وعند انتهاء مدة الإعارة نزل مرتب الوالد إلى 1000 قرش عندما عين مترجما بمكتب الدعاية للحج بقرار من مدير مكتب الدعاية للحج المرحوم الشيخ إبراهيم الشورى في تاريخ 1/2/1360هـ. وفي 1/2/1361هـ بموجب قرار وزاري رقم 66 في 30/1/1361هـ عين أبو عبد العزيز كاتب برقيات ومترجما في وزارة المالية (أي بعد عشر سنوات من تأسيسها) بمرتب شهري قدره 1300 قرش ليزيد بعد شهرين إلى 1500 قرش. والجدير بالذكر أنه لم تصرف رواتب موظفي الدولة بالريال السعودي إلا ابتداء من الأول من شهر محرم لعام 1365هـ، عندما عين الوالد مترجما بالمكتب الخاص لمعالي الشيخ عبد الله السليمان الحمدان (يرحمه الله)، في ذلك العام رزق معتوق بابنه عبد العزيز من أمه بنت السيد محمد صالح حسين الزواوي (يرحمهم الله)، وكان الوالد السيد معتوق أحمد حسنين (يرحمه الله) أول من استلم مرتبه بالريال السعودي وقدره 295 ريالا سعوديا في الشهر، واستمرت ترقية الوالد في الوظيفة نفسها، وزيادة مخصصه الشهري حتى عين بالقرار الوزاري رقم 441 في 24/8/1368هـ في وظيفة مساعد رئيس مكتب مراقبة النقد بمرتب وقدره 490 ريالا سعوديا في الشهر، وآنذاك لم تتأسس بعد مؤسسة النقد العربي السعودي فكان مكتب مراقبة النقد أو الخزينة العامة يقوم مقام البنك المركزي، واستمر والدي في خدمة مليكه وبلده حتى عين رئيس مكتب النقد بمرتب شهري قدره ألف ريال سعودي، حتى رقي بالأمر الملكي وقرار رئيس مجلس الوزراء سيدي صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز برقم 13 في 28/2/1374هـ، ليصبح أول مواطن يشغل منصب نائب محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي بمرتب وقدره خمسة آلاف ريال في الشهر، عندما كان أول محافظ للمؤسسة الأمريكي المستر بلاوز، ثم المحافظ الأمريكي المستر ستاندتش، ثم المحافظ الباكستاني أنور علي، عمل الوالد نائب المحافظ للمحافظين الثلاثة حتى صدر الأمر السامي رقم 136 في 1/8/1377هـ بترقية الوالد لمرتبة وزير ليصبح من أوائل مديري عموم الشؤون الاقتصادية في وزارة المالية، وتقاعد من الدولة في 3/9/1377هـ. هذه وظائف الوالد في الدولة منذ توحيدها وتسميتها المملكة العربية السعودية من 1351هـ حتى 1377هـ، ستة وعشرون عاما. ومن منجزات معتوق خلال هذه المدة يعلوها في قمتها كان في عام 1933م عندما تشرف من قبل مديره السيد هاشم سلطان، بأن يكون أبو عبد العزيز أول من يبشر الملك عبد العزيز (طيب الله ثراه) بوجود بكمية تجارية من الذهب الأسود (البترول) وقدم للمؤسس أول عينة من صفيحة البترول الخام المنتج من أرض هذا البلد المعطاء، قدمها والدي للملك عبد العزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود في قصره في الرياض. فكان معتوق من أوائل الرواد من رجالات المملكة الذين ساهموا بسواعدهم في بناء هذا الكيان وكانوا كالبنيان يشد بعضه بعضا، دينهم الإخلاص في عملهم والتفاني لخدمة وطنهم وولاة أمرهم بالإمكانيات البسيطة والمتاحة آنذاك.

بعد التقاعد
بعد التقاعد تقدم والدي (يرحمه الله) بدراسة لوزير المالية آنذاك بعنوان «تضارب المنافع في نظام المعدنين» أي الذهب والفضة في عملتنا، فكان لدينا الريال الفضة والجنيه الذهب، وفي مفهوم الوالد أن هذا الوضع فيه تضارب في المنافع فتقدم والدي بهذه الدراسة وكانت توصيته في الختام بإلغاء الريال الفضة من التداول. بعد التقاعد عمل المرحوم (بإذن الله)، في مجالات كثيرة منها: دبلوماسية، تجارية، مالية، صحافية واجتماعية وآخر ما كان منها يعتبر من أوائل الرواد وهو أول مدير عام لمؤسسة «عكـاظ للصحافة والنشر» عند إصدار نظام المؤسسات الصحفية من مجلس الوزراء وكان ذلك في عام 1383هـ (الموافق 1964م)، وصدر العدد الأول للسنة الأولى لهذه الصحيفة يوم السبت 11 جمادى الآخرة 1384هـ (الموافق 17 أكتوبر 1964م)، والمرحوم (بإذن الله) مدير عام المؤسسة.
وكان أبو عبد العزيز قد عمل أول مدير عام للبنك الوطني وعضو مجلس الإدارة المنتدب بجدة، وذلك في عام 1376هـ عند ما كان رئيس مجلس الإدارة للبنك الوطني الشيخ يوسف زاهد (يرحمه الله) والد الشيخ وليد وفهد وطلال وغيرهم. وكان معتوق (يرحمه الله) من أوائل من تحدث وقرأ وكتب لغة النصارى (كما كانوا يسمونها) الإنجليزي، فكان أول من رافق كمترجم للغة الإنجليزية، الملك عبد العزيز (طيب الله ثراه) في أول زيارة رسمية لأول رئيس دولة وهو الملك فاروق. وكان من قلة الناس الذين يجيدون هذه اللغة السيد محمد بوقري، الذي كان أستاذا للغة الإنجليزية في مدرسة الفلاح، فعندما يدخل الفصل السيد محمد (يرحمه الله) يقوم معظم التلاميذ ويتركون الفصل، ويبقى القليل منهم مثل الشيخ عبدالله بالخير والشيخ عبد الله عريف والسيد هاشم يوسف الزواوي والسيد عباس الزواوي والسيد علي فدعق، جميعهم تعلموا اللغة الإنجليزية على يد السيد محمد بوقري (يرحمهم الله).

الترفيه والهوايات
من هوايات أبي عبد العزيز كانت الكتابة في الصحافة ومن مقالاته نشر له في أول مسيرة الصحف السعودية التي بدأت في تاريخ 27/11/1350هـ (الموافق 4/4/1932م) منها صوت الحجاز فكان العدد الأول للسنة الأولى يوم الاثنين 27/11/1350هـ، ثمن النسخة قرش واحد دارج، وكان صاحبها السيد صالح نصيف وكان الاشتراك السنوي بأربعة ريالات في الحجاز ونجد، أو نصف جنيه إنجليزي في سائر الأقطار. حمل هذا العدد مقالة لمعتوق بعنوان «الخط في مدارسنا الراقية» جاء فيه اعتراضه على عدم الاهتمام من مدرسة الفلاح للخط العربي من قبل التلاميذ، وعلى ضوء هذه المقالة عينت المدرسة من الخطاطين الممتازين وهم: السيد محمد حسن فقي والسيد محمد أمين رضوان، وكان رئيس قسم الخط الشيخ سليمان غزاوي والشيخ محمد حلمي الذي كان من أبرز خطاطي الحرم المكي. كما كتب معتوق في الكتب والمجلات ومن أبرزها كتاب بعنوان «من أقلام الشباب الحجازي» قدمه الأستاذ الكبير الشيخ محمد سرور الصبان وجمعه كل من الأدباء الكبار: السيد هاشم يوسف الزواوي والسيد علي حسن فدعق والسيد عبدالسلام طاهر الساسي. ومن مقالات أبي عبد العزيز في هذا الكتاب كان عنوانها «كيف تستيقظ مبكرا» و «استعمال آلة التفكير في الإنسان» و «كيف تصنع النقود».
وأختم هذا عن أوائل الرواد والدي السيد معتوق أحمد حسنين بالدعاء إلى من كان سببا في وجودي (بعد الله)، إلى من هذبني وعلمني، إلى أبي الغالي (رحمه الله) أكتب النزر اليسير مما اختزنته ذاكرتي عنه ومنه وله، وأنا أعلم أن كل ما كتبته في الماضي وهنا بعد مرور عقد من الزمن على وفاته لا يوفي مثقال ذرة من حقه علي (الذي رباني منذ ولادتي يتيم الأم فكان أبا وأما لي) وكل ما أملكه هو السؤال من رب العالمين أن يغفر له زلاته ويسكنه فسيح جناته.