لفت نظري ما كتبه رشيد الذوادي في كتابه (مقاهي الأدباء في الوطن العربي) الهيئة المصرية العامة للكتاب 1999م فبعد أن استعرض المقاهي الأدبية في الوطن العربي مشرقه ومغربه، جاء على ذكر (مقاهي ومجالس الأدباء في المملكة العربية السعودية) ص 191-187 ، فنجده يمر مروراً سريعاً على ذكرها. بل ويكتفي بمرجعين هما مقالان أحدهما في جريدة الندوة بتاريخ 23/ربيع الثاني /1415هـ والآخر بمجلة قافلة الزيت ديسمبر 1967م. وإذا هو يقول :"وإذا ما كانت مقاهي الأدباء قليلة في المملكة العربية السعودية، فباستثناء (قهوة الفيشاوي) في مدينة جدة والواقعة بين شارع باب جديد وحارة المظلوم، ومقاهي أخرى في الرياض، وفي مكة وهي الرابضة في أحياء (جرول) و(المسفلة) و(الشهداء)، حيث يتجمع أدباء وغير أدباء في ساعات الأصيل وفي الهزيع الأول من الليل.. قلت فباستثناء جلسات هذه المقاهي العتيقة فلن نجد مقاهي أخرى، استبدلت الجلسات الأدبية بجلسات في البيوت والمنازل والأندية".
ولأن ما ذكره الكاتب غير دقيق بل ومبتسر.. فقد قرأت وسمعت الكثير من مثل هذه المقاهي وبالذات في المنطقة الغربية (الحجاز) من المملكة التي كان لها السبق في هذا المجال، فقد كان للرعيل الأول من أدبائنا الأفاضل دور بارز في إثراء الحركة الأدبية– شعراً ونثراً- وكان للمقهى الدور المهم؛ فمن مقهى (الأولمب) بمكة المكرمة – قبل الحرب العالمية الثانية- خرج الكثير من الشعراء والكتاب، وبدأ التنافس بين الشاعرين محمد حسن عواد وحمزة شحاته مثلاً يأخذ طابع المعارك الأدبية وانضم لكل واحد منهما مجموعة من الأنصار والمؤيدين، وبدأ الأنصار يتلقفون القصائد ممن هم في صفه ويبدأون في نسخها من عدة نسخ ويتم توزيعها في الوسط الثقافي، ويستحثون الآخر على سرعة الرد بقصيدة مماثلة، وكانت هذه المناكفات تسمى (مسامرات الأولمب)، فنجد محمد علي مغربي في (أعلام الحجاز) يطلق عليها (المعارك الأدبية)، فتناول ما حصل بين صاحب المنهل عبد القدوس الأنصاري ومحمد حسن عواد بسبب تأليف الأول قصة (التوأمان)، ثم انتقل لما بين العواد وحمزة شحاته الذي استباح في مهاجمته للعواد ما لا يستباح، ولكن العناد أخذ يؤجج المعركة ويوقد شظاها فكانت القصائد تنشر في جريدة (صوت الحجاز) فأخذ الجميع يترقبونها، وكان حمزة شحاته يتخذ من اسم (الليل) رمزاً له، أما العواد فاختار لنفسه رمزاً اسم (الساحر العظيم).
مهاجاة مقذعة
وقال :"من الناحية الفنية كانت هذه القصائد كسباً للأدب لأنها جاءت في اسلوب فني لشاعرين من أكبر الشعراء في ذلك الزمان في البلاد كما كانت مجالاً للنقاش المستمر بين الأدباء والقارئين، ولو أن المعركة اقتصرت على هذا الحد لكان ذلك حسناً ولكنها تطورت للأسف الشديد إلى مهاجاة مقذعة تناول فيها كل صاحبه تناولاً سيئاً حتى وصل إلى الأعراض واستباح ما لا يستباح وكانت هذه المهاجاة لا تنشر في صوت الحجاز لأنها لم تكن صالحة للنشر بما حوته من فحش القول وجارح التعبير ، ولكن هذه القصائد كانت تكتب باليد على نسخ متعددة وتوزع في أماكن تجمعات الناس في مكة، وقد جرّت المهاجاة بين حمزة والعواد إلى دخول شاعرين آخرين فيها وهما أحمد قنديل مساعداً لصديقه حمزة شحاته ومدافعاً عنه، ومحمود عارف مساعداً ومدافعاً عن العواد .." ، وهكذا خشي الطرفان بعد ذلك من العواقب، فاعتذرا لبعضهما وبدأ العواد بقصيدة له بعنوان (عتاب).
وحي الصحراء
كما نجد الشاعر طاهر زمخشري يروي في اثنينية عبد المقصود خوجة بجدة عند تكريمه – وهو ما أورده محمد توفيق بلو في (الماسة السمراء .. بابا طاهر زمخشري القرن العشرين) ج1-1426هـ- أنه بعد صدور كتاب (وحي الصحراء) متجاهلاً ذكر بعض الشباب المثقف، اجتمع نفر منهم وذكر : عبد الله عريف وحسين عرب وهاشم زواوي وعلي فدعق وحمد الجاسر وعبد المجيد شبكشي وحسين خزندار ومحمد علي قطب وعبد الحميد مشخص فجمعوا نماذج من إنتاجهم وأصدروه بعنوان: (نفثات بأقلام الشباب الحجازيين) وقال :"لقد انبثق في تلك الآونة في مكة منبر أدبي كان له فعاليته عرف (بالأولمب) –قهوة خليل البخاري- وكان من أبرز رواده بالإضافة إلى الزمخشري الأستاذ عزيز ضياء الذي قال :"عندما جاء محمد عمر توفيق من المدينة إلى مكة واشتغل في المطبعة الأميرية مع الأخ محمد سعيد –عبد المقصود خوجه- أصبحت الشلة تتكون ، مني ومن الأستاذ حمزة – الله يرحمه- وأحمد قنديل ومحمد عمر توفيق ثم انضم إلينا بعد ذلك العريف وتبعه الزمخشري. والأستاذ زيدان ، حينما جاء مكة كان مشغولاً بوظيفته فلا نراه إلا لماماً، فهو من الناس الذين لم يشاركونا الحضور في مركازنا الواقع في المسفلة والذي نعتبره مركزاً أساسياً نجتمع به في العصر ، إذا لم نكن مقيدين بعمل، ونحن أغلب الأحيان نمشي مشياً، وكانت وسيلة ركوبي من بيتي في زقاق الوزير بسوق الليل إلى المسفلة إلى قهوة خليل البخاري هي أقدامي، وكنا نقضي الساعات الطوال هناك من العصر إلى صباح اليوم الثاني، بل ننام أحياناً، وقد اتخذنا جبلاً بالقرب من المقهى أطلقت عليه "الأولمب" وقد شهد الأولمب الأهاجي التي دارت بين حمزة وقنديل من جهة ، وبين العواد – رحمه الله- من جهة ثانية(1) "
ونستطيع القول إن مركاز الأولمب كان المفرزة التي أفرزت فطاحلة الشعراء والأدباء الذين رووا نبتة الفكر والأدب في الحجاز ، فمن الطبيعي أن تكون نشأة بابا طاهر بين هذه النخبة المميزة والتي انطلقت من مركاز المسفلة (ومسامرات الأولمب)، قد جعلت منه أديباً ناشئاً نابغة، بعقلية متفتحة ومفتونة وشغفة لتجرع كؤوس العلم والثقافة والأدب ..".
قهوة العويد
ويذكر الأستاذ فؤاد عنقاوي أنه في صغره كان يشاهد الأدباء ومنهم الساسي في قهوة (كونكار) بمكة (المسفلة) وأن جزءا منها يقع في مرتفع ويعتقد أنها هي (الأولمب).
وأذكر في صغري أن هناك مقهى وحيدا ومشهورا خارج مدينة الرياض يقع بالقرب من مقر الحرس الوطني حالياً.. نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات الهجرية أي قبل نصف قرن من الآن يسمى (قهوة العويد) وبها كراسي (مراكيز) متباعدة وكان بعض الأدباء وأغلبهم من موظفي الدولة عند قدومهم من الحجاز يتخذون منها مقراً لتجمعاتهم المسائية، وسمعت أنه كان يلقى فيها القصائد وتناقش فيها بعض المواضيع الثقافية الأخرى .. وكذا اتخذ مجموعة من خريجي الجامعات المصرية من أبناء المملكة مقراً في حديقة الملز أطلقوا عليه (الكازينو) ينظمون به المحاضرات والمسامرات الأدبية، وأحياناً العزائم الخاصة ولعب الورق، وكان مقتصراً على كبار الموظفين في الدولة..
فلعل أحد الباحثين الجادين يتطرق لمثل هذا الموضوع فيشبعه بحثاً لينير به الجميع ولتعم الفائدة.