انتقل الى جوار ربه صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله الفيصل يوم الثلاثاء 21/4/1428 هـ عن عمر ناهز 84 عاماً وقد عرفت عنه الكثير اثناء حياته ومما كتبته عنه الصحافة عقب مماته عن ميلاده ونشأته - دراسته - مؤهلاته - مناصبه - نتاجه الأدبي في مجال الشعر الشعبي منه والفصيح-نجاحاته - انجازاته في شتى الميادين التي ارتادها وجال فيها. والمناصب التي تقلدها. والأعمال التي باشرها. والمهات التي اضطلع بها؟!
لكن الملاحظ وقد رصدت الصحافة الكثير عن أعمال المرحوم ومآثره إنها أهملت ذكر مكرمته على تاريخ وفكر هذه البلاد وجهوده التي ادت إلى ميلاد ملحمة عيد الرياض ولا شك أن:
كلنا للفناء نمضى ولكن
البقاء البقاء ذكر المحامد!!
لقد أسهم بهذه المكرمة بشكل جذري في خدمة هذه المملكة الحبيبة وهذا الكيان العملاق في مجال الفكر الناصع والتاريخ الراسخ الذي ولد وبرز إلى النور بتوفيق الله ثم بجهد وجهاد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود رحمه الله الذي قال عنه مؤلف وصاحب ملحمة عيد الرياض:
عبدالعزيز وكم في العرب خالدة
من سيفه الفرد أو من عقله الخصب
فعبدالله الفيصل لم يكن أميرا بالنسب فقط ولا بالمنصب وحده ولا أمير فكر وبيان وامير قواف وانغام ولكنه بهذه كلها مجتمعة مضاف اليها إنه أمير نجدة ومروءة ونبل وكرم وشهامة وإنسانية بحيث ان ميلاد ملحمة عيد الرياض جاء على يديه الكريمتين وهذه الملحمة احدى مآثره على هذا الوطن وأهله وستبقى كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها وأحسب أن سموه ممن عناهم الشاعر بقوله:
فتى يشتري حسن الثناء بماله
ويعلم أن الدائرات تدور
فلا جازه جود ولاجل دونه
ولكن يسير الجود حيث يسير
ولعلمي بخلفية هذه الخطوة البناءة والوقفة الكريمة والمكرمة الحاتمية قصة طريفة أحب عرضها أمام عزيزي القارئ بإيجاز فلكل أمر بداية ولكل خطوة سبب.
ففي النصف الثاني من القرن الهجري الماضي وتحديداً في بحر عام 1387هـ زرت صديقي سعد وكان أحد الشباب المثقف المتفتح بأبها ورأيت لديه مجموعة من الكتب النادرة "وفي تلك الفترة تعتبر كل الكتب نادرة” إذ لا مكتبات عامة ولا نواد أدبية ولا ما يحزنون؟! والكتاب الثقافي أيا كان لونه ونهجه حاجة نادرة وحينها 90% ممن يستطيعون فك الحرف بعسير لايعرفون من الكتب الاّ المنهج الدراسي؟! وحده؟! ولاحظت كتاب "مذكرات جريح” للقاضي والأديب والشاعر العربي اللبناني العملاق بولس سلامة.. ففكرة الكتاب وهذا ما فهمته من عنوانه كتاب غرام وهيام وعلى حد تعبير شاعرنا القديم/قتيل كعاب لا قتيل حروب؟!.. لكنني سرعان ما عدلت عن هذا الرأي وغيرت وجهة نظري حين لمحت وقرأت الاهداء/ "إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير الأديب الشاعر عبدالله الفيصل” فازداد شوقي لقراءته ولمعرفة مضمونه. وطلبت من زميلي سعد ان يسمح لي بالإطلاع عليه. وقد وافق مشكوراً - رغم أن إعارة الكتاب من الامور الشائكة وللمرحوم القاضي الأديب الشيخ علي الطنطاوي موقف من إعارة الكتاب بلوره في قول مأثور بقوله/ قد أعير ثوبي ولا أعير كتابي؟! وقضيت بضعة أيام مع كتاب "مذكرات جريح ومؤلفه.. فوجدته شخصا مبتلى بمرض عضال اقعده السرير الأبيض 17 عاماً وخطورة هذا الداء وعضاليته في غموضه إذ أجريت له 23 عملية جراحية ولم يهتد الأطباء لمعرفة كنهه وحقيقته. فإن معرفة المرض جزء من علاجه.. وحمله ذلك ان قال فيه كثيراً من الشعر المؤثر في نفس الكتاب وغيره من مؤلفاته.. ومنه قوله:
إن حظي من الحياة سرير
بات منى فلم يعد خشبياً
ويقول في مرارة عن معاناته الأليمة وطول صبره:
أيوب من أيوب ماذا خطبه هو قطرة وانا خضم بلاء.
وحين صدر كتاب "مذكرات جريح” وهو يعتبر تقريراً شاملاً عن وضعه هذا الشاعر القاضي المبتلى الصحي والنفسي والمالي. والأسري والاجتماعي. مذيلاً بالإهداء لصاحب السمو الملكي الأمير الأديب الشاعر عبدالله الفيصل وارسل منه مجموعة نسخ. وربما شفعها برسالة شخصية. عرف سموه أن هذا طالب نجدة كما قال الشاعر قديماً:
وإذا الكريم كبت به أيامه
لم ينتعش الاّ بفضل كريم
حينها انتفضت أريحية سموه فكلف من يثق به من خاصته ليذهب ويستطلع الأمر من كل جوانبه فذهب واظنه المرحوم عبدالله بالخير وكتب لسموه الكريم بالتفصيل الممل عن وضع هذا القاضي الاديب الشاعر المريض؟! فتكفل سموه بمواصلة مشوار علاجه ورعايته وربما أسرته رعاية مباشرة وأنفق عليه بسخاء الكريم إذا قصد وكانت جهوده السبب بعد الله في شفائه وعودة عافيته واشراقة ابتسامة الحياة له بعد عبوسها ونشوة الأمل في قلبه الحزين. ووجدانه الضامر بعد رحلة علاجية طويلة وشاقة عانى منها وكابد الأهوال والشدائد ما حملته أن يقول:
جزا الله الشدائد كل خير
وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها إلاّ لأني
عرفت بها عدوي من صديقي
ولأن الله يقول "وهل جزاء الاحسان الاّ الإحسان” والعرب تقول في حكمها: "الجود من الموجود” وما موجود بولس سلامة إلاّ شِعْر ومشكلته إن هذا الأمير المحسن الكريم شاعر أيضا وكونه يكافئه ويشكره بقصيدة يتيمة مهما كانت من القوة والعمق والمتانة والشمولية والطول فلا يعد وكونه كمستهدي تمر الى هجر - كما يقول المثل؟!!
ولكنه آلَ على نفسه أن يكافئه مكافأة يبزّ بها كثيراً من اقرانه من شعراء العربية في القديم والحديث ويخلد بها ذكر هذه المآثر الكريمة وليس لديه - كما أسلفنا - ما يمكن أن يقدمه لسموه كترجمة صادقة وأمينة عن شكره وامتنانه على صنيعه الجميل ووقفته النبيلة واظنه في أعماقه اصغى للمتنبي وهو يقول:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليحسن القول إن لم تسعد الحال
فعقد العزم - رغم كونه لم ينه بعد فترة النقاهة والإبلال من مرضه وصمم على دراسة تاريخ هذه البلاد في شخص وسيرة البطل المجاهد والملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود رحمه الله من خلال شخصيته الفذة وسيرته النضالية الجبارة الذي قال عنه شاعره ابن عثيمين:
عبدالعزيز الذي نالت به شرفاً
بنونزار وعزت منه قحطان
مقدم في المعالي ذكره أبداً
كما يقدم بإسم الله عنوان
فولدت "ملحمة عيد الرياض” حيث امضى في اعدادها قرابة ثمانية اشهر وجاءت في اكثر من 8000 بيت من الشعر وكتب عليها الاهداء إلى مقام الزعيم العربي العملاق فيصل بن عبدالعزيز بقوله:
أتشرف بأن ارفع الى صاحب الجلالة المعظم الملك فيصل بن عبدالعزيز الملحمة التي هو أحد أبطالها. وهي ملحمة آل سعود.. او ملحمة العرب.. وبحسبي ثوابا أن يتفضل صاحب الجلالة فيتلقاها بعين الرضا بولس سلامة.. وعند ميلادها قال منتصراً ومغتبطا. ومنتشيا. ومفتخرأ في مقدمها:
إن الملاحم لم تبرح مناط يدي
فكلما انتسبت فاءت الى نسبي
لا البحتري شأشأوى فجاوزني
قدراً ولا المتنبي دأبه دأبي
"عيد الرياض” سبقت الأولين بها
فمن أتى لاحقا.. يجري على عقبي
سيهرم العصر بعد العصر منصرماً
وهي الفتية لم تكهل ولم تشب
وقال عنها المرحوم الملك فيصل -حين استقبل الشاعر- ان الذين شهدوا الوقائع لم يدركوها بأبصارهم كما ادركها بولس سلامة بخياله؟! وإنه عرف من عبدالعزيز بحدسه فوق ما عرفه المقربون اليه؟!
ويقول الشاعر معلقاً.. فأيقنت حينئذ أن جلالته تفضل فأطلع عليها وأمعن في استجلائها فصح عندي ان عبقرية فيصل العرب تتجاوز الدربة السياسية والبطولة الحربية الى الشعور بالبيان الجزل وتذوقه...!
ولا غرو فالملك فيصل رحمه الله كان من الزعماء العرب والمثقفين القلائل وله مواقف مشهورة تدل على عمق ثقافته وأصالتها وشموليتها ليس هذا مكان بسطها وشرحها.. وقد اطلع على هذه الملحمة الكثيرون وقرضها الكثيرون واثنى عليها الكثيرون من الأسرة السعودية المالكة وغيرهم من ادباء العربية ورواد الفكر والثقافة فيها وحتى أدباء المهجر وممن قرضها اديب لبنان الكبير سعيد عقل فقال كلاما كثيراً وعميقاً وشاملاً ومتشعباً خلاصته قوله/ ان جزيرة العرب ستتحدث بعد مائة عام عن احداث ثلاثة وهي:
1-تأسيس المملكة العربية السعودية على يد عبدالعزيز
2-إكتشاف منابع البترول في أرضها
3- ميلاد ملحمة عيد الرياض
وكان لكاتب هذه السطور شرف السبق الى اكتشافها ونشر خبرها والتحدث عنها بين مثقفي وأدباء وشعراء منطقة عسير قبل اكثر من اربعة عقود زمنية ومن أوائل من بحث عنها واحتفى بها شاعر عسير الكبير الراحل المرحوم علي آل عمر عسيري. وجلب منها كمية باعها بمكتبته ولكنها جاءت في طباعة متواضعة. وليست بمستوى قدرها الثقافي والأدبي؟!! ولكنها نفدت بسرعة البرق كما اعتمدها "رحمه الله” كمرجع واعتمد عليها في تأليف كتابه "ابها في التاريخ والأدب”.