تحدث الصديق الأستاذ عبد الله المطيري في مقال له الأربعاء الفائت في جريدة الوطن عن مفهوم الحرية وقرر أنها شرط للإصلاح والتفوق الحضاري .وفي رأيي أن الحرية ليست مجرد شرط بل هي سبب كاف وعلة جوهرية . ورصد التحولات التاريخية الكبرى التي مرَّت بها المجتمعات يظهر أن المحرك الأساسي والفاعل الأول في تقدمها وتطورها هو الحرية بكل ما تتضمنه الكلمة من معان رفيعة وقيم سامية . لقد كثر الحديث عن الحرية ولا يزال ، وأفقدتها كثرة التداول معناها الحقيقي ومرتكزها الأصلي . بل لقد أصبح الحديث عن الحرية في وسائل الإعلام ومقالات الكتاب وعلى ألسنة الناس حديثاً للوجاهة والترف وادعاء الثقافة . وثمة فريق آخر لا ينكر الحرية ولكنه يشرع في وضع القيود والشروط التي تحد من فاعلية المفهوم وتقتل حيويته . فينصُّ على أنه مع الحرية " ولكن " أو " بشروط " . وهذه " اللاكنات " أو " الشروط " تحيل المفهوم إلى معان ودلالات لا تختلف كثيراً عن المفهوم النقيض للحرية : وهو اللاحرية . تحت أي اسم كانت .
إن الحرية لا تتجزأ . كما أنها لا تُحَدُّ إلا بالحرية ذاتها . أجل ،إن كل إنسان حر ما لم يتعدَّ على حريات غيره من الناس . هذا هو الحد الوحيد الذي يضبط الحرية من الانفلات والفوضى ، كما ويحميها من القيود الأخرى التي تكبلها وتنزع عنها فاعليتها.
قد يتسرع البعض ويهاجم مفهوم الحرية لمكان تجاوزها واختراقها للثوابت الدينية والاجتماعية والسياسية .. وفي الحقيقة فإن هذا " الهجوم على الحرية " بقصد الدفاع عن الثوابت لهو بعينه الخداع والداء الوبيل الذي عانت وتعاني منه المجتمعات العربية والإسلامية ؛ حيث تُحارب الحرية ويُحكم عليها دون إدراك لماهيتها وتصورها ، أو لسوء فهمها .. وربما من أجل تشويهها تشويهاً متعمداً لأغراض شخصية وإيديولوجية. فالحرية هي الشرط الوحيد للتكليف والمسؤولية وهي المبرر الأهم للقوانين والأنظمة والأخلاق . وقد أشار الفلاسفة والمتكلمون الإسلاميون القدماء إلى أهمية الحرية في تحقيق مبدأي العدل الإلهي والإنساني . ونحن نشير بدورنا إلى قيمتها العظمى في دفع عجلة التطور ورفع مستوى الحضارة إلى درجات عليا لم تكن لتحققَها أية أمة دون الإيمان بالحرية قولا وعملا .
ليست هناك حرية مطلقة تماماً . فلا إطلاقَ في الواقع الدنيوي المعيش المحدود بالزمان والمكان وبالقوانين الكونية الضرورية. ولكن الحرية المراد نوالها وتحقيقها في المجتمع من أجل النهوض به هي حرية قانونية إذا جاز التعبير . ولا أقصد بالقانون هنا المعنى المألوف بل معنى أوسع وأشمل . يمكن أن نسميه أيضاً بالنظام . فالحرية الحقيقة نظامية ؛ تهدف إلى التنظيم وصيانة القوانين وحماية الأفراد وترتيب المصالح العامة والخاصة على أساسٍ من مراعاة حرية الأفراد والجماعات . وليست أبداً عدواً للناس وللمجتمع كما يحاول البعض أن يوهم . ولتوضيح هذه الفكرة نعود إلى ما قررناه قبل قليل من أن الحدَّ الوحيد للحرية هو الحرية ذاتها باعتبارها ماهية النشاط الإنساني دون عداه من الأنواع الأخرى .فإذا كان العقل هو ما يميز الإنسان عن الحيوان فالحرية كذلك جزء من ماهية الإنسان . بل إنني لا أتردد في جعل الحرية والعقل يشيران إلى معنى واحد وهو استخدام الإنسان لحقه في التفكير والتعبير والعمل دونَ ضوابط سوى الضوابط التي تنص عليها الحريةُ ذاتها (أو النظامُ ذاته القائم على فكرة الحرية): وهي أن يراعي الإنسان الفرد حقيقةَ أنه يعيش مع آخرين لهم الحق - مثلما له – في حرية التفكير والتعبير والعمل .أما ما عدا ذلك من ضوابط فهي زيف وتدليس لا قيمة له.
كل تنظيم لا بد أن يفرز سلطةً تكون من مهامها حمايةُ التنظيم نفسه الذي هو علاقاتُ أفرادِ المجتمع القائمةُ على الحرية والمسؤولية . ولكن هذه السلطة قد تتجاوز حدودها ليصبح الهدف منها ليس حماية النظام والحريات وإنما البقاء في مركزها وتحقيق مصالحها الخاصة . والسلطة – كما أشار عبد الله المطيري في مقاله المذكور - لا يراد بها التشكيل السياسي فحسب بل والسلطة الاجتماعية والدينية والفكرية والتربوية وحتى الأسرية (فالأب الذي لا يربي ابنه لكي يكون حراً مسؤولاً يعد منتهكاً للنظام . فهو يقدم للمجتمع إنساناً لا جدوى منه لنفسه ولا لأمته).
وهذا التجاوز ليس سوى تقييد الحريات . فلا يمكن أن يقال عن سلطة ما إنها ظالمة أو إنها تجاوزت حدودها مادامت تصون الحريات وتحمي الأفراد من بعض الرغبات والأهواء والتحيزات التي يقدمها أصحابها في إطار قانوني ونظامي أو شرعي . وهي في واقع الأمر مجرد رغبات وأهواء مقننة وخادعة.
فلا بد أن يتأسس النظام – أي نظام – على الحرية والحرية فقط ، لتفادي هذه الانتهاكات والتجاوزات الخطيرة بحق إنسانية الإنسان.