يرى ابن خلدون ان الدولة تمر بثلاث مراحل من النمو شبيهة بمراحل الكائن الحي، حيث تبدأ بمرحلة الطفولة ثم بطور الفتوة، فتنتهي إلى الشيخوخة. ووصف أبناء الجيل الثالث "الهرم” بأنهم منغمسون تماماً في الترف والملذات، وانهم لا يتحملون مسؤولية أنفسهم، وبالتالي مسؤولية النهوض بوطنهم، فـ "يبلغ فيهم الترف غايته.. فيصيرون عيالاً على الدولة. قد نختلف مع ابن خلدون في هذه المماثلة البيولوجية، أي في تفسيره تطور ونمو الحضارات من خلال القياس على أطوار الكائن الحي، ومع هذه اللغة الاحصائية الدقيقة، إذ يجعل عمر الجيل الواحد أربعين سنة، حيث لا تتناسب مع موضوعات اجتماعية بهذا التنوع والشمول، كما يخالفها الواقع التاريخي سواء الذي استقرأه ابن خلدون أو الذي لم يستقرئه.. ولكننا لا نختلف معه، مبدئيا، في كون أبناء الدولة المترفة، ترفاً فجاً، عيالاً عليها. وأقصد بالترف الفج الرخاء الناجم عن الريع الاقتصادي الكسول الذي تتكفل به قوة اجتماعية محددة هي حكومة الضمان، أو دولة المعونات والتي تبقى كما هي مادام الأفراد ليسوا أحراراً اقتصادياً. ولكن هل الأجيال هم السبب أم الترف أم الدولة؟
لقد محور ابن خلدون دراسته -هنا- حول مفهوم "الترف” كما هو واضح. فجعله سبباً وعلامة. سبباً لكون أبناء الجيل الثالث عالة على الدولة، وبالتالي عبئاً ثقيلاً يؤدي إلى فنائها، وعلامة تشير -من الناحية الوصفية- إلى تفاوت المراحل الثلاث التي تقطعها الأجيال، علامة على التحول. والعلامة دال ولكنها لا تتضمن معنى السبب بالضرورة. فما الذي يجعلنا نعتقد ان ابن خلدون جعل الترف سبباً لكون الأفراد عيالاً، ثم في جعل العيال سبباً في فناء الدولة؟... يقول "وإنما قلنا إن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال، لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم”. ويلاحظ أنه يربط ههنا بين البداوة ومستلزماتها (وكذلك مضاداتها!) وبين المقولة المركزية في خطابه التاريخي، أي مقولة العصبية. فهل يعني هذا ان مفهوماً اقتصادياً في أساسه كمفهوم الترف -لاقتضائه زوال البداوة والخشونة- مفهوم تأسيس لمقولة العصبية؟ يقول "والجيل الثاني تحول حالهم بالملك والترف من البداوة إلى الحضارة، ومن الاشتراك بالمجد إلى انفراد الواحد به، فتنكسر فيهم سورة العصبية بعض الشيء” لتزول تماماً في الجيل الثالث، جيل السقوط والترف ونسيان البداوة وشظف العيش، مما يؤدي إلى انقراض الدولة. لقد جعل ابن خلدون من الترف، الذي هو من مقتضيات الملك كما يقول، سبباً لانفراد الواحد بالمجد الذي كان أبناء الجيل الأول (غير الترف) يشتركون فيه، ليصبحوا في الجيل الثاني مترفين نوعاً ما، ولكنهم لا يزالون قريي عهد بالبسالة والبداوة، فيظل فيهم شيء من العصبية، التي "تسقط بالجملة” حسب تعبيره في الجيل الثالث المتحضر!.
يمكنني أن أقول -تأسيساً على ما قاله (وما لم يقله صراحة) ان البداوة ومستلزماتها كالخشونة والشجاعة والاشتراك في المجد أساس قوة الدولة والحفاظ عليها. وأن الحضارة ومقتضياتها كالترف والدعة والنعومة سبب ضعفها و "تخلفها”. ومن ثم يمكن استجلاء تناقض أساسي في خطاب ابن خلدون إذا عرفنا انه ينص في كليته على ان السكون والاستقرار والتحضر أساس العمران وان البدو المتوحشين "إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب”.
عيال الدولة
فلنعد ونستأنف مغزى التقسيم الخلدوني، في هذه الصياغة: إن تعويل أبناء الجيل على الدولة -اقتصاديا- سبب في ضعفها وفنائها. هكذا أراد ابن خلدون ان يقول لنا "فأبناء الجيل الثالث (ينسون) عهد البداوة والخشونة، و (يفقدون) حلاوة العز والعصبية.. حتى (يبلغ) فيهم الترف غايته!” والنتيجة أنهم "يصيرون عيالاً على الدولة”.
إن هذه الأفعال (ينسون، يفقدون) في حركتها المتقدمة عبر الزمن من الماضي حيث خشونة البداوة، إلى الحاضر حيث النعومة وغضارة العيش، تصدر عن ذوات واعية وفاعلة ومريدة، كأنها لم تخضع لشيء قاهر سوى إرادتها الحرة، لتنتهي بهم هذه الحرية إلى الوقوع في فخ الفعل الحضاري المضاد، الخارج عن الذات المريدة، الذي عبر عنه بقوله (يبلغ) وهو صادر عن الترف، كظاهرة اجتماعية سلبية، تسلب ما تبقى من بداوة وخشونة ورجولة ليصبح الأبناء "أجبن من النسوان” كما يقول.
ومما يلاحظ من هذا التحليل ان ابن خلدون يلقي باللائمة على أبناء الجيل، باعتبارهم -في مجموعهم- يشكلون كيان الدولة والمجتمع. وفي هذا إغضاء -ولنقل بصورة مباشرة- تبرئة لجوانب أخرى كالبنى الاجتماعية وصورة البناء عموماً وصيرورة العلاقات القائمة بين الأفراد من جهة، والعلاقة بينهم وبين مؤسسات المجتمع وثقافته وتراثه وأخلاقه من جهة أخرى. وكذلك إغفال لدرس هذه العلاقات مستقلة عن محمولاتها (الأفراد والمؤسسات) بوصفها نماذج أكثر رسوخاً وأدوم زمناً وأكثر أثراً. ومن نافل القول في العلوم الاجتماعية المعاصرة ان المجتمع كنسق من العلاقات والوظائف والمعاني "أكبر” من مجرد مجموع أفراده بشكل يكاد يكون معه المجتمع كياناً غريباً عنهم، رغم كونه الخريطة الثقافية والرمزية التي يحملها كل فرد في عقله منذ الولادة، التي تحكم تصوراته وسلوكه.
لقد نظر ابن خلدون إلى أثر أفراد الجيل، باعتبارهم "إرادات واعية” ومؤثرة، ولم ينتبه إلى ان التغير الاجتماعي، وبالتالي الحضاري، سواء للأحسن أو للأسوأ، معلول لأكثر من هذه الإرادات الواعية أو مجرد مجموعها، فالأخيرة لا تعدو أن تكون رأس الجبل الطافي على سطح الماء!.
إن هناك "إرادات غير واعية” إذا جاز التعبير.. أو فلنقل: ثمة (لا إرادات!) تتحكم في مصير الدولة وبالتالي في مصير "عيالها”، وهي عند التحليل الأخير حصيلة لثقافة موروثة تجد أصولها المؤسسة في المنظومة الرمزية الكبرى: منظومة الأساطير والقيم والحكايات التي رواها الأسلاف ونقلوها عن طريق الرمز واللغة والممارسة الطقسية والعادة، وربما الجينات!، بعد أن منحوها بعداً تقديسياً وأضفوا عليها هالة من المبالغات والغموض تضمن لها الدوام والحفاوة.
يمكن القول إن الإنسان البدائي، والبدوي ذا السورة، أكثر تهافتاً على الترف متى وجد السبيل إلى ذلك، لأسباب تتعلق بحياة شائكة ومضطربة ومطاردة تعاني من هاجس الفقر والهلاك.
فالمشكلة ليست في الترف، وهو بمعناه الإيجابي بلوغ حالة الرفاهية والعيش الرغيد بالعمل المنتج المدروس، فهو غاية تتوخاها كل دولة وكل أمة، ولكن المشكلة تكمن في تصور الترف والتعاطي معه بشكل سلبي.
فهل نقول: إن أبناء الدولة، والدولة، والمؤسسات الاجتماعية، كلها عيال للثقافة؟ للماضي الذي يحضر دوماً فيمارس في الأجيال فعل السحر، ويحجب عنهم الرؤية الواضحة لمعطيات الواقع المعيش وممكناته، ويضعهم أمام مجهول يتربص بهم كوحش قادم من المستقبل، ذلك الزمن الذي لم تصل إليه حركة الأفعال العربية الماضية والمضارعة إلا بـ (التسويف).