التداعيات التي رافقت مهرجان مزايين الإبل، وصدور فتاوى من قبل بعض العلماء تحرم المشاركة فيها، في الوقت الذي ارتاد بعض الدعاة تلك المهرجانات، فضلا عن كتابات صحافية شككت في تلك الممارسات التي ظهر فيها الولاء للقبيلة على حساب الوطن.. وبعد ان هدأت تلك الزوبعة الاجتماعية الكبيرة، يبحث ملحق(الدين والحياة) عبر علماء شرع وكتاب عن العلاقة التي تحكم الدين والوطن والقبيلة، وهل تلك العلاقة تتنافر وتتضاد وتلك المكونات الثلاثة، أم أن العلاقة بينها علاقة تكامل تصب جميعها في مصلحة المجتمع، وهل ما شهدناه في تلك المهرجانات وإقبال الناس عليهم تمثل ردة نحو القبيلة على حساب الوطن.
بداية تحدث لنا د.جميل اللويحق الداعية والأكاديمي الشرعي المعروف فقال: إن مما جبلت عليه الفطرة الإنسانية الانتماء للقبيلة واعتبار هذا الانتماء تجمعا مؤثرا في أمن المجموعة ككل وفي قيمتها ومواجهتها للنوائب والمصائب. وقد جاء الإسلام مقرا لهذا التكوين القبلي وأيده القرآن كمراد كوني حين قال "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”.
وعندما جاء الإسلام كان العرب في القمة من هذه الناحية فأقر الإسلام ما هم عليه وضبطه بضوابط وحدة بحدود وجعل الإسلام نفسه الآصرة الكبرى التي يجتمع حولها الناس ،فإذا تعارضت مصلحة القبيلة مع مصلحة الإسلام قدمت مصلحة الإسلام وهذا ما فعله الكثير من الصحابة حينما خرج منهم من خرج على قبيلته وحتى على أسرته.
والإسلام في دعوته هذه لم يلغ القبيلة بل إنه أبقى على دورها المهم في حياة الناس ولنا في رسول الله أسوة حسنة فعندما أتى إلى المدينة مهاجرا أبقى التمايز بين الأوس والخزرج وكان في دعوته يستهدف القبائل كقبائل وفي بعض المعارك كانت الرايات تضرب بحسب القبيلة.
وحينما خرجت بعض هذه الممارسات عن هذا السياق نهى عنها وحاربها كما حدث في الفتنة التي اشتعلت بين الأنصار والمهاجرين حينما ظهر من يدعو للردة نحو القبيلة فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن قال " أبدعوى الجاهلية تدعون وأنا بين أظهركم ؟؟ دعوها فإنها منتنة " وقال أيضا " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يدعونها حتى قيام الساعة " وذكر منها الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، وبهذا يبقى التعامل الإسلامي الواقعي لمكون طبيعي في حياة الأفراد ولكن وفق الأهداف الكبرى التي يسعى إليها الإسلام.
وبما أننا في بلد ينتمي للإسلام قولا وفعلا ،وفي بلد تصبغ روح التدين شتى مظاهره فإنني أظن أن ما شهدناه من تجمعات قبلية تلك الأيام هي تجمعات مؤهلة لكي تكون لبنة خير في صالح هذا الوطن ، بل إنني أعدها مظهرا من مظاهر اللحمة والتواصل بين أبناء المجتمع ؛لأن هذه التجمعات لم يصدر منها أي دلالة على التمايز، بل إنني أراها بعيدة عن العنصرية المقيتة لوجود الكثير من العقلاء القائمين على هذه التجمعات التي تبشر بخدمة لأهداف عامة لطالما يسعى الإسلام لتحقيقها..
وأضاف د.اللويحق قائلا: إن المبالغ التي تصرف على هذه التجمعات أراها مبالغ تتناسب وعدد القبيلة الواحدة، هذا إذا ما قارناها بما يصرف على الأندية الرياضية وعلى بعض التجمعات الأخرى لذا وبقليل من التعامل المتوازن مع هذه الظاهرة أتوقع بأن النتيجة لن تكون سلبية نظرا لأن القبيلة يمكن أن نستثمرها في خدمة الأهداف العامة للإسلام..
عودة متقوقعة
واستبعد الكاتب المعروف خالد السليمان ردة المجتمع نحو القبيلة ويرى إن الأمر لا يعدو كونه تقوقعا قبليا يظهر بين حين وأخر حين قال : التكتلات العشائرية و القبلية لم تختف يوما في مجتمعنا لكن التحولات الاجتماعية و التنموية وواقع بناء الدولة الحديثة فرض على هذه التكتلات أن تخرج من "قوقعة” القبيلة و تنفتح على الآخرين لتكون جزءا من منظومة حركة و تطور المجتمع في إطار الوعاء الوطني الحاضن لجميع فئات المجتمع.
وإذا كنت تسأل هل نحن اليوم أمام ردة نحو القبيلة على حساب الوطن سأقول لك لا لم يصل الأمر إلى أن يكون ذلك على حساب الوطن، لكننا بكل تأكيد أمام عودة إلى "التقوقع” داخل القبيلة.
وتفجر العصبية القبلية في مجتمعنا المسلم ليس وليد مهرجانات "مزايين” الإبل أو عبث فضائيات الشعر بل هو تجذر قديم يتجاوز عمر الإسلام نفسه، و لنتذكر أنه في بداية عصر النبوة لعبت العصبية القبلية دورا هاما في حماية الدعوة النبوية، حيث تمتع الرسول صلى الله عليه وسلم بحماية عشيرته بني هاشم، بل إن كافرا شديد العداء للدعوة كعمه أبي لهب تغلبت عليه عصبيته القبلية عند موت أبي طالب ليعلن حماية ابن أخيه عليه الصلاة والسلام.
إلا أن الإسلام نجح في خلق بيئة انصهار حصرت الولاء للقبيلة في إطاره الاجتماعي، كما أعاد ترتيب أولويات الولاء عند الأفراد، فبعد أن كان النسيج السياسي في الجزيرة العربية قائما على علاقات القبائل و تحالفاتها كتكتلات مستقلة جاءت الدولة الإسلامية لتشكل الإطار السياسي الذي انصهرت فيه القبيلة سياسيا و إن احتفظت بشخصيتها الاجتماعية.
خياركم في الجاهلية والإسلام
واختتم الدكتور قيس المبارك الباحث الشرعي والأكاديمي هذا التحقيق قائلا :نبَّه الله تعالى على تساوي الناس من حيث الشرف لانتسابهم إلى أصلٍ: واحد وهو آدم، وانتمائهم إلى أسرة واحدة آدم وحواء عليهما السلام.
وهما يعودان إلى مادَّة واحدة وهي الطين كما قال سبحانه(إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ)
وإنما يحصل التفاضل بالتقوى كما قال تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ الناس أكرم ؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا: ليس عن هذا نسألك . قال: فأكرمُ الناس يوسف نبي الله, ابن نبي الله, ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم. قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا)
غير أن الإسلام لم يُلْغِ نظام القرابة، بل أثبته وحضَّ عليه بفرض نظام العائلة الزوجية وتشريع قوانين القرابة من ولاية ومن نفقة ومن فرضٍ لصلة الرحم، وليس لهذا من تفسير إلا أن من مقصود الشريعة انتظام أمر الناس وزيادة التعارف والتآلف والمودَّة على مستوى العائلة الصغيرة أو على مستوى العشيرة كما قال سبحانه (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) فتحصل المعرفة، ويقع التمييز بين إنسان وآخر، فيقال هذا فلان بن فلان، ويترتب على ذلك صلة القرابة وقوَّة الرابطة.
فحفظ النسب داعيةٌ إلى الشفقة والرحمة والأُلفة، والتعاون والاتحاد.
ومن العجيب أن الأنساب في الشريعة لها حرمة تحول دون الطعن فيها، بل عدَّتْهُ الشريعة من عمل الجاهلية، رغم أن ثبوت الأنساب في كثير من الحالات مظنون بسبب قلِّة الضبط عند كثير من الناس، فلا يمكن القطع فيه، وكثيرا ما يقع الاختلاف بين الناس فيه، غير أن فتح باب الطعن فيه داعيةٌ إلى فتنة ونزاع، وترْك الناس مؤتمنين على أنسابهم مدعاة للتآلف والاتحاد الذي هو مقصود شرعي.
وعليه فعلينا أن نأخذ من الرابطة القبلية ما يكون سببا للتوادّ والتراحم لا ما يكون سببا للتفاخر والتناحر، فقد أذهب الله عنا عُبِّيَّة الجاهلية وتفاخرها بالآباء.
بداية تحدث لنا د.جميل اللويحق الداعية والأكاديمي الشرعي المعروف فقال: إن مما جبلت عليه الفطرة الإنسانية الانتماء للقبيلة واعتبار هذا الانتماء تجمعا مؤثرا في أمن المجموعة ككل وفي قيمتها ومواجهتها للنوائب والمصائب. وقد جاء الإسلام مقرا لهذا التكوين القبلي وأيده القرآن كمراد كوني حين قال "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”.
وعندما جاء الإسلام كان العرب في القمة من هذه الناحية فأقر الإسلام ما هم عليه وضبطه بضوابط وحدة بحدود وجعل الإسلام نفسه الآصرة الكبرى التي يجتمع حولها الناس ،فإذا تعارضت مصلحة القبيلة مع مصلحة الإسلام قدمت مصلحة الإسلام وهذا ما فعله الكثير من الصحابة حينما خرج منهم من خرج على قبيلته وحتى على أسرته.
والإسلام في دعوته هذه لم يلغ القبيلة بل إنه أبقى على دورها المهم في حياة الناس ولنا في رسول الله أسوة حسنة فعندما أتى إلى المدينة مهاجرا أبقى التمايز بين الأوس والخزرج وكان في دعوته يستهدف القبائل كقبائل وفي بعض المعارك كانت الرايات تضرب بحسب القبيلة.
وحينما خرجت بعض هذه الممارسات عن هذا السياق نهى عنها وحاربها كما حدث في الفتنة التي اشتعلت بين الأنصار والمهاجرين حينما ظهر من يدعو للردة نحو القبيلة فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن قال " أبدعوى الجاهلية تدعون وأنا بين أظهركم ؟؟ دعوها فإنها منتنة " وقال أيضا " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يدعونها حتى قيام الساعة " وذكر منها الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، وبهذا يبقى التعامل الإسلامي الواقعي لمكون طبيعي في حياة الأفراد ولكن وفق الأهداف الكبرى التي يسعى إليها الإسلام.
وبما أننا في بلد ينتمي للإسلام قولا وفعلا ،وفي بلد تصبغ روح التدين شتى مظاهره فإنني أظن أن ما شهدناه من تجمعات قبلية تلك الأيام هي تجمعات مؤهلة لكي تكون لبنة خير في صالح هذا الوطن ، بل إنني أعدها مظهرا من مظاهر اللحمة والتواصل بين أبناء المجتمع ؛لأن هذه التجمعات لم يصدر منها أي دلالة على التمايز، بل إنني أراها بعيدة عن العنصرية المقيتة لوجود الكثير من العقلاء القائمين على هذه التجمعات التي تبشر بخدمة لأهداف عامة لطالما يسعى الإسلام لتحقيقها..
وأضاف د.اللويحق قائلا: إن المبالغ التي تصرف على هذه التجمعات أراها مبالغ تتناسب وعدد القبيلة الواحدة، هذا إذا ما قارناها بما يصرف على الأندية الرياضية وعلى بعض التجمعات الأخرى لذا وبقليل من التعامل المتوازن مع هذه الظاهرة أتوقع بأن النتيجة لن تكون سلبية نظرا لأن القبيلة يمكن أن نستثمرها في خدمة الأهداف العامة للإسلام..
عودة متقوقعة
واستبعد الكاتب المعروف خالد السليمان ردة المجتمع نحو القبيلة ويرى إن الأمر لا يعدو كونه تقوقعا قبليا يظهر بين حين وأخر حين قال : التكتلات العشائرية و القبلية لم تختف يوما في مجتمعنا لكن التحولات الاجتماعية و التنموية وواقع بناء الدولة الحديثة فرض على هذه التكتلات أن تخرج من "قوقعة” القبيلة و تنفتح على الآخرين لتكون جزءا من منظومة حركة و تطور المجتمع في إطار الوعاء الوطني الحاضن لجميع فئات المجتمع.
وإذا كنت تسأل هل نحن اليوم أمام ردة نحو القبيلة على حساب الوطن سأقول لك لا لم يصل الأمر إلى أن يكون ذلك على حساب الوطن، لكننا بكل تأكيد أمام عودة إلى "التقوقع” داخل القبيلة.
وتفجر العصبية القبلية في مجتمعنا المسلم ليس وليد مهرجانات "مزايين” الإبل أو عبث فضائيات الشعر بل هو تجذر قديم يتجاوز عمر الإسلام نفسه، و لنتذكر أنه في بداية عصر النبوة لعبت العصبية القبلية دورا هاما في حماية الدعوة النبوية، حيث تمتع الرسول صلى الله عليه وسلم بحماية عشيرته بني هاشم، بل إن كافرا شديد العداء للدعوة كعمه أبي لهب تغلبت عليه عصبيته القبلية عند موت أبي طالب ليعلن حماية ابن أخيه عليه الصلاة والسلام.
إلا أن الإسلام نجح في خلق بيئة انصهار حصرت الولاء للقبيلة في إطاره الاجتماعي، كما أعاد ترتيب أولويات الولاء عند الأفراد، فبعد أن كان النسيج السياسي في الجزيرة العربية قائما على علاقات القبائل و تحالفاتها كتكتلات مستقلة جاءت الدولة الإسلامية لتشكل الإطار السياسي الذي انصهرت فيه القبيلة سياسيا و إن احتفظت بشخصيتها الاجتماعية.
خياركم في الجاهلية والإسلام
واختتم الدكتور قيس المبارك الباحث الشرعي والأكاديمي هذا التحقيق قائلا :نبَّه الله تعالى على تساوي الناس من حيث الشرف لانتسابهم إلى أصلٍ: واحد وهو آدم، وانتمائهم إلى أسرة واحدة آدم وحواء عليهما السلام.
وهما يعودان إلى مادَّة واحدة وهي الطين كما قال سبحانه(إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ)
وإنما يحصل التفاضل بالتقوى كما قال تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ الناس أكرم ؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا: ليس عن هذا نسألك . قال: فأكرمُ الناس يوسف نبي الله, ابن نبي الله, ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم. قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا)
غير أن الإسلام لم يُلْغِ نظام القرابة، بل أثبته وحضَّ عليه بفرض نظام العائلة الزوجية وتشريع قوانين القرابة من ولاية ومن نفقة ومن فرضٍ لصلة الرحم، وليس لهذا من تفسير إلا أن من مقصود الشريعة انتظام أمر الناس وزيادة التعارف والتآلف والمودَّة على مستوى العائلة الصغيرة أو على مستوى العشيرة كما قال سبحانه (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) فتحصل المعرفة، ويقع التمييز بين إنسان وآخر، فيقال هذا فلان بن فلان، ويترتب على ذلك صلة القرابة وقوَّة الرابطة.
فحفظ النسب داعيةٌ إلى الشفقة والرحمة والأُلفة، والتعاون والاتحاد.
ومن العجيب أن الأنساب في الشريعة لها حرمة تحول دون الطعن فيها، بل عدَّتْهُ الشريعة من عمل الجاهلية، رغم أن ثبوت الأنساب في كثير من الحالات مظنون بسبب قلِّة الضبط عند كثير من الناس، فلا يمكن القطع فيه، وكثيرا ما يقع الاختلاف بين الناس فيه، غير أن فتح باب الطعن فيه داعيةٌ إلى فتنة ونزاع، وترْك الناس مؤتمنين على أنسابهم مدعاة للتآلف والاتحاد الذي هو مقصود شرعي.
وعليه فعلينا أن نأخذ من الرابطة القبلية ما يكون سببا للتوادّ والتراحم لا ما يكون سببا للتفاخر والتناحر، فقد أذهب الله عنا عُبِّيَّة الجاهلية وتفاخرها بالآباء.