يحكي لي الدكتور معكرش.. طبعا.. يكمل حكايته السابقة.. وأظن أن حكايته اليوم هي الأصل.. وحكايته السابقة هي مجرّد مقدّمة.. يقول:
يا بو هايس.. في أحد الأيام كنت في المطار.. أخذت كرت صعود الطائرة.. البوردنق.. ودخلت الصالة الداخلية.. وجلست عند مدخل صعود الطائرة.. أخذت قهوة وجلست أقرأ في جريدة.. على طاولة.. لوحدي.. والركاب حولي.. ناس مختلفين.. كبار وصغار.. نساء وأطفال ورجل.. وأنا جالس جاء رجل نحيف وقصير.. لحيته حمراء خفيفة.. يضع بشته على يده.. يحمل حقيبة.. لفت انتباهي ولكني تشاغلت عنه في قراءة الجريدة.. يمشي هناك ثم يرجع هنا.. عندي.. يقف.. يلتفت يمين وشمال.. ثم يروح هناك يمشي ثم يرجع هنا.. عندي كأنه يبحث عن أحد.. في النهاية قال لي «مسّاك الله بالخير يا رجل».. قلت «مسّاك الله بالخير .. قال «عندك أحد؟ ودّي أجلس عندك...».. قلت «تفضّل.. يا أهلا وسهلا».. جلس.. ابتسم وهو يقول «إنت مسافر إلى ديرتنا؟ «قلت ايه».. صار يتلفّت يمين وشمال.. يطالع في الناس.. قال لي «وهالناس كلّهم مسافرين إلى ديرتنا؟»... قلت «ايه.. كل اللي عند بوابة ثلاثين.. هم مسافرين الى ديرتنا».. ثم سألني وهو يمد رأسه فوق الطاولة «وش اسم ديرتك؟ «.. فضحكت وقلت «هي اللي انت رايح لها.. حسب ظني».. وأخذت تذكرته لأتأكد.. لأني ما أعرفه.. فلقيت أننا.. أنا وهو.. مسافرين إلى نفس المكان.. وقف وقال لي «ودّي أجيب لي شاهي.. أجيب لك معي شاهي؟ أو قهوة؟ أو عصير؟».. قلت «الله يسلّمك.. معي قهوة.. لكن إنت اجلس وأنا أروح أجيب لك...» فوقفت.. مسكني.. ومسكته.. هو يحلف بالله إني أجلس.. وأنا أحلف بالله إنه هو يجلس..
جلس يحرّك الملعقة في كوب الشاهي.. ويرفع رأسه يطالع في سقف صالة المطار..قال وهو رافع رأسه في السقف «تذكرت سقف مجلسنا القديم.. كان سقفه عالي ومرتفع.. من زمان «.. ثم طالع فيني وقال «ما عرفناك يا ولدي «.. قلت «معكرش».. قال «وين تشتغل يا ولدي؟».. قلت «في الجامعة.. دكتور».. فقال «ما شالله دكتور.. من هو أبوك؟».. قلت «مصباح اليوسف».. فصفق بيديه.. ووقف كأنه مقروص.. وثنى ظهره.. وصفق بيديه للمرة الخامسة وقال «مصباح.. أبوك؟.. إنت ولد مصباح؟.. ما شالله».. ثم جلس وأكمل كلامه «مصباح.. مصباح.. أريتك شلونه؟ عساه طيّب؟ «.. قلت «أبشّرك طيّب.. الحمد لله.. أجل إنت تعرفه؟ «.. صفق بيديه.. و وقف ثانية وصفق بيديه وهو يقول «شلون ما أعرفه.. أعرفه ونص.. سنين.. سنين مرّت.. أنا اشتغلت عند جدّك.. الله يرحمه.. ثمان سنين.. وأنا صغير».. ثم أكمل كلامه «من هم خوالك؟».. قلت «الغرانيق.. جدّي برجس».. وقف وهو يصفق بيديه «جدّك برجس؟.. برجس.. برجس الغرانيق.. أيا حبيبي».. ثم سألني «من هي أمّك؟ أي بنات برجس؟».. قلت «النشميّة».. صفق بيديه ووقف وجلس يتلوّى ويتثنّى وهو يقول «النشميّة؟.. النشميّة.. أطيب بنات برجس.. وبناته كلّهن طيبات».. قال «جدّتك لطيفة؟».. قلت «ايه».. فصفق بيديه.. وقبل ما يقوم مسكته وقلت «اجلس يا خالي.. كل ما قلت لك حاجة جلست تصفّق وتاقف.. حنّا في العرضة أو السامري؟.. الناس اللي حولنا هالحين يحسبوني أغنّي لك.. ولا تسألني يا خالي.. أرسل لك دفتر العائلة وشجرة العائلة إذا وصلنا الديرة».. قال وهو يهز رأسه.. ودّه يقوم ويصفق «ماشالله.. ماشالله.. أيا حبيبيني.. وعساك متزوّج؟».. قلت في نفسي الرجل مصمم يصفّق ويتثّنى وهو واقف.. أجبته «الحمدلله..وعندي ولد وبنت.. سعد وسعدى» غيّر طريقة جلسته.. كأنه يستعد للوقوف وهو يسألني «ومن هم خوالهم.. الله يخلّيهم ويحفظهم لك؟».. أعلنت الخطوط عن رحلتنا.. فقلت له «يالله.. مشينا.. هاذي رحلتنا يا خال »..
ركبت الطائرة.. أعطاني حقيبته وبشته وراح هو للحمّام.. قلت له « لا تتأخر».. جلست في مقعدي.. جلس جميع الركاب في أماكنهم.. ورأيته يمشي خلف المضيف ويناقشه بحرارة.. جاء عندي وقال وهو زعلان «ما لي كرسي.. أعطوا الكرسي حقي واحد ثاني.. وأنا معي التذكرة وكل حاجة» .. اجتمع ثلاثة من المضيفين.. وجاءوا عندنا.. هو ما زال واقف.. شرحوا لنا المشكلة.. فيه مريض مسكين جاء متأخر.. هاذي هي المشكلة.. قلت له أمزح «خلّيك واقف إنت تحب الوقوف».. كلّموا الكبتن.. بعد مفاوضات اقتنعوا برأيي.. لأني قلت لهم «أعتقد أنه صعب تنزلون راكب من الطائرة حجزه أوكي.. هاذا مشكلتكم إنتم.. لكن أنا عندي لكم حلّ.. يجلس في حضني.. أنا أتحمله «.. وافق هو أولا.. هم كمان وافقوا.. لأنه حلّ وسط.. جلس وربطنا الحزام.. حزام واحد له ولي.. طبعا هو انسان خفيف الوزن.. وكريشته معقولة.. أنا أصلا ما كنت أظن له كرش.. لكن لمّا بديت أربط الحزام عرفت أن ظني غير صحيح تماما.. أقلعنا.. قال لي «عسى ما ضايقتك يا بو سعد؟».. قلت «لا.. أبدا بس إنت لا تكثر من التلفّت والحركة.. اسكن».. قال لي «تقول لي يا بوسعد من هم خوال عيالك؟ تراك ما قلت لي».. قلت له «المحيسن.. لكن لا تصفق بيديك».. قال «فرحان؟.. جدّ عيالك فرحان؟ «قلت ايه».. أراد أن يقف لكن الحزام ماسكه.. قال «أيا حبيبي.. ما تفك الحزام.. أو ترخيه يا بعد روحي يا بو سعد؟» .. قلت «ما فيه وقوف.. والله ما أفكّه إلا في المطار.. اتركنا من الأسئلة.. كل الركاب يسمعون كلامك».. قال بنبرة حزينة «خير ان شاء الله»..
نزلنا في المطار ومضى في سبيله وأنا مضيت في سبيلي.. وكانت هاذه الرحلة بداية تعارف.. وبدأ يزورنا.. وبدأ يختلط بجماعتي.. في كل الإجازات يسأل عني ويأتي.. يسأل والدي.. مثلا.. أو أحد جماعتي «ما جا الدكتور؟».. بعد سنة أو أكثر شوي.. كنا في إجازة جاني وقال لي «والله يا دكتور نحتاج لفزعتك.. ولدي حمود ودّه يسجّل في الجامعة.. محتاجين مساعدتك».. قلت «أبشر.. من عيوني.. إذا بدأت الدراسة يجيني في الجامعة أو في البيت».. جاني في الجامعة.. ومعه ولده حمود.. أخذت أوراقه ورحت لعمادة القبول والتسجيل.. حاولت.. وحاولت.. وحاولت ما قدرت قال لي المسؤول في التسجيل «يا دكتور معكرش.. أنت زميل لنا.. وخدمتك واجبة علينا.. لكن الطالب هاذا درجاته ضعيفة.. صعب.. صعب جدا عندنا طلاب أحسن من درجاته بكثييييييير ولا قبلناهم.. مع إنهم جايبين واسطات.. اعذرنا يا دكتور».. طبعا أنا استحيت وقلت له «معذور.. وأنا.. يا دكتور هلش..مقدّر وعارف الضغط عليكم».. تركته ورحت لصاحبي شايب الهاص وولده.. قلت «والله.. مستحيلة.. جايتهم تعليمات صارمة (طبعا أكذب).. تصدق إنهم ما قبلوا ولد مدير الجامعة (هاذي كمان كذبة) لا.. ويقول المسؤول... «.. فاعترضني شايب الهاص «لا تقول.. والله مصدقينك.. خيرة ان شاء الله».. راحوا من عندي.. بعد يومين جاني ومعه ولده وقال «أبشرك سجّلنا الولد.. هنا عندكم.. مع السلامة «.. وقبل ما يروح.. صفقت بيدي أنا و وقفت وقلت «سجّلته؟ سجّلته عندنا؟ قال «ايه عندكم.. وسلّم لي على التعليمات الصارمة «.. راح وعيوني تدمع من الفشيلة.. هاذي عمادة قبول وتسجيل.. يا بو هايس؟.. راح وجلس يحكي بي عند جماعتي.. يقول لهم «معكرش ما عنده سالفة.. مسيكين.. ولا له قيمة عندهم» .. وشغّل حملة دعاية ضدي.. حتى إني هالحين يا بو هايس إذا رحت ما ألقى الحفاوة القديمة.. وصاروا ما يهتمون بي.. لعنبو بليسه يا كبر دعايته.. ولا يملّ.. شفته مرّة في زواج.. قال لي بصوت عالي «إذا تحتاج مساعدة يا معكرش في الجامعة قل لي... «.. عشان كذا.. يا بو هايس سميته شايب الهاص.. لأني أتشاءم من شايب الهاص.. دايما أخسر في البلوت إذا جاني شايب الهاص.. حتى لو معي أربع إكك وخمسين.. دايما تنتهي اللعبة بكاشو.. صب لي شاهي يا بو هايس..

afahead@hotmail.com