تحويل رواية «الخبز الحافي»، للكاتب المغربي محمد شكري، إلى فيلم سينمائي مجازفة تكتنفها المغامرة والتحدي . فهي ليس من أدب السيرة في قالبه التقليدي، وليست أيضاً من أدب كسر التابوهات في شكله الاستعراضي أو الذهني الفارغ .. بل هي تنتمي الى الأدب الفضائحي الكاشف والناخر كسوس في لب الحياة الحقيقية التي عاشها الكاتب، بكل قسوتها التي تبدأ بمساس الروحي والعقدي ولا تنتهي بالمادي والجنسي .. كتبها محمد شكري كجزء أول من سيرة حياته الذاتية في 1972 ولم تنشر الا في 1982، وتلتها رواية "زمن الأخطاء" كجزء ثان ثم "وجوه" جزءا ثالث. وكان محمد شكري قد صرح أن فكرة كتابة سيرته الذاتية كانت بدافع من صديقه الكاتب الأمريكي بول بولز المقيم في طنجة وقد باعه إياها مشافهة قبل أن يشرع فعلا في تدوينها ، وبعدما نشرها أثار هذا الجزء "الخبز الحافي" ضجة ومنع في معظم الدول العربية إذ اعتبره منتقدوه جريئا بشكل لا يوافق تقاليد المجتمعات العربية. المخرج الجزائري رشيد ابن حاج، تصدى لإخراج فيلم عن رواية «الخبز الحافي»، وهو يرى أن حياة الأديب محمد شكري فيها من الإثارة ما يجعلها مؤهلة لأن تتحول إلى عمل درامي متكامل. الأمر الثاني الذي يحمل إثارة لا يمكن تجاهلها، يتمثل في حياة هذا الأديب المغربي الذي تعلم القراءة والكتابة في العشرين من عمره، وإنه كاد يقدم على قتل أبيه بالفعل، وليس كما يوحي الفيلم، لفرط قسوة أبيه وشخصيته الفظة ، ومعاملته غير الإنسانية لزوجته (أم محمد شكري) ، التي كانت تلعب دور الأم والأب في مواجهة قسوة الواقع، وعلى الرغم من هذا لم يعترف لها الأب بالجميل، وأمعن في التنكيل بها، وبولديه محمد وعبد القادر، إلى ان انتهى به الأمر إلى قتل «عبد القادر» . . مات الطفل المسكين ومن لحظتها لم يغفر محمد شكر فعلة أبيه الشنعاء. واقعة كهذه، جعلت شكري يكتب «الخبز الحافي»، ودفعت بن حاج للتشبث بإخراج الفيلم وترجمته إلى الإنجليزية Alone Bread، وإن لم يستطع لظروف كثيرة تتعلق بالإيجاز السينمائي والتكثيف، اللذين تتطلبهما عملية الخلق السينمائي، وأن يظل مخلصا لكل وقائع الرواية والسيرة الذاتية لكاتبها ، فاستغنى عن بعضها، وأسقط البعض الآخر، لكنه لم يبتعد كثيرا عن روح الرواية . اختار المخرج رشيد بن حاج، الممثل المغربي المهاجر سعيد طغماوي، لتجسيد دور «محمد» في فترة شبابه، واستثمر بذكاء إطلالة أخيرة لشكري نفسه، قبل رحيله عام 2003، ظهر فيها عند مقبرة شقيقه عبد القادر، ونجح في إضافتها للفيلم، كآخر مشاهده، ثم تنزل العناوين ليحقق بهذا مكسبا مزدوجا للفيلم، حيث أضاف بعدا معنويا مهما ، كما أضفى مصداقية غير محدودة على أحداث الفيلم الذي تحول إلى ما يشبه الوثيقة.
الأمل المستحيل
في «الخبز الحافي»، الفيلم ، يتحدث رشيد بن حاج عن بلد ـ المغرب ـ لا ينتهك الاحتلال ـ الفرنسي والاسباني ـ حرمته بل يغتال الفقر أهله، فيصبح «الخبز الحافي» الأمل المستحيل، بينما هناك طبقات المجتمع المتعاونة مع العدو أو أبناء المحتل أنفسهم، مَن ينعم برغد العيش والحياة الارستقراطية ولا تمنعهم حياة البؤس والشقاء التي يعيشها أبناء البلد المحتل من المشاركة في حفلات الرقص والخمر.وفي اختيار «ابن حاج» جرأة لا يمكن مطلقا التشكيك فيها، خصوصا أنه تصدى لكتابة السيناريو أيضا وانتقى لنفسه القيام بدور المناضل "مرواني"، الذي كان له فضل النقلة الثقافية التي اجتاحت محمد شكري في المعتقل، وفي الفيلم الذي تقع أحداثه في 97 دقيقة تجاوز المخرج / كاتب السيناريو كل المحاذير ، ابتداء من آثار الجدل الفكري والديني حول ما إذا كان الفقر والجوع الشديد يبرران التهام «جيفة» ـ دجاجة ميتة، فالأم تدرك ان ابنها يتضور جوعا ويتقطع قلبها لحاله البائس، لكنها لا ترى هذا مبررا للخروج عن تعاليم الدين وتمنعه من التهام «الجيفة»، مما يثير دهشة الطفل الجاهل الغرير، مثلما يثير دهشته إصرارها على البحث عن مكان القبلة لتتوجه إليها بالدجاجة الأخرى الحية التي تشرع في ذبحها، وفي سياق هذا الفقر المدقع تلتقط الكاميرا بعدسة حانية، ومتعاطفة مشهد «محمد» وهو ينبطح على وجهه على الأرض ليسرع بالتهام اللبن المسكوب عقب أن انكسرت الزجاجة التي كانت تحملها سائحة أجنبية، ولم يأبه بشظايا الزجاج المكسور التي تسللت إلى جوفه، وهو يلحس قطرات اللبن من الأرض، .. وهنا تبرز ادانتة صارخة للفقر والدوافع التي تجبر المرء على فعل كهذا ، ويكرس ابن حاج الإدانة في مشهد بحث الطفل في صناديق القمامة عن لقمة عيش يسد بها جوعه. لا يفوت المخرج لحظة التحول في حياة بطل كاتب «الخبز الحافي»، وتقديم هذه اللحظة ببلاغة سينمائية عندما يقدمه "شابا ناضجا" خارجا لتوه من بيت سيء السمعة ليصطدم بمظاهرات عام 1954، المطالبة بخروج المحتل وتنصيب محمد الخامس ملكا للبلاد، وتصبح المظاهرات سببا في حالة «التنوير» التي اجتاحت «محمد»، فيتأمل ما يجري في المظاهرات، وتعتريه الدهشة عندما يبدأ رجال الأمن في قمعها بوحشية ، وفي هروبه التقى "قابيل" وأصحابه من المهربين، وأتاحت له صحبة "قابيل" التعرف إلى الوجه الآخر لقهر المرأة في المغرب وكأنه مشهد مواز للقهر الذي طالما عانت أمه قسوته، فهناك المرأة التي قهرها "قابيل" وقص شعرها، بعد ان ضربها بوحشية، لكي لا تغادر بيته، ويتعاطف «محمد» مع المرأة، وفي الخلفية منهما ملصق فيلم «يحيا الحب»، ترصعه صورتا محمد عبد الوهاب وليلى مراد، وفي هذه اللقطة المحمومة بالعاطفة ، تصبح إطلالة «محمد» على البحر فرصة لأن يبث أشواقه للسفر وعشقه للبحر ونزوعه للترحال والحرية. وهكذا لا يستهلك المخرج رشيد بن حاج نفسه في النقل الحرفي للفكر الغزير، الذي امتلأت به الرواية، إنما يترجم السيرة الذاتية للأديب عبر لغة سينمائية متقنة وظف فيها الإضاءة لتضفي قيودا على المعتقلين والفقراء والمعدمين، ولهذا لم يستسلم لإغواء العناصر التي تخلق إثارة مفتعلة، ولم يتلاعب بالمشاعر، سواء مشاعر شخوص فيلمه أو مشاعر جمهوره، ولم يتردد في مجابهة المحظورات الثلاثة:الجنس، الدين،والسياسة..وكشف العورة بجرأة دون ابتذال.
الأمل المستحيل
في «الخبز الحافي»، الفيلم ، يتحدث رشيد بن حاج عن بلد ـ المغرب ـ لا ينتهك الاحتلال ـ الفرنسي والاسباني ـ حرمته بل يغتال الفقر أهله، فيصبح «الخبز الحافي» الأمل المستحيل، بينما هناك طبقات المجتمع المتعاونة مع العدو أو أبناء المحتل أنفسهم، مَن ينعم برغد العيش والحياة الارستقراطية ولا تمنعهم حياة البؤس والشقاء التي يعيشها أبناء البلد المحتل من المشاركة في حفلات الرقص والخمر.وفي اختيار «ابن حاج» جرأة لا يمكن مطلقا التشكيك فيها، خصوصا أنه تصدى لكتابة السيناريو أيضا وانتقى لنفسه القيام بدور المناضل "مرواني"، الذي كان له فضل النقلة الثقافية التي اجتاحت محمد شكري في المعتقل، وفي الفيلم الذي تقع أحداثه في 97 دقيقة تجاوز المخرج / كاتب السيناريو كل المحاذير ، ابتداء من آثار الجدل الفكري والديني حول ما إذا كان الفقر والجوع الشديد يبرران التهام «جيفة» ـ دجاجة ميتة، فالأم تدرك ان ابنها يتضور جوعا ويتقطع قلبها لحاله البائس، لكنها لا ترى هذا مبررا للخروج عن تعاليم الدين وتمنعه من التهام «الجيفة»، مما يثير دهشة الطفل الجاهل الغرير، مثلما يثير دهشته إصرارها على البحث عن مكان القبلة لتتوجه إليها بالدجاجة الأخرى الحية التي تشرع في ذبحها، وفي سياق هذا الفقر المدقع تلتقط الكاميرا بعدسة حانية، ومتعاطفة مشهد «محمد» وهو ينبطح على وجهه على الأرض ليسرع بالتهام اللبن المسكوب عقب أن انكسرت الزجاجة التي كانت تحملها سائحة أجنبية، ولم يأبه بشظايا الزجاج المكسور التي تسللت إلى جوفه، وهو يلحس قطرات اللبن من الأرض، .. وهنا تبرز ادانتة صارخة للفقر والدوافع التي تجبر المرء على فعل كهذا ، ويكرس ابن حاج الإدانة في مشهد بحث الطفل في صناديق القمامة عن لقمة عيش يسد بها جوعه. لا يفوت المخرج لحظة التحول في حياة بطل كاتب «الخبز الحافي»، وتقديم هذه اللحظة ببلاغة سينمائية عندما يقدمه "شابا ناضجا" خارجا لتوه من بيت سيء السمعة ليصطدم بمظاهرات عام 1954، المطالبة بخروج المحتل وتنصيب محمد الخامس ملكا للبلاد، وتصبح المظاهرات سببا في حالة «التنوير» التي اجتاحت «محمد»، فيتأمل ما يجري في المظاهرات، وتعتريه الدهشة عندما يبدأ رجال الأمن في قمعها بوحشية ، وفي هروبه التقى "قابيل" وأصحابه من المهربين، وأتاحت له صحبة "قابيل" التعرف إلى الوجه الآخر لقهر المرأة في المغرب وكأنه مشهد مواز للقهر الذي طالما عانت أمه قسوته، فهناك المرأة التي قهرها "قابيل" وقص شعرها، بعد ان ضربها بوحشية، لكي لا تغادر بيته، ويتعاطف «محمد» مع المرأة، وفي الخلفية منهما ملصق فيلم «يحيا الحب»، ترصعه صورتا محمد عبد الوهاب وليلى مراد، وفي هذه اللقطة المحمومة بالعاطفة ، تصبح إطلالة «محمد» على البحر فرصة لأن يبث أشواقه للسفر وعشقه للبحر ونزوعه للترحال والحرية. وهكذا لا يستهلك المخرج رشيد بن حاج نفسه في النقل الحرفي للفكر الغزير، الذي امتلأت به الرواية، إنما يترجم السيرة الذاتية للأديب عبر لغة سينمائية متقنة وظف فيها الإضاءة لتضفي قيودا على المعتقلين والفقراء والمعدمين، ولهذا لم يستسلم لإغواء العناصر التي تخلق إثارة مفتعلة، ولم يتلاعب بالمشاعر، سواء مشاعر شخوص فيلمه أو مشاعر جمهوره، ولم يتردد في مجابهة المحظورات الثلاثة:الجنس، الدين،والسياسة..وكشف العورة بجرأة دون ابتذال.