إن أطروحة محمد أركون حول النزعة الإنسانية تقوم على أمرين أساسين ومترابطين، هما:
الأمر الأول: البرهنة على وجود نزعة إنسانية عرفها الفكر العربي والإسلامي في القرن الرابع الهجري ـ العاشر الميلادي، نشأت بعد استلهام التراث الفلسفي الإغريقي، فدراسة الأدبيات الفلسفية للقرن الرابع الهجري، تتيح لنا كما يقول أركون أن نتأكد من وجود نزعة فكرية متركزة حول الإنسان في المجال العربي والإسلامي، وهذا ما يدعوه أركون بالأنسنة العربية، بمعنى أنه وجد في ذلك العصر السحيق تيار فكري يهتم بالإنسان، وليس فقط بالله، وكل تيار يتمحور حول الإنسان وهمومه ومشاكله حسب رأي أركون، يعتبر تياراً إنسياً أو عقلانياً. هذا الرأي هو بخلاف ما هو شائع وثابت عند المستشرقين الأوروبيين الذين لم يكونوا يعتقدون بوجود نزعة إنسانية إلا في عصر النهضة، وفي الحضارة الأوروبية بالذات، وبالتالي فإن النزعة الإنسانية هي شأن وامتياز أوروبي، ينبغي أن يسجل عليه صنع في أوروبا. وإلى سنوات الخمسينات والستينات من القرن العشرين ظل بعض المستشرقين، مثل الفرنسي غوستاف فون غروبناوم، كما يقول أركون يحتج على تطبيق مفهوم النزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي، باعتبار أن هذا المفهوم مرتبط بانبثاق الحداثة في أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ولا علاقة له بعالم الإسلام. في حين يرى أركون أن النزعة الإنسانية ظهرت في الحضارة العربية الإسلامية، قبل أن تظهر في الحضارة الأوروبية بعدة قرون.
أسباب النسيان والضمور
الأمر الثاني: تحليل الأسباب الفكرية والتاريخية التي أدت إلى نسيان أو ضمور واضمحلال النزعة الإنسانية في الفكر العربي والإسلامي في القرن الخامس الهجري ـ الحادي عشر الميلادي، بعد مجئ السلاجقة، وبالتالي البحث عن كيف ماتت واضمحلت النزعة الإنسانية في الفكر العربي والإسلامي خلال فترة قصيرة، وكيف استمرت وتنامت في الفكر الأوروبي منذ عصر النهضة وإلى اليوم؟.
ولهذا يرى أركون أن المهمة الملقاة على عاتق المؤرخ أو المفكر، اليوم هي تبيان كيفية ضمور تلك النزعة الإنسانية الواعدة.
والغاية من هذه الأطروحة في نظر أركون هي البحث عن ما هو السبيل إلى بعث الأنسنة من جديد في المجال العربي والإسلامي؟ وكيف يمكن وصل ما انقطع واستلهامه مجدداً لكي يبنى عليه نهضة جديدة؟
هذا ما يريد أركون أن يسجله لنفسه، منذ أن التفت متأخراً إلى المجال العربي والإسلامي، بعد أن كان غائباً ولزمن طويل عن هذا المجال، ولعله برغبته وإرادته، فجميع مؤلفاته كتبت بالفرنسية، ونقلت إلى العربية مترجمة، مع أنه يحمل شهادة ليسانس حصل عليها من قسم اللغة العربية، كلية الآداب بالجامعة الجزائرية في خمسينات القرن العشرين.
فتح جديد
فقد أراد أركون من هذا الحديث المكثف والواسع عن الأنسنة، أن يقدم حسب تصوره فتحاً عظيماً وجديداً للفكر العربي والإسلامي، يذكره ويصله بعصر الإبداع والتجدد الفكري والفلسفي في القرن الرابع الهجري من جهة، ويذكره ويصله من جهة أخرى بعصر الحداثة الظافرة في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر. وهاتان هما القطيعتان الفكريتان، اللتان يدعو أركون لتجاوزهما من أجل الولوج في عالم الحداثة، والسير في ركب المدنية.
كما أراد أركون أن يقدم نفسه بصفته المفكر الذي يخوض المعارك الفكرية من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، ولعله ينظر لنفسه كذلك على أنه المفكر الوحيد الذي جعل من قضية الأنسنة جبهته التي يخوض فيها معاركه الفكرية، وباعتباره المفكر الذي فتح على الفكر العربي والإسلامي الاهتمام بقضية الأنسنة، وتطوير المعرفة بها، والانخراط في معاركها.
ولهذه المهمة يقصد أركون كما يقول أن يستعمل مصطلحاً جديداً وغريباً، وغير مستخدم في السابق من قبل أحد، وهو مصطلح الأنسنة الذي أدهش الجمهور العربي حسب قوله أو الناطق بالعربية، وربما أربكه. وظل أركون يشير إلى هذه الملاحظة بشكل ملفت عدة مرات، وفي كل مرة يشير إلى جانب مختلف عن الآخر، ولا أدري هل هو بقصد منه، أم هو نوع من الإرباك. فمرة يقول (لقد اقترحت مصطلح الأنسنة لكي ألفت الانتباه إلى تلك الأبعاد الغائبة بعد ازدهارها في عهد الأدب والأدباء، ثم لكي أدعو بإلحاح إلى ضرورة إحياء الموقف الفلسفي في الفكر العربي خاصة، والفكر الإسلامي عامة).
ومرة ثانية يقول (وأنا عندما اعتمدت مصطلحاً غريباً وجديداً كالأنسنة، فإني أردت لفت الانتباه إلى ضرورة إعادة التفكير في النزعة الإنسانية الدينية المشتقة من الإنتروبولوجيا الروحانية القرآنية، كما أردت في الوقت ذاته إعادة التفكير بالنزعة الإنسانية الفلسفية أو المستلهمة من قبل الفلسفة).
مفهوم الانسنة
وفي مرة ثالثة يقول (عندما ترجم كتابي مؤخراً إلى اللغة العربية ـ نزعة الأنسنة في الفكر العربي ـ اضطررت إلى اشتقاق مصطلح جديد هو الأنسنة، كمقابل للمصطلح الفرنسي Humanisme، وكنت آمل من وراء ذلك تشجيع الجمهور العربي أو الناطق بالعربية على فتح مناقشة حول ترجمة مفهوم مفعم بالمضامين القديمة والغنية لهذا المفهوم).
ومرة رابعة حين توقف مترجمه هاشم صالح أمام مصطلح الأنسنة، شارحاً تفضيل أركون لهذا المصطلح، وتعليل إصراره عليه، بقوله (محمد أركون اخترع مصطلح الأنسنة، كتعريب للمصطلح الأوروبي هيومانيزم ـ Humanisme ـ وكنت أنا شخصياً قد اقترحت ترجمتين هما: النزعة الإنسانية، والفلسفة الإنسانية. ويصر أركون على الفرق بين الأنسنة والنزعة الإنسانية، لأن الأولى تركز النظر في الاجتهادات الفكرية لتعقل الوضع البشري وفتح آفاق جديدة لمعنى المساعي البشرية لإنتاج التاريخ، مع الوعي أن التاريخ صراع مستمر بين قوى الشر والعنف وقوى السلم والخير والجمال والمعرفة المنقذة من الضلال).
والحقيقة اننا لسنا أمام مشكلة مصطلح بحاجة إلى من يخترعه لنا، أو يلفت نظرنا إليه بقوة أو غرابة، كما صور ذلك أركون، وإنما المشكلة في توليد هذه النزعة الإنسانية من داخل منظومتنا الفكرية، وفي بنائها وتحققها وممارستها الفعلية في بيئتنا الاجتماعية، ويظهر على أركون أنه مسكون بهاجس اختراع المصطلحات والتسميات الجديدة والغريبة، التي تتكاثر في مؤلفاته، وبحاجة إلى من يشرحها ويعرف بها، وهذا ما يقوم به معرب مؤلفاته وشارحها هاشم صالح.
اضمحلال النزعة الانسانية
ويربط أركون وآخرين أيضاً النزعة الإنسانية بازدهار النزعة العقلانية، فلا نزعة إنسانية حسب رأيهم بدون فلسفة أو فكر فلسفي يغذيها ويدعمها، وهذا ما يفسر عند أركون انبعاث واضمحلال النزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي، فانبعاثها في القرن الرابع الهجري كان نتيجة استلهام التراث العقلي والفلسفي الإغريقي، واضمحلالها في القرن الخامس كان نتيجة تراجع التراث العقلي وموت الفلسفة في السياقات العربية والإسلامية. وأما الفكر اللاهوتي أو الديني كما يقول هاشم صالح معلقا على كلام أركون في الهامش، لا يكفي وحده لضمان الأنسنة أو النزعة الإنسانية.
ومن هؤلاء الآخرون الذي أقصدهم، هشام جعيط الذي يرى أن مفهوم النزعة الإنسانية في المجال الأوروبي تطور بتأثير العقلانية التي قلبت القيم القديمة في داخل الفكر الأوروبي، لهذا يعتقد جعيط أن هناك التحاماً بين النزعة الإنسانية والنزعة العقلانية في مظاهرها المتعددة والمتشعبة.
أما حينما يقيم أركون إلى أين وصلت محاولته في ترسيخ وتدعيم منحى الأنسنة في المجال العربي والإسلامي، وقياس مستويات التقدم في هذا الشأن، فإنه يرى أن كتابه: (نزعة الأنسنة في الفكر العربي) الذي صدرت ترجمته العربية عام 1997م، لم يلحظ حتى فترة صدور كتابه الثاني: (معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية) عام 2001م، ولم يحظ حسب رأيه بأي اهتمام، مثله في ذلك مثل بقية المنشورات ذات الأبعاد العلمية والفكرية. وهذا ما يعطينا في نظره فكرة بليغة عن ظروف ممارسة الفكر والبحث في السياقات الإسلامية، ومدى تدهورها وانغلاقيتها.
ورجع أركون مرة ثانية لمثل هذا الانطباع، واعتبر أن نفس الكتاب السالف الذكر لم يقرأ إلا قليلاً، والمناقشة المأمولة لم تحصل. وهذا دليل عنده كما يقول بين أدلة أخرى عديدة، على ما كان قد دعاه منذ زمن طويل بالمستحيل التفكير فيه، واللامفكر فيه، المتراكمين داخل الفكر الإسلامي منذ القرن الثالث عشر.
تشاؤم اركون
وأما شارحه هاشم صالح فله تقدير آخر، حيث يرى أن أركون يتشاءم (أكثر مما ينبغي وينسى أن فكره أصبح أحد التيارات الأساسية في الساحة الثقافية العربية. أقول ذلك على الرغم من أن ترجمته لم تكتمل بعد، بل لا تزال في بدايتها بعد عشرين سنة من العمل المتواصل. أو قل وصلت إلى منتصفها لكي نكون أكثر دقة. والواقع أن فكره صعب ولا يمكن فهمه إلا بعد الإطلاع على التراث الإسلامي نفسه، وتراث الحداثة الأوروبية، وكيفية تطبيق المناهج والمصطلحات الحديثة على التراث الديني، وهذه أشياء ليست متيسرة لجميع الناس، بل وليست متيسرة حتى لأساتذة الجامعات في بعض الأحيان، فما بالك بالقارئ العادي؟).