جدد فضيلة الشيخ عبدالله بن سليمان المنيع عضو هيئة كبار العلماء ورئيس مجموعة من الهيئات الشرعية في عدد من المصارف التأكيد على أن التورق المصرفي في السلع المحلية المملوكة للبنك جائز. وقال رداً على بعض أصحاب فتاوى الإنترنت والفضائيات إنه طالما أن السلعة مملوكة للبنك فهذا جائز وأن المفتين بغير ذلك استشكل عليهم الأمر.
* فضيلة الشيخ.. في الآونة الأخيرة كثر عدد المفتين الذين يظهرون في أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والذين يصدرون بعض الفتاوى في مجال المعاملات المصرفية وهي فتاوى في كثير من الأحيان تحدث كثيراً من البلبلة والتشويش خاصة على العامة فعلى سبيل المثال، استقر القول بجواز التورق المصرفي بعد أن أصبح يتم بواسطة السلع المحلية وقد صدرت بذلك الفتاوى من عدد من الهيئات الشرعية ومنكم شخصياً وبالرغم من ذلك نجد بعض الفقهاء الشباب يظهرون على القنوات الفضائية ويقولون بحرمة التورق بالسلع المحلية الذي تجريه بعض البنوك ويحتجون بأن التورق الذي تقوم به البنوك يتم بسلع لا يملكها البنك، فماذا تقولون؟
** من المعلوم أن حكم التورق لدى جمهور أهل العلم هو الجواز، والمقصود بالتورق أن يكون الإنسان محتاجاً إلى مبلغ نقدي فيذهب إلى تاجر أو مؤسسة مالية أو بنك فيشتري منه سلعة معينة بثمن مؤجل ثم يقوم هذا المشتري طالب التورق ببيع هذه السلعة بثمن نقدي على غير من اشتراها منه، أي يبيعها لجهة أخرى غير المؤسسة أو البنك الذي اشترى العميل منه السلعة وذلك تجنباً لبيع العينة المحرم ثم يقضي بثمنها حاجته.
والتورق على هذا النحو قد جرى تطبيقه من قبل عدد من الشركات والمؤسسات المصرفية وذلك بعد أن تمت إجازته من قبل الهيئات الشرعية وعدد كبير من الفقهاء الموثوق في علمهم وأمانتهم وقد قامت هذه الهيئات بتحديد الخطوات والإجراءات الشرعية التي يجب على البنوك القيام بها لتحقيق المقتضى الشرعي لهذه المعاملة.
وعند بداية تطبيق التورق من قبل المؤسسات المصرفية كان يتم بواسطة السلع والمعادن الدولية، حيث كانت البنوك تشتري بعض المعادن من السوق الدولية ثم تتولى بيعها على عملائها ثم يقوم العملاء بدورهم بتوكيل البنوك بإعادة بيع تلك السلع وكالة عنهم وفي ذلك تحقيق ومراعاة لمصالح العملاء الذين ليس في مقدورهم السفر أو إيجاد جهة خارجية تتولى عنهم بيع تلك السلع وقيد ثمنها في حسابهم دون أن يتكبدوا خسائر كبيرة من جراء ذلك.
والواقع أن بعض طلبة العلم وبعض العملاء قد أشكل عليهم التعامل في المعادن والسلع الدولية وذلك لنقص الإجراءات الشرعية لتمام البيع والتأكد من صحته من حيث نقص المعلومات عن السلعة المشتراة وتعذر رؤيتها والتمكن من مباشرة المشتري التصرف بها، ولذلك فقد جرى منا التوجيه للمؤسسات التي تشرف عليها هيئاتها الشرعية بضرورة دفع هذا الإشكال عن طريق التعامل في السلع المحلية بدلاً من السلع الدولية، وهذا لا يعني أن التعامل في السلع الدولية محرم إذا كان البنك الذي يتعامل فيها يمتلكها ويقوم بوصفها وصفاً نافيا للجهالة لعملائه قبل أن يبيعها عليهم. غير أننا دفعاً لما استشكله طلبة العلم والعملاء فضلنا بأن يكون التورق بالسلع المحلية لما في ذلك من تحقيق لمصلحة الوطن من جهة وللتيسير على العملاء من التحقق من السلع التي يشترونها بتمكينهم من قبضها والتصرف فيها إن رأوا أن ذلك محقق لمصلحتهم.
والأمر لا يختلف سواءً كان التورق بالمعادن أو بالسلع المحلية إذ يجب في الحالتين أن يتملك البنك السلعة ثم يقوم ببيعها على عملائه، وهذا ما تقوم به البنوك التي نشترك مع هيئاتها الشرعية والذي تأكد لنا من القائمين عليها بأنه يقوم بشراء السلع المحلية من بعض الشركات الوطنية وهي شركات معروفة يمكن التحقق من شراء البنك السلع منها، وهذا في الواقع ينفي دعوى القائلين بأن البنك يجري التورق بسلع لا يملكها، حيث من الميسور اليوم أن يطلب العميل المشتري تسلم سلعته بعد أن يكون قد اشتراها من البنك ويتصرف بها وفق ما يراه.
قد يقول قائل بأن السلع التي يبيعها البنك على عملائه هي سلع غير معينة وهذا القول لا يشكل طالما أن السلع المبيعة موصوفة وصفاً نافياً للجهالة حيث إن من شروط البيع المتفق عليها أن يكون المبيع معلوماً للمشتري إما برؤيته أو بصفته، وفي بيع السلع على الصفة فينبغي أن يكون الوصف دقيقاً وواضحاً للمشتري لدفع دعوى الغرر والجهالة.
* تعتبر مسألة قبض المبيع قبل التصرف فيه إحدى المسائل التي يكثر حولها الجدل خاصة في المعاملات المصرفية المعاصرة، فمن الفقهاء المعاصرين من يرى بأن عمليات التورق التي تجريها البنوك لا يتحقق فيها القبض الشرعي، ومن ثم فهي من قبيل بيع المبيع قبل قبضه، ومنهم من يرى غير ذلك . لذا نرجو من فضيلتكم التكرم بإجلاء هذا الأمر حتى يكون الناس على بصيرة من أمرهم؟
** التصرف في المبيع قبل القبض يعد إحدى المسائل التي جرى فيها الخلاف بين الفقهاء منذ القدم فالشافعية والحنفية لا يرون جواز التصرف في المبيع قبل القبض، ويستثني الحنفية العقار من عدم الجواز باعتبار أن سبب التحريم عندهم إنما هو احتمال تلف المبيع أو هلاكه قبل القبض. بينما يذهب الشافعية إلى القول بعدم الجواز لعلة ضعف التملك قبل القبض ويستنتجون من ذلك أن النهي عن بيع المبيع قبل القبض أدعى إلى استقرار المعاملات.
وفي مقابل هذا الرأي يذهب المالكية والحنابلة إلى جواز التصرف في المبيع قبل قبضه ما لم يكن المبيع محتاجاً إلى توفية من كيل أو وزن أو عد أو ذرع، فإن كان المبيع عيناً معينة كسيارة أو نحو ذلك، فلا بأس ببيعه قبل قبضه، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وكذلك هو مذهب المالكية وقد أخذ به مجموعة من أهل العلم لاسيما من فقهاء العصر الحاضر، والله اعلم.
* فضيلة الشيخ من الموضوعات التي تثير الجدل موضوع التوكيل، حيث يقول بعض المفتين بعدم جواز التوكيل في عمليات التورق، فما رأي فضيلتكم في ذلك؟
** لا شك أن الوكالة من المسائل التي لا نعلم خلافاً بين الفقهاء في جوازها خاصة في مسائل المعاملات، فالبنك يجوز له أن يتوكل عن عميله، كما يجوز أن يكون العميل وكيلاً عن البنك، كما يجوز لغيرهما أن يكون وكيلاً عنهما. هذا من حيث الأصل. أما فيما يتعلق بمسألة التوكيل في بيوع التورق، فكما أشرت في إجابتي السابقة أن التورق عند بدء تطبيقه كان يتم عن طريق توكيل العميل للبنك ببيع السلعة التي اشتراها من البنك وسبق أن قلت أن ذلك قد أشكل على بعض طلبة العلم، ولهذا فإن ما يجري عليه العمل الآن في البنوك التي نشترك مع هيئاتها الشرعية، ومنها البنك الأهلي التجاري موضوع التساؤل، أن تتولى جهة أخرى غير البنك الوكالة عن العميل في بيع السلعة التي اشتراها العميل . وعليه فوفقاً لهذا الترتيب الاحتياطي لسلامة التورق من الشك في صوريـته فلا توجد الآن في عمليات التورق وكالة للبنك وإنما هي وكالة لطرف ثالث يقوم نيابة عن العميل بتولى البيع وقيد الثمن في حساب العميل وهذا الإجراء لا شك في جوازه سواء كانت الوكالة بأجر أم بغير أجر.
* فضيلة الشيخ من الموضوعات التي تقلق المؤسسات المصرفية والمواطنين على حد سواء ذهاب بعض المفتين الشباب إلى القول والتصريح بأننا قد علمنا بأن بنك كذا يفعل كذا من دون أن يعطي إثباتاً على ما يقول، فما رأي فضيلتكم في مثل هذا المنهج؟
** إن هذا الموضوع في الواقع جد خطير، حيث إن علاقتنا نحن طلبة العلم الشرعي مع المؤسسات المصرفية وغيرها ينبغي أن تقوم على أساس النصح والتناصح وليس على أساس التشهير والتشكيك في النوايا والمقاصد، فواجبنا أن نقدم لها النصح الذي يعينها على الالتزام الشرعي وهي بذلك تساعد الناس وتعينهم على قضاء احتياجاتهم بأسلوب شرعي. ولهذا فإني أنصح كل من يتبع هذا المنهج أن يتذكر قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع. وعلينا أن نتبع المنهج الشرعي في تغيير ما نراه من منكر، فإن كنا نرى أن أحد المصارف يقوم بتطبيق فيه إشكال وشك فعلينا أن نتصل بإدارته أو بهيئته الشرعية، ونستوضح منهم الأساس الشرعي الذي يعتمدون عليه في تطبيقهم، بدلاً من القول عنهم أقوالاً مبنية على الظن والتجسس، فالله سبحانه وتعالى يقول:
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ| }الحجرات12).
وقال تعالى: }وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً| (الإسراء36).
ولنا في رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أنكر على أحد من أصحابه شيئاً قال: «ا ما بال أقوام يقولون كذا أو يفعلون كذا» ولا يصرح صلى الله عليه وسلم بأسماء أشخاص مراعاة لمشاعرهم وأحاسيسهم.